"الريع الأمني": مثال البحرين

تتأثر البحرين أكثر من غيرها من بلدان الخليج العربي من انخفاض سعر النفط الخام. فبسبب قلة إنتاجها النفطي وضعف صناديقها السيادية والسوء المزمن في إدارة اقتصادها وهدر مواردها المحدودة، تكرَّس اعتماد اقتصادها على المعونات والاستثمارات الخليجية.
2015-10-22

عبد الهادي خلف

أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة لوند ـ السويد، من البحرين


شارك
محمد الشمري - السعودية

تتأثر البحرين أكثر من غيرها من بلدان الخليج العربي من انخفاض سعر النفط الخام. فبسبب قلة إنتاجها النفطي وضعف صناديقها السيادية والسوء المزمن في إدارة اقتصادها وهدر مواردها المحدودة، تكرَّس اعتماد اقتصادها على المعونات والاستثمارات الخليجية. هذه التبعية المركّبة تجعل البحرين أول من يعاني من انكماش واردات بلدان المنطقة الأخرى واضطرارها لتخفيض ما تقدمه لها من معونات أو استثمارات.

تواجه العائلة الحاكمة في البحرين وضعاً لم تعْهده في السابق. فقد انكمشت القدرات المالية للسعودية والدول الخليجية الأخرى بسبب تقلبات أسواق النفط وتصاعد الإنفاق العسكري على استيراد الأسلحة، علاوة على ما تستنزفه حرب اليمن وتمويل نزاعات أخرى في المنطقة. لهذا تتجه البحرين إلى الأسواق المالية للحصول على قروض جديدة. فقبل أشهر حصلت الحكومة على مصادقة البرلمان على رفع سقف الديْن العام من 13 مليار دولار إلى أكثر من 18 مليارا ونصف مليار دولار، ما يعني أن نسبة الديْن العام سترتفع من 46 في المئة من قيمة الناتج الإجمالي المحلي في نهاية 2014، إلى 70 في المئة في العام المقبل.

وعلاوة على القروض الداخلية والخارجية، فقد لا تجد العائلة الحاكمة مفراً من السعي لإدامة ما يمكن تسميته بـ "الريع الأمني"، أي الدعم المالي واللوجستي الذي تقدمه بقية العوائل الحاكمة لها، والذي سهّل في السابق امتصاص أعباء الأزمات الاقتصادية. وللحصول على الريع الأمني اهتم المسؤولون البحرينيون طيلة العقود الماضية بإبراز بلادهم كـ "خط أمامي" في مواجهة عدو مشترك "يحوك المؤامرات ويجند الإرهابيين ويحرّك المعارضة الداخلية فيها" (أُعطيت إيران منذ سقوط الشاه هذا الدور بدلاً من الحركات القومية والتنظيمات الشيوعية). وفي هذا الصدد، قد تجد العائلة الحاكمة في البحرين أنها في حاجة إلى أكثر من الكشف عن مخبأ آخر لأسلحة ومتفجرات كما ظلت تفعل منذ 1971.

أزمة بلا مخرج

في يومين متتاليين، أصدرت السلطات البحرينية أربعة قرارات متفرقة، ولكنها معاً تضيء جوانب عدة من الوضع السياسي الراهن وتشير إلى احتمالات التغيير فيه. ففي 30 أيلول/سبتمبر، نشرت وسائل الإعلام البحرينية قرارين رسمييْن، أولهما يعلن عن تعديل وزاري طفيف احتفظ فيه رئيس الوزراء (عم الملك) بمنصبه على رأس الجهاز التنفيذي (وهو منصب يتولاه منذ 1968)، كما حافظ نواب رئيس الورزاء الخمسة ووزراء الوزارات السيادية على مناصبهم. وتضمن القرار الثاني الإعلان عن الكشف عن مخبأ للمتفجرات تحت الأرض في أحد المنازل، وعن ضبط موقع آخر في القرية نفسها يستخدم كورشة لتصنيع القنابل. وفي مطلع الشهر الجاري، نشرت وسائل الإعلام قراريْن حكوميين آخرين، أعلن أولهما طرد القائم بأعمال السفارة الإيرانية لدى البحرين وسحب سفير البحرين لدى طهران. وفصّل البيان سلسلة أسباب للقرار من بينها "استمرار التدخل الإيراني في شؤون البحرين". أما القرار الثاني فتعلق بالبدء في إجراءات "رفع الدعم الحكومي للحوم"، أي تنفيذ قرارات سابقة تأجلت في الأشهر الماضية بسبب الخشية من ردود الأفعال الشعبية.

من حكومة مصّغرة إلى تعديل وزاري طفيف

حسم إعلان التعديل الحكومي جدلاً علنياً محتدماً شغل الساحة السياسية والإعلامية طيلة الفترة التي تلت إعلان الملك في منتصف أيلول/سبتمبر الماضي عن نيته "تشكيل حكومة مصغرة يتولى إدارتها ولي العهد بهدف التعاطي مع تطورات الأوضاع المالية بسبب تقلبات أسعار النفط". الجدل أبرز وجود اتفاق عام على ضرورة "الحكومة المصغرة" لتقليص الهدر الحكومي، إذ لا تحتاج دولة صغيرة كالبحرين لمجلس وزراء يضم 23 وزيراً منهم 5 نواب لرئيسه، بالإضافة إلى ما يقارب الستين مستشاراً بمنصب وزير.

صوّر أنصار الملك "الحكومة المصغرة" كالدواء الشافي من كل العلل. فهي من جهة ستكون أداة لتفادي الآثار الداهمة لانخفاض سعر النفط على الوضع الاقتصادي في البلاد، ومن جهة أخرى ستكون بداية "لوقف الهدر وغيره من العوامل التي تؤخر مشروع الإصلاح الاقتصادي وتحقيق التنمية المستدامة في البحرين".

ما لم يتعرض له الجدل العلني هو الخلاف المزمن بين الملك وعمِّه رئيس الوزراء، وكذلك بين أنصارهما في العائلة الحاكمة. الخلافُ لا يتعلق بشكليات الحكم ورمزياته بل على مَن مِنهما يضع تفاصيل السياسة الاقتصادية ومَن مِنهما يتحكم بتوزيع موارد البلاد الاقتصادية، بما فيها المساعدات المالية التي تقدمها الإمارات والسعودية والكويت إلى البحرين. بفشل ملك البحرين في تشكيل حكومة مصغرة يديرها ولي عهده، تفشل محاولة أخرى من بين محاولاته الدورية التي بدأها منذ توليه الحكم في 1999 للالتفاف على عمِّه وتقليص سلطاته.
مخبأ الأسلحة و "مشغل القنابل المحلية الصنع"

لا تشكل إعلانات أجهزة الأمن عن اكتشاف مخابئ أسلحة أو إحباطها محاولات تهريبها مفاجأة لمتابعي الوضع في البلاد. فلقد تكررت هذه الإعلانات دورياً طيلة أكثر من أربعة عقود، منذ استقلال البلاد في 1971. وتتزامن هذه الإعلانات عادة مع كل حراك احتجاجي لقوى معارضة أو كلما احتدمت الخلافات الداخلية بين أطراف متنافسة في العائلة الحاكمة نفسها. تغيرت خلال العقود الماضية صيغتها وتفاصيل الأسلحة المخبأة أو المهربة. وفي السنوات العشر الأخيرة، لم يخلُ أيٌ من بيانات وزارة الداخلية من الكلمات التي أصبحت لازمة لاسترعاء اهتمام الإعلام الخارجي من قبيل: "جماعات إرهابية"، "عبوات مصنعة محلّياً"، علاوة على الإشارات المباشرة إلى دور إيران.
بسبب غياب أيّة إمكانية للتحقق عبر جهة مستقلة من مدى صحتها، ينقسم موقف البحرينيين من بيانات وزارة الداخلية، فيصدقها أغلب الموالين ويشكك فيها أغلب المعارضين.

إلغاء دعم اللحوم

بعد أشهر من الأخذ والرد وتأجيل التنفيذ، أعلنت السلطة إلغاء الدعم الحكومي للحوم بهدف تقليص الإنفاق لمواجهة انخفاض أسعار النفط وتراجع إيرادات الميزانية. تشير التوقعات الرسمية إلى أن قرار إلغاء الدعم سيوفر في ميزانية الدولة ما بين 58 و77 مليون دولار في السنة الأولى. يضاف إلى ذلك ما ستوفره قرارات أخرى متوقعة بإلغاء الدعم عن خدمات ومواد استهلاكية، بما فيها الوقود والكهرباء. إلا أن مجموع كل ذلك لن يحد من استمرار ارتفاع العجز في الميزانية الذي يُتوقع وصوله إلى أكثر من أربعة مليارات دولار في العام المقبل.

حاولت السلطات البحرينية، عبر إعلامها الرسمي، تسويق رفع الدعم باعتباره قراراً وطنياً يحافظ على موارد البلاد لأنه سيؤدي إلى عدم استفادة المقيمين الأجانب من أموال الدعم. وللوصول إلى ذلك، سيحصل المواطنون على تعويضات مالية عليهم التقدم بطلب من أجلها (يحصل رب الأسرة الرجل على ما يعادل 13 دولارا شهريا وتحصل كل واحدة من زوجاته وأولاده وبناته البالغين على 9 دولارات شهرياً، وأقل من ذلك للأطفال الصغار). نتج من قرار إلغاء الدعم ارتفاع سعر اللحوم الحمراء إلى أكثر من ثلاثة أضعاف سعرها السابق، وهو ما يفوق القدرة الشرائية لأغلب الناس الذين امتنعوا عن شرائها، ما أدى إلى إيقاف العمل في أسواق بيع اللحوم. وكعادتها، لجأت السلطات إلى توجيه الاتهامات إلى المشككين بنياتها وبأهداف إجراءاتها، واعتبار المقاطعة الاستهلاكية جزءا من نشاطٍ مشبوه.

إحدى النتائج غير المتوقعة لإلغاء الدعم هي أنّه، لأول مرة منذ انتفاضة دوار اللؤلؤة في شباط/فبراير 2011، أُصيب جميع المواطنين بهمٍّ مشترك يمكنهم التضامن على أساسه. إلا أن هذا لا يعني إزالة الجدار العازل الذي بنته العائلة الحاكمة بين مؤيديها من جهة ومعارضيها من الجهة الأخرى. فما زال الطريق طويلاً وما زالت القوى السياسية القادرة على إزالته بعيدة عن محاولة التصدي لتلك المهمة.

طرد القائم بأعمال السفير الإيراني

توقيت إعلان الكشف عن مخبأ الأسلحة وورشة القنابل المحلية الصنع جاء قبل ساعات من مشاركة وزير خارجية البحرين في اجتماع لوزير الخارجية الأميركي جون كيري مع وزراء خارجية بلدان مجلس التعاون الخليجي في نيويورك. كرّر الوزير في ذلك الاجتماع، وفي خطابه باسم البحرين أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، اتهم إيران بالوقوف وراء الحركة الاحتجاجية في البحرين. واستند إلى بيانات حكومته ليساوي بين مسيرات المعارضين السلمية في شوارع البحرين والعمليات التي تقوم بها المنظمات الإرهابية في بقية بلدان المنطقة. تزامن ذلك مع تركيز الإعلام الرسمي على حشد الرأي العام المحلي لتأييد "شجاعة" حكومة البحرين وقرارها بالوقوف، رغم صغرها، بوجه إيران. وانشغل أعضاء المجلسين النيابي والشورى، وخطباء الجمعة وقادة الجمعيات السياسية الموالية، بالترويج لقرار الحكومة وطالبوا "بموقف خليجي موحد بقطع العلاقات الديبلوماسية مع إيران". إلا أن تلك المطالبات، بالإضافة إلى جهود وزير خارجية البحرين وغيره من المسؤولين في إقناع بقية الدول الخليجية بسحب سفرائها لدى طهران.. لم تؤدِ إلى أكثر من بيانات التضامن.


وسوم: العدد 156

للكاتب نفسه

خيبة م ب س الاقتصادية

كان النزاع المدمر على سوق النفط، ودور السعودية - وبخاصة محمد بن سلمان- في تأجيجه، مقامرة وحماقة في آن. فإن كانت السعودية تخسر 12 مليون دولار يومياً مقابل كل دولار...