أشعار الفيتوري: رايات وطبول تزاحم آفاق ثورة السودان

تداول الناشطون فيما بينهم مقاطع من أشعار الفيتوري خلال أشهر ثورتهم الحالية، يستمدون منها الثبات في مواجهة البطش والقهر، وهو القائل "أمس قد مر طاغية من هنا / نافخا بوقه تحت أقواسها / وانتهى حيث مر"..
2019-05-02

عبد الله الشيخ

صحافي من السودان


شارك
رسم طلال ناير - السودان

تزامنت ذكرى رحيل الشاعر محمد مفتاح الفيتوري (في نيسان/ أبريل 2015) مع بعث جديد لشعر هذا الثائر الإفريقي.. وكأنه بعد أربعة أعوام من سكونه يقوم من مرقده مهرولاً في شوارع الخرطوم متلمساً مكان الحشود ليشاركهم الفرح الغامر بثورتهم، وهو القائل:

مثلي أنا ليس يسكن قبراً
لا تحفروا لي قبراً
سأرقد في كل شبر من الأرض..

ويجد الشاعر نفسه يرقص على أنغام "معزوفة لدرويش متجول"، تحمله أكتاف الثوار وتغمره زغاريد كنداكات السودان.. وهن وهم يرددون أجمل ملاحم الفيتوري التي ظللت سماوات ثورات السودان وإنتفاضاته الثلاث:

أصبح الصبح ولا السجن ولا السجان باقٍ
وإذا الفجر جناحان يرفان عليك
وإذا الحسن الذي كحل هاتيك المآقي
التقى جيل البطولات بجيل التضحيات
التقى كل شهيد قهَر الظلم ومات
بشهيد لم يزل يبذر في الأرض بذور الذكريات..

يتكرر في هذه الأيام ذاك العنفوان الذي كسر أغلال القيود وأزاح الطغاة من عروشهم، وتعود المشاهد نفسها لحشود في ذات "الإبريل" الذي شهد قبل أكثر من ثلاثة عقود إنتصار إرادة السودانيين في إنتفاضة 1985، ويعود الفيتوري ليشنف آذان التوّاقين إلى عهد جديد بأشعاره التي جسدها أداء مهيباً للموسيقار محمد وردي:

في زمن الغربة والارتحال
تأخذني منك وتعدو الظلال
وأنت عشقي
حيث لا عشق يا سودان
إلاّ النسور الجبال
يا شرفة التاريخ
يا راية منسوجةً
من شموخ النساء
وكبرياء الرجال

مقالات ذات صلة

لم يتأخر الفيتوري عن نضال الثورة، ولم يكتف ببعث روحه من مرقدها مهنئة ومبارِكة بـ"ساعة النصر عند إكتمال الهلال"، بل كان له قصب السبق في أدب المقاومة ورفض الظلم والإعلاء من شان الإنسانية. فأشعاره التي حملتها أربعة دواوين عن إفريقيا كانت صرخات الزنجي الذي "يزاحم براياته وطبوله الآفاق". وهي تلهب الحماس في شرايين الشباب الثائرين:

يا أخا أعرفه.. رغم المحن
إنني مزقت أكفان الدجى
إنني هدمت جدران الوهن
لم أعد مقبرة تحكي البلى
لم أعد ساقية تبكي الدمن
لم أعد عبد قيودي
لم أعد عبد ماض هرم ..

ولكم تداول الناشطون مقاطع أشعار الفيتوري فيما بينهم خلال أشهر ثورتهم الأربعة، يستمدون منها الثبات في مواجهة البطش والقهر، وتملأ جوانحهم باليقين الذي يجعلهم كالجبال لا تتزحزح. لذلك خرجوا إلى الشوارع مرفوعي الجبين:

يا أخي في كل أرض عريت من ضياها
وتغطت بدماها
يا اخي فى كل ارض وجمت شفتاها
واكفهرت مقلتاها
قم تحرر من توابيت الأسى
لست لأعجوبتها
أو مومياها انطلق
فوق ضحاها ومساها

ولم ينس الفيتوري الشهداء، فكانت لهم منازلهم في أشعاره التي فاضت وفاء وتقديراً لهم وهم "يوسّدون رؤوسهم في التراب المقدس"وقد حفظ السودانيون الابيات التي نحتها بحق من فاضت أرواحهم:

فداً لعينيك الدماء التي خطّت على الأرض
سطور النضال
داست على جلاّدها وهي في سجونه
واستُشهدت بجلال

قبل ذلك كله اتفقت رؤية الفيتوري مع الثائرين في تشخيص ما وصل إليه حال البلاد، ووضع توصيفاً دقيقاً لما يفعله الطغاة الجاثمين على صدور الشعوب كرهاً، ونجح في رسم المشهد كله في أبيات معدودة:

قد مر طاغية من هنا ذات ليل
أتى فوق دبابة
وتسلق مجدا
وحاصر شعبا
غاص في جسمه
ثم هام بعيدا
ونصب من نفسه للفجيعة ربا..

ولم يكتف شاعرنا بهذا التوصيف، العميق والمبسط في آن، فتوقع مآلات من يحاول أن يبني أمجاد متوهمة، سالباً شعبه حريته وحقه في عيش كريم، ومن يريد ان يكتب لنفسه تاريخاً ليكون بديلاً لحضارة أمة عريقة. لخّص الفيتوري كل تلك المعاني في ثلاثة أبيات:

أمس قد مر طاغية من هنا
نافخا بوقه تحت أقواسها
وانتهى حيث مر

عبّر شعر الفيتوري عن حبه المفرط لبلاده، شأنه شأن الثائرين الشباب اليوم. وعلى الرغم من غربته في وقت مبكر وترحاله بعيداً عنها، إلا أنها كانت حاضرة في لقاءاته وذكرياته وانفعالاته. لم يتنكر للأرض التي غرسته وقدمته إبناً باراً للقارة السمراء..

هذه الأرض التي أحملها ملء دمائي
والتي أنشقها ملء الهواء
والتي أعبدها في كبرياء
هذه الأرض التي يعتنق العطر عليها والخمول
والخرافات وأعشاب الحقول
هذه الأسطورة الكبرى.. بلادي

وعلى هذا فإن الرمزية التي اكتست بعض أشعار الفيتوري يمكن أن تكون لها مدلولاتها الوطنية في القاموس الثوري وإن كانت في ظاهرها عاطفية. وهو قال في إحدى حواراته " الكلمة اللغوية لا تكون كلمة شعرية إلا بالاختيار، وعلاقتها كموسيقى لفظية بالتيارات الموسيقية النفسية التي تتفجر بها أعماق الشاعر لحظة تبنيه للتجربة الإنسانية أو الاجتماعية المعاشة. إنها المعادل المادي لبذرة حبة تسقط من أعماق اللاشعور لتأخذ مزاجها الخاص في مناخه".

في حضرة من أهوى
عبثت بي الأشواق
حدقتُ بلا وجه
ورقصت بلا ساق
وزحمت براياتي وطبولي الآفاق
عشقي يفني عشقي
وفنائي استغراق
مملوكُك.. لكني
سلطان العشاق.

مقالات من السودان

"بوصلة" القاهرة السودانية: جولة أفق

معتز ودنان 2024-09-21

بعد مرور 17 شهراً على اندلاع المواجهات المسلحة في السودان، كيف يمكن تقييم الدور المصري؟ وهل كان على الحياد المطلق؟ أم أن السودان ليس إلا ساحة مستباحة للقاهرة، لتصفية حساباتها...

للكاتب نفسه