تباينت ردود الفعل على إعلان منح توكل كرمان جائزة نوبل للسلام في 2011، تثميناً لدورها القيادي "في النضال من أجل حقوق المرأة، ومن أجل الديمقراطية والسلام في اليمن". بعض الاعتراضات العربية ركزت على "شبهات" تحيط بالجائزة نفسها وبعددٍ من الفائزين بها من أمثال كيسنجر ومناحيم بيغين ورابين، علاوة على السادات وعرفات، وهما العربيان الوحيدان اللذان حصلا عليها قبل توكل كرمان. وركزت اعتراضات أخرى على "شبهات" تحيط بأسباب اختيار الناشطة اليمنية في مقابل عشرات النشطاء الآخرين من بلدان الربيع العربي. فتوكل كرمان عضو في "مجلس الشورى"، وهو أعلى هيئة قيادية في "حزب الإصلاح"، واجهة الإخوان المسلمين في اليمن. ولم يُعرف عن حزب الإصلاح ولا عن الإخوان اهتماما فعليا بالنضال من أجل حقوق المرأة أو بتوسيع الديمقراطية في المنطقة العربية.
وعلى الرغم من وجاهة تلك الاعتراضات وغيرها، قَدمت كرمان نفسها وكأنها تأمل أن تكون ضمن الأمثلة الإيجابية من بين الحاصلين على الجائزة، كأمثال نيلسون مانديلا وديزموند توتو. ففي خطابها خلال حفل تسليمها الجائزة في أوسلو، أكدت على القيم المشتركة في ثورات الربيع العربي باعتبارها قيماً ومطالب عامة تهمُ البشرية جمعاء، حيث "أنها غير قابلة للتجزئة أو الانتقائية أو الإلغاء تحت دعاوى خصوصيات الهوية ومقتضيات السيادة بأي حالٍ من الأحوال". وتَكرّس هذا الانطباع حين أعلنت من ميدان التغيير في صنعاء أنها "لا تنوي المشاركة في العمل السياسي اليمني بل ستكثف جهودها في المحافل الدولية والإقليمية"، وعزز ذلك تبرعها بقيمة حصتها من الجائزة (500 ألف دولار) إلى صندوق رعاية أسر شهداء وجرحى ثورة 2011 التي أطاحت بالرئيس السابق علي عبد الله صالح.
المسؤولية الأخلاقية
بدا الطريق معبّداً أمام توكل كرمان لكي تتولى مسؤولياتها الأخلاقية الجديدة، ولكي تستخدم رأسمالها المعنوي في دفع جهود الحوار الوطني في بلدها وفي دعم الحراكات الديمقراطية في بقية المنطقة العربية ومحيطها الثقافي. فلقد اتسعت، بفضل حصولها على الجائزة، المساحة التي كان يمكن لها أن تتحرك فيها لتخدم شعبها وتُسهم في اختصار ألآمه. فهذه هي المرة الأولى التي تصل فيها امرأة عربية إلى هذا الموقع الذي منه تستطيع عرض هموم وقضايا منطقتنا، بما فيها مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وانتهاكات حقوق الإنسان، والفساد... وهي المرة الأولى التي تتاح فيها لشابة عربية من نشطاء الربيع العربي أن تخاطب العالم من على منابر لا تُتاح إلا لذوي المكانة العالية. ولم تكن توكل كرمان تفتقد الأمثلة من بين من سبقوها من حملة الجائزة. فعلى سبيل المثال لم يتوقف الأسقف توتو منذ حصوله عليها في 1984 عن الدفاع عن حقوق الإنسان، سواء في جنوب أفريقيا أو في بقية بلدان العالم. وتغطي جهوده ومساحة تأثيره الأخلاقي مختلف القارات، وهو لم ينس فلسطين.
كانت المسؤوليات الأخلاقية الجديدة تفرض أن تترفع توكل كرمان عن التزامها الحزبي بجماعة الإخوان المسلمين التي انخرطت منذ بداية الربيع العربي في منازعات حزبية مع منافسيها في عدد من البلدان العربية. فهذا الترفع كان سيتيح لها أن تصبح فوق الالتزامات الحزبية والطائفية، لتكون جزءاً من منظومة المساعي الهادفة لحل تلك المنازعات في اليمن وخارجها. ولهذا ارتفع سقف الآمال بين المتابعين حين أعادت كرمان تأكيد أنها لا تنوي المشاركة في العمل السياسي اليمني كي لا تضيع هيبتها الجديدة في دهاليزه ومطباته. ففي البحرين مثلاً، أستبشر النشطاء حين أعلنت إنها تتمنى "أن تتحول مطالب الإصلاح في البحرين إلى ثورة شعبية شاملة، فأنا مع شعب البحرين وألتقي بأبطالهم ونشطائهم. وهناك فعلاً إرهاصات ثورة في البحرين". كان ذلك تصريحاً يناقض الموقف المعلن لحركة الإخوان المسلمين ولمراجعها من الربيع البحريني. واعتبر النشطاء البحرينيون ذلك التصريح كوّة أمل في جدار طائفي بنته السلطة في المنامة لعزل الحراك هناك عن محيطه العربي. إلا إن كرمان غيّرت موقفها سريعاً بعد أن شنت عليها أجهزة الإعلام البحرينية حملة شارك فيها قادة الإخوان المسلمين في البلاد. بعدها صارت الأولوية للانضباط الحزبي على المسؤولية الأخلاقية. وصارت لغة السيدة أبعد ما تكون عن النوايا المعلنة في خطابها ذاك، بل أقرب إلى لغة الإعلام السعودي ومفرداته الطائفية. وهي مفردات ازدادت قبحاً مع انطلاق "عاصفة الحزم" ومحاولات شيطنة كل من يعارض العدوان السعودي على اليمن.
إضاعة فرصة تاريخية
ليست توكل كرمان أول امرأة أو رجل يضيع فرصة تاريخية للاستفادة من مكانته الجديدة في المساهمة بصياغة شروط مستقبل جديد لبلده. ولا يبدو أن ثمة أملاً في أن تتغلب المسؤولية الأخلاقية على شروط الانضباط الحزبي. ففي 12 نيسان/ أبريل الماضي، أصدر القائم بأعمال وزير الخارجية اليمنية، قراراً بـ "تكليف الناشطة السياسية اليمنية توكل كرمان بالقيام بأعمال وكيل وزارة الخارجية لشؤون أوروبا والشرق الأوسط"، على أن تمارس عملها من مقر السفارة اليمنية في أنقرة (التي منحت كرمان جنسيتها التركية بعد أن تبيّن أنها تنحدر من أصول تركية!).
للأسف أيضاً، ليست كرمان وحدها من بين الحاصلين على الجائزة الذين يختارون الاصطفاف مع مصالحهم الحزبية أو الطائفية أو الطبقية على مسؤولياتهم الأخلاقية. ففي بورما، اختارت أونغ سان سوكي، الحاصلة على جائزة نوبل للسلام في 1991، الاصطفاف مع زعماء الطائفة البوذية وتحريضهم ضد الأقلية المسلمة. فلم تتحرك لاستنكار أعمال العنف الطائفية التي تعرض لها أفراد أقلية الروهينغا المسلمة في بورما، والتي أسهمت مؤخراً في دفع عدة آلاف منهم لمحاولة الفرار من القمع بحراً باتجاه جنوب شرق أسيا. ثمة فروق سياسية وحقوقية بين صمت أونغ سان سوكي عن قتل أفراد الأقلية المسلمة وتهجيرهم من بورما، وبين تأييد توكل كرمان للحرب التي تشنها السعودية منذ أشهر على اليمن. ولكن مسئوليتهما الأخلاقية واحدة. ففي بلديْهما يموت كل يوم أبرياء بسبب انحياز كل منهما لمصالح الحزب والطائفة.