بدا واضحاً منذ اليوم الأول (26/3) لبدء عملية "عاصفة الحزم" على اليمن، التي شنتها السعودية على رأس تحالف خليجي، أنها مبنية على خطة "مُسَعْودة" عن الخطة الحربية التي وضعها الجنرال شوارزكوف في بداية 1991 تحت اسم عملية "عاصفة الصحراء" ("حرب تحرير الكويت"). اعتمدت خطة شوارزكوف على القصف الجوي المستمر والكثيف (أكثر من ألف غارة يومية) بهدف تدمير القدرات العسكرية العراقية والبنى التحتية المدنية وإزالة أية معيقات محتملة للاجتياح البري الذي لاحق القوات العراقية المنسحبة من العراق.
حربٌ محكومة بالفشل
استسهل الأمراء السعوديون إعلان الحرب بعد أن "ترجموا" خطتها، ولم يتخيلوا أن يعجزوا عن الانتصار فيها. ولم يكن مستغرباً موقف الأمراء السعوديين وأمراء بقية بلدان الخليج العربي. ففي بلدانهم، لا يجرؤ كبار القادة العسكريين ولا المحللين الاستراتيجيين على الاعتراض على قرارات أمير أو شيخ، ناهيك عن انتقاد أمر ملكي. فلا يصل إلى تلك المناصب من خارج العوائل الحاكمة سوى من تعلم معاني المثل الدارج: "الشيوخ أبخص"، أي أن الشيوخ يعرفون ما لا نعرف. لهذا لم يجرؤ أحدٌ على الإشارة إلى أن الخطة الحربية المُسعْودة ستكون مكلفة ولن تحقق أهدافها لأنها تحمل في داخلها العوامل ذاتها التي أدت وتؤدي إلى فشل معظم محاولات السعودة (أو الخلجنة أو البحرنة..الخ) في مجالات أخرى. ومن أبرز الأمثلة هو الفشل المتكرر لمحاولات سعْودة سوق العمل، وهي محاولات تقوم على استنساخ تجارب ناجحة في بلدان أخرى، دون اعتبار لاختلاف الظروف والإمكانيات والبيئة الثقافية والسياسية. وفوق ذلك، توضع مشاريع السعودة، سواء تعلقت بسوق العمل أو بالرياضة أو بالحرب، تحت إمرة شيخ أو أمير لا يملك من المؤهلات والتدريب سوى انتمائه لعائلته.
لم تأخذ سَعْودة خطة شوارزكوف في الاعتبار عدداً من الفروق بين "عاصفة الصحراء" في1991 والحرب اليمنية في 2015. ومن بينها أنّ الأولى كانت حرباً تشنها جيوش تحالف دولي بقيادة دولة عظمى ضد جيش دولة تابعة يحتل دولة أخرى، بينما الحرب الراهنة يشنها تحالف دول تابعة لترجيح كفة طرف موالٍ لها يخوض حربا أهلية. من جهة أخرى، كان الفاعلون الأساسيون في حرب الكويت، وفي مقدمهم الولايات المتحدة، يمتلكون القدرة والحرية على الحركة والمناورة من دون الخضوع لتأثير أطراف أخرى. لا تمتلك السعودية وبقية دول الخليج المشارِكة في حرب اليمن حرية الحركة والمناورة، ولا القدرة والمشيئة على تحدي إرادة أطراف دولية معنية كالولايات المتحدة الأميركية. ومن جهة ثالثة، كانت "حرب تحرير الكويت" بقيادة عسكريين مؤهلين أكاديمياً ولهم خبرات ميدانية وقيادية. وهذا ما لا يتوفر لقائد التحالف السعودي، محمد بن سلمان.
التزمت النسخة السعودية من خطة شوارزكوف بتكثيف القصف الجوي الذي شاركت فيه طائرات حربية تابعة للبحرين والإمارات، علاوة على السعودية. ونجحت كثافة الغارات الجوية (بمعدل مئة غارة في اليوم) في تدمير مخازن السلاح والصواريخ ومعظم أهداف البنية التحتية القابلة للاستخدام عسكرياً. كما نجحت في إحكام الحصار البحري والجوي والبري حول اليمن، ومنع وصول الإمدادات العسكرية إليها. كذلك قلدّ التحالف السعودي ما فعله الأميركيون منذ 1991 حين سيطروا على الخطاب الإعلامي، وفرضوا لغة إعلامية تعتبر كل هدفٍ تقصفه طائراتهم أو تدمره صواريخهم هدفاً عسكرياً، سواء أكان مدرسة أو مستشفى أو ملجأ. وكرر الإعلام السعودي والخليجي ما سمعه الناس منذ حرب 1991 من بيانات الناطق العسكري (الأميركي أو الإسرائيلي) التي تعتبر سقوط الضحايا من المدنيين "أعمالاً غير مقصودة"، سيتم التحقيق فيها أو انها ناجمة عن استخدام المدنيين كدروع بشرية. بل يمكن ملاحظة استخدام العبارات نفسها التي استخدمها الأميركيون قبل أربع عشرة سنة. فعلى سبيل المثال، بررت قيادة التحالف السعودي في 30 آب /أغسطس الفائت قصفها مصنع عبس لتعبئة المياه في مدينة حجة اليمنية وتدميره بالكامل بأنه "مركز تدريب للمليشيات الحوثية".
يتوقف التشابه بين خطة شوارزكوف وخطة ّوليّ العهد السعودي عند تركيزهما على القصف الجوي وعلى إعادة صياغة الخطاب الإعلامي. فالقيادة الأميركية كانت تستخدم مرحلة القصف الجوي لإعداد وتدريب الجيوش تحت إمرتها للزحف البري لاجتياح الكويت. بينما كان محمد بن سلمان وبقية القيادة السعودية يعوِّلون على مجيء القوات العسكرية من الباكستان ومصر للقيام بتلك المهمة. وحين لم يأتِ المدَد الباكستاني أو المصري، تحولت الحرب اليمنية إلى مأزق عسكري وسياسي، زاده سوءاً ارتباك العمليات العسكرية التي يقوم بها التحالف السعودي وعدم وضوح أهدافها المباشرة.
بعد الشهر الأول من بدئها، لم تعد الحرب اليمنية "بداية صحوة عربية" ولا حتى أداة تستعين بها السعودية لمواجهة إيران، ولتصبح مركز الثقل في المنطقة العربية. بل صارت الحرب سلسلة عمليات قصف جوي متكرر لأهداف مدّمّرة أو لأهداف لا قيمة عسكرية لها. وساهم في استمرار الحرب العبثية اقتناع الدول المشاركة في التحالف، (وبالأخص السعودية نفسها والإمارات) بقدرتها على تحمل الكلفة المالية للحرب. علاوة على تعويل هذه الدول على استعداد الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا لبيعها ما يكفي من السلاح والمعدات لتعويض خسائرها. إلا أن ما تجاهله المخطط السعودي هو أن القدرة على إطالة أمد الحرب لا يضمن الانتصار فيها.. بل لا يضمن عدم خسارتها.
"عملية السهم الذهبي"
ضمن محاولات عديدة لإيجاد مخرج لها من المأزق اليمني، أعلنت قيادة التحالف السعودي في منتصف تموز/يوليو الماضي عن بدء "عملية السهم الذهبي" التي اعتبرتها "نقلة نوعية في مسار الحرب". تضمنت النقلة إنزال قوات إماراتية في منطقة عدن لتلتحق بها التشكيلات العسكرية اليمنية الموالية للرئيس اليمني هادي، أو تلك التابعة لمختلف التنظيمات، بما فيها الحراك الجنوبي. حققت "عملية السهم الذهبي" إنجازات ملحوظة بعد إحكام السيطرة على ميناء عدن ومناطق أخرى هامة في جنوب اليمن. وأتاح ذلك توفير مناطق لتجميع القوات العسكرية التابعة للتحالف السعودي استعداداً للزحف على بقية الأراضي اليمنية والوصول إلى صنعاء.
ولكن، في الخامس من الشهر الجاري، تكبدت القوات العسكرية الإماراتية والسعودية والبحرينية المرابطة في "معسكر صافر" أفدح خسائرها حتى الآن في الأرواح والعتاد. كان ذلك المعسكر نقطة تجمع استراتيجية للقوات والمعدات العسكرية التي بدأت تتدفق عبر ميناء عدن من السعودية والإمارات. وشملت التعزيزات التي وصلت مؤخراً مركبات مدرعة وقاذفات صواريخ ومروحيات، استعداداً لبدء زحفها المتوقع شمالاً نحو العاصمة اليمنية. إلا أن المعسكر برمّته تعرض للتدمير جراء إطلاق صاروخ واحد أصاب مخازن السلاح فيه. عكَس تأخر البيانات الرسمية عن قيادة التحالف السعودي ثم ارتباك بياناتها التالية، حجم الصدمة التي شكلها الهجوم الصاروخي بالنسبة للقيادات العسكرية والسياسية في البلدان الثلاثة. ففي يومٍ واحد، وبضربة واحدة، قُتل أكثر من ستين جندياً من جنود الإمارات والسعودية والبحرين. ولم تعلن قيادة التحالف السعودي حتى الآن عن أعداد الجرحى الذين أُصيبوا في ذلك اليوم.
تتضح حجم الخسارة وأسباب الارتباك بمعرفة أن عدد القتلى في معسكر صافر يزيد على مجموع أعداد القتلى من جميع الجيوش الخليجية التي شاركت في "حرب تحرير الكويت" في 1991. ولهذا، كان وقع خبر الهجوم الصاروخي بين الناس في الدول الثلاث مأساوياً، وخاصة بعد الإعلانات الرسمية التي كررتها قيادة التحالف السعودي منذ نهاية منتصف نيسان/أبريل عن نجاح قواتها في "تدمير 98 في المئة من إمكانيات المليشيات الحوثية".
لم يخفف من وقع الصدمة على قادة التحالف السعودي اكتشافهم المتأخر أن عدوهم ما زال يحتفظ بمخازن سلاح، بما فيها الصوايخ الباليستية، وأنه ما زال قادراً على استخدامها بفاعلية. وما يزيد من أهمية الهجوم على معسكر صافر أنه ينذر بحقائق تعرفها كل القوات الغازية عبر تاريخ طويل، وأولاها أن سيطرتها على الأرض لا تعني نهاية الحرب ولا تضمن القضاء على المقاومة.
انعدام المسؤولية
لم تتبيّن جميع تفاصيل الخسائر التي تكبدها التحالف السعودي في معسكر صافر ولا إذا ما كان بالإمكان تفاديها أو التقليل منها. ومن الصعب توقع محاسبة أيٍ من المستويات العسكرية أو السياسية على أوجه التقصير الاستخباراتي والإداري التي أدت إلى تلك الفضيحة. وعلى أية حال، فالخسائر الفادحة وخاصة بين أبناء الفقراء الذين سقطوا بين قتيل وجريح في معسكر صافر، هي جزء صغير من خسائر منظورة وغير منظورة في حرب عبثية وخاسرة منذ بدايتها. ومع ذلك ستستمر هذه الحرب، على الرغم من تصاعد أكلافها البشرية والسياسة والمالية. ستستمر الحرب لأن الإقرار بفشلها وعبثيتها هو إقرار بأن من يتحمل مسؤوليتها هم ملوك وأمراء وشيوخ منطقة لم يشهد تاريخها لحظة واحدة حوسب فيها حكامها أو أولادهم على هدر طاقات شعوبهم وخيرات بلدانهم.