كان هُنا نهر، وكانت تربط ضفتيه جسور بدائية صنعت من الخشب. كان شريان حياة المدينة وسبباً للاستقرار فيها. أطلقت الحداثة الرصاص على النهر الذي سقط مضرجاً بالإسفلت والاسمنت.
شارع «سقف السيل»
غُيِّرت المدينة. عبث العمّانيُ بقلب مدينته، ليتحول سقف النهر الذي كانت المياه تتدفق غزيرة في مجراه، باعثة الحياة في الاشجار التي تحفه على الجانبين، الى مسرحِ اسفلتي للتدفق الفوضوي للسيارات وسط غابة من المباني الإسمنتية التي تخنق جانبي الطريق.
كانت الخطوة الاولى لنهر عمّان تبدأ من رأس العين، ذلك النبع الغزير الصاخب، كما يصفه عبد الرحمن منيف في روايته «سيرة مدينة» (عمّان في الأربعينيات)، وتتواصل خطوات النهر قاطعاً الوادي كله بين التلال والجبال، مستقبلاً في رحلته كمّاً متزايداً من المياه التي ترفده من الينابيع الكثيرة على جانبيه. كانت الرحلة تمتد به ليلتقي بنهر مدينة الزرقاء (20 كيلومتراً شمال شرق عمّان)، حيث يتحد الاثنان ويتابعان رحلتهما وصولاً الى نهر الاردن. لم يبق من الرحلة سوى الذكريات. العام 1953، بدء العمل على تغير مجرى النهر استجابة للنمو الطبيعي لمدينة عمّان. شُرع يومها بتغطية النهر بسقف خرساني وإسفلتي تم إنجازه على مراحل، انتهى آخرها العام 1982 ليختفي النهر تماماً. لم يبق من ذكره سوى الاسم الذي أطلق على الطريق الذي احتل مجراه: «سقف السيل».
من «سبيل الحوريات» الى مدينة الجفاف
كما المدن العريقة التي قامت الحياة على ضفاف أنهارها وبحيراتها، قامت الحياة في عمّان، التي أطلق عليها حين أنشئت في العصور السحيقة «مدينة المياه». والمياه ايضاً كانت أحد أهم الأسباب لإعادة تأسيسها في العصر الحديث. وعمّان البعيدة عن البحار والبحيرات عرفت منذ القدم بالعدد اللانهائي من عيون المياه التي تتفجر من بين تلالها السبعة. عيون كانت تكفي سكان المدينة حاجتهم وتتيح للفائض أن ينساب عبر وديانها نهراً.
كان النهر لسكان المدينة وغُزاتها في الماضي طقساً ونمط حياة. فعلى احدى ضفافه، وتحديداً عند نقطة التقاء مياه ينابيع رأس العين مع مياه ينابيع شارع الملك طلال (حالياً)، وينابيع شارع السلط (حالياً)، شيد الرومان في القرن الثاني الميلادي، «سبيل الحوريات»، وهو مكان للاستحمام والاغتسال.
مدينة المياه الجوفية يصف عبد الرحمن منيف نهرها في أربعينيات عمّان، فيقول: «ليس هناك أروع ولا أخطر من منظر هذه المياه، خاصة لمن يراها لأول مرة. انها تتدفق بغزارة، وكأن أحداً يدفعها، بل أكثر من ذلك، تضحك وهي تندفع، وتضحك بطريقة أقرب إلى العربدة، فها قد بدأت رحلتها البرَّاقة الحافلة في هذه الحياة، بعد أن طال سجنها وانتظارها في باطن الأرض».
ويرصد منيف مشهداً لفيضان النهر في أربعينيات القرن الماضي، والذي كان يعرف الغضب عندما ينهمر المطر غزيراً، ويعجز مجراه عن تصريف المياه، فيزداد عرضه رويداً. وكما يصفه منيف، يغادر سريره ليطغى على البساتين حوله من الناحيتين.
يومها كانت ساحات وأسواق عمّان تتحول الى بحيرة. طغت المياه على المتاجر وأغرقتها، وكما يبتهل الناس في أيام الجفاف الى الله لينزل المطر، ابتهل العمّانيون الى الله ليوقف المطر ويُلجِم النهر الغاضب. اليوم، في زمن اللانهر، لا يعرف العمّانيون سوى الابتهال إلى الله لينزل المطر الذي يأتي شحيحاً، وينتهي به المطاف الى الجريان في شبكات الصرف الصحي. يعطش العمانيون كل عام، ينتظرون دورهم لوصول المياه عبر الشبكات المتهالكة التي انضبت يوماً بعد يوم عيون المياه الموشكة على الانقراض، ليقترب يوماً بعد آخر إعلان عمّان مدينة جافة.
من اغتال النهر؟
ليست محاكمة لإدانة القاتل، فمن اغتال النهر ليس شخصاً بعينه أو عاملاً واحداً يتحمل مسؤولية الاغتيال. تكالب القتلة وسددوا الرصاص دفعة واحدة ليسقط النهر.
تحالف الانسان مع الطبيعة على الأزرق الذي قسم عمّان الى قسمين. التغيرات المناخية وتراجع سقوط الامطار أديا الى زيادة الاعتماد على المياه الجوفـية التي اصبـحت مطارَدة نتيجة الزيادة الهائلة في أعداد القاطنين في المدينة.
عمّان، لم يزدد عدد سكانها على ستين ألفاً في أربعينيات القرن الماضي، وفقاً لإحصائيات رسمية، وهو عددُ كانت مياه المدينة تكفيهم وتفيض نهراً. وفي اعقاب نكبة 1948، ومع دخول اللاجئين الفلسطينيين، بدأ الضغط على المياه، وبدأت المدينة تعرف العطش. ثم حدث الوفود الى المدينة من المدن الاخرى والارياف والمناطق البدوية، فراح العطش يزيد مع زيادة عدد قاطنيها والذي يربو اليوم على المليونين ومئتي الف نسمة، وفق أرجح الإحصائيات.
تآمر الانسان على نهر عمّان الذي كانت تغذيه المياه الجوفية عندما اقدم العمَانيون على استيطان سفوح الجبال التي طرزت سريعاً بالإسمنت والإسفلت. وهو ما وقف حاجزاً أمام تغذية المياه الجوفية التي تتناقص وفقاً لدراسات وزارة المياه والري بمعدل متر سنوياً. انتهى النهر بأربع رصاصات قاتلة سددها التغير المناخي، والزيادة السكانية، وزيادة الطلب على المياه، والنمط العمراني. عمّان لم تعد مدينة المياه، وخجلاً لم يطلق عليها حتى الآن مدينة العطش أو الجفاف!