من أجل "العلم بالشيء"، كشفت مؤخراً "لجنة العمل والشؤون الإجتماعية" في البرلمان العراقي عن تجاوز عدد العاملين الأجانب في العراق الـ 800 ألف شخص، ولفتت النظر عبر أحد أعضائها الى ما يعرفه الجميع أصلاً: الفساد المصاحب لعملية إدخال العاملين الأجانب. وليس هذا سراً (على الرغم من سريته المتناهية!)، فقد أصبح العراقيون، متعددو الاعتقادات والأديان ومختلفو الانتماءات، متفقين على شيء واحد يؤمنون به ويستسلمون له، وهو أن الفساد أغرق مفاصل الدولة وتغلغل الى بواطنها.
وكما أخبار الموت، لم يعد العراقي يهتز لأخبار صفقات الفساد، ولن تهزه مآسي المنصوب عليهم من الأجانب الذين يقعون في شباك الاستغلال أو يأخذون "فرصته" للحصول على عمل مهما كان منخفض الأجر..
يسافرون الى الجحيم
على أرض مطار أربيل الدولي في إقليم كردستان، هبطت الطائرة أواسط العام 2018، ومؤكد أن راكبتَيها، التنزانية (م. ن. 24 عاماً) والأوغندية (ب. ر. 19 عاماً)، كانتا تريان ما خلف النافذة البيضوية وردياً، وكذلك بقيتا لحين وصلتا الى بغداد، إذ بيعتا في صفقة من الشركة التي استقطبتهن الى شركة تشغيل أخرى. وبدورها لم تتأخر الشركة البغدادية حتى باعت الفتاتين لأحد المسؤولين الذي لم يكشف المرصد العراقي لضحايا الإتجار بالبشر عن اسمه، فبدأتا العمل في منزله الواقع في المربع الرئاسي في منطقة الكرادة، الى أن هربتا في نيسان/ إبريل 2019، متجهتين الى السفارة الأميركية في بغداد.. لكن الإجراءات الأمنية حالت دون دخولهما إليها.
في المقابلات معهما، تبين أن الفتاتين تعرضتا للاغتصاب والتعنيف من قبل خمسة أشخاص بينهم ابن "المسؤول" صاحب البيت، وأفراد من حمايته. وثّق المرصد انتهاكات أخرى تعرضتا لها. وهو يعمل (حسب أحد الموظفين فيه) على حماية الفتاتين من هذه العائلة، لمحاولتها إعادتهما الى منزلها بطرق عدة.
كما صار مشهداً مألوفاً أن يقدِّم لك شاب أجنبي الماء في مقهى، أو حتى أن يبيع لك البقالة في أحد الدكاكين. وغالباً ما يكون الشاب من شرق آسيا. يُجمع أصحاب المشاريع الذين يستقدمون عُمالاً أجانب على تفاني هؤلاء في العمل، ويعترف البعض منهم بأسباب أخرى لاستقدامهم كانخفاض أجورهم أو قبولهم العمل لساعات مضاعفة.
نفاد تأثير الألم
في التقاطعات المزدحمة على مدار اليوم العراقي، تحجب أسراب المتسولين والباعة المتجولين كثير من المشاهد. يحاصرون العجلة التي تركبها، أحدهم ينظف زجاجها وآخر يطرق زجاج الجهة الأخرى، وآخرون يستعرضون مآسيهم في تكرار لا نهائي. تلفت نظرك لهجة مغايرة، لهجة اعتدت سماعها والتغزل بإيقاعها عبر التلفاز. غالباً هي لشابة سورية دفعها الموت والخراب الى خراب آخر. كما أنك تسمع هذه الموسيقى اللفظية في بعض المطاعم المتخصصة بتقديم الأكلات السورية، يتلوها عليك شخص أكثر حظاً من تلك التي صادفتك عند التقاطع.
هناك نحو 2.5 مليوناً عاطلين تماماً عن العمل. وهناك حوالي 8 إلى 9 مليون عامل في القطاعات غير النظامية، وليسوا مشمولين بالحماية الاجتماعية أو الضمان والتقاعد، و31 في المئة من القوى العاملة العراقية فقراء (دخل الفرد منهم أقل من 3 دولار يومياً).
في الحقيقة، يضيق سوق العمل في العراق مع تنامي السكان غير المسيطر عليه، إذ وصل عدد الولادات الجديدة في عام 2018 وحده لما يقرب المليون وليد. وهناك أيضا مشكلات أخرى لا رؤية واضحة عند الحكومات العراقية لحلها، ليس أكبرها التشوه الذي يعانيه الاقتصاد العراقي، وربما أعمّها ريعية هذا الاقتصاد. فالعراق يعتاش على ما يدره بيع النفط - حسب وزارة التخطيط العراقية، فإن86 في المئة من إيرادات العراق تأتي من القطاع النفطي، تذهب أغلبيتها لاستيراد السلع من الخارج.
مستقبل أكثر ظلاماً
في فوضى الاقتصاد العراقي، يمثل ضبط سوق العمل وتوفير وظائف للعاملين مشكلة كبرى، تتفق أحزاب السلطة على التغاضي عن خطورتها، وهي مشكلة تتعاظم مع السنوات. فالعراق هو من البلدان الأكثر شباباً، 60 في المئة من سكانه دون سن ال25 عاماً، و50 في المئة من هؤلاء دون سن ال 19 (عدد سكان العراق وفق احصاء 2018 هو 38 مليون نسمة). وهناك نحو 2.5 مليوناً عاطلين تماماً عن العمل، مع عجز الجهات الرقابية عن احصاء العاملين في وظائف "هشة" أو من هم في بطالة مقنّعة. لكن النقابات العماالية تعتقد أن حوالي 8 إلى 9 مليون عامل يعملون في القطاع غير النظامي، وليسوا مشمولين بالحماية الاجتماعية أو الضمان والتقاعد، وأن 31 في المئة من القوى العاملة العراقية فقراء (دخل الفرد منهم أقل من 3 دولار يومياً).
يضاف لهذه الطوابير من العاطلين العراقيين الـ800 ألف عامل أجنبي، أكثر من 140 ألفاً منهم دخلوا العراق من دون تصاريح عمل في 2018 وحدها. ومن زوايا المشكلة التي توجهت أصابع نقد اللجنة النيابية نحوها، أن منح تصاريح عمل للأجانب هو من صلاحيات وزارة الداخلية، التي غالباً من تسمح لهؤلاء بالدخول الى البلاد في "تأشيرة زيارة"، ثم تتولى بعد انتهاء مدة الفيزا الممنوحة تسوية أوضاع بعضهم وإبعاد البعض الآخر. وحسب اللجنة، فمن الأجدى أن تتولى وزارة العمل والشؤون الإجتماعية هذه المهمة.
ولا يفوت المشهد أن في الطوابير التي لا تعرف ما الذي تنتظره من الغد، نحو 250 ألف لاجئ سوري يفتقر الأغلب منهم لفرص العمل.