دستور العراق الحالي يبيح الدولة للمذاهب

خصصت موازنة 2019 العامة للوقف الشيعي وحده قرابة 593 مليار دينار كنفقات اجمالية، وللسُني أكثر قليلاً من 284 ملياراً. أما ديوان الديانات الأخرى فكان نصيبه أقلّ، كنصيب أبناء هذه الديانات في الحياة العراقية: 7مليار و 886 مليوناً!
2019-04-22

ليث ناطق

إعلامي من العراق


شارك

على وقع طبول الربيع العربي، أزهرت ساحة التحرير في بغداد أول تظاهراتها عام 2011. ثمانية أعوام من "العراق الجديد" كانت كافية لإدراك العراقيين عدمَ تجدّد شيء سوى طرائق موتهم.. ثم فارت احتجاجاتهم مرة اخرى صيف 2015 بعد أن قُمعت الأولى بمهدها، وفقدوا ثلث خارطتهم لصالح تنظيم داعش، وانصهار أرواح مئات الآلاف منهم بلهيب السيارات المفخخة وانعدام الخدمات.

هذه المرة كانت الاحتجاجات أكثر طموحاً من مجرد المطالبة بتحسين الخدمات: جمعة بعد أخرى، ارتفع التفاؤل وحلّقت معه شعارات تخترق سقوف المحظور، فأُعيد توجيه أصابع النقد من السلطة كسلطة الى كينونة مكوّناتها التي تهيمن على غالبيتها العظمى صبغة مذهبية. وصارت الحشود في ساحة تحرير بغداد وساحات المحافظات تهتف "باسم الدين باكونا الحرامية" و"خبز، حرية، دولة مدنية"...

مقالات ذات صلة

لم يقف اتّساع رقعة الاحتجاج عند هذا الحد. انتقلت مصطلحاته وأهدافه الى ميدان الجدال بين الشرائح المثقفة فأفرزت مطلباً آخر أكثر دقّة وأكبر طموحاً، لتظهر "العلمانية"، بما هي فصل الدين عن الدولة، كغاية صريحة لكتلة كبيرة من المحتجين. وفي دلالات هذه اللغة أن أحزاب العملية السياسية - الدينية بغالبها - لا تلبي حاجات العراقيين، وأن تزايد مساحة الدين في الدولة لا يروق للمحتجين وللمثقفين.

بدأها صدام حسين

مثّلت "الحملة الايمانية" التي أطلقها صدام حسين في تسعينات القرن الماضي بداية عهد جديد في علاقة الدين بالدولة. أفسح صدام بحملته هذه المجال لصعود شخصيات ومجموعات دينية كان بدأ بمغازلة نهجها قبل الشروع بالحملة، فكتب عبارة "ألله أكبر" وسط العلم العراقي في العام 1991، وتلاها بعد عامين الاعلان الرسمي عن انطلاق الحملة التي بدأت باغلاق كثير من النوادي الليلية وحظر بيع الخمور، وعاشت ذروتها بتطبيق أحكام الشريعة في العقوبات كالبتر وقطع الرؤوس، وتوجه صدام نحو تشييد مزيد من المساجد الضخمة.

سوّق سياسيو بعد الاحتلال الأميركي لبغداد أنفسهم كمعارضين سابقين لنظام صدام، لكنهم اعتمدوا في سبيل كسب الجماهير مداعبة مشاعرهم المذهبية، فبنيت دعّامات عمليتهم السياسية على أساس التقاسم المذهبي والعرقي، في تطور جديد يتعدى منح مساحة للدين وحده الى تخصيص مساحات للمذاهب. بعد الانتهاء من صياغة دستور العراق 2005 أدرك زعماء الحقبة الجديدة توجّسَ العراقيين من التصويت عليه، لكن دعوة قادة المذاهب ومراجعها - علنية كانت أم ضمنية - الى التصويت لصالح الدستور أنجدته من الاقصاء.

مثّلت "الحملة الايمانية" التي أطلقها صدام حسين في تسعينات القرن الماضي بداية عهد جديد في علاقة الدين بالدولة... وهي وصلت ذروتها بتطبيق أحكام الشريعة في العقوبات.

في ثاني مواده، يأذن الدستور العراقي للدين الاسلامي صراحة بخلق مساحته التي يراها شيوخه والسياسيون الذين يرتدون عباءته مناسبة، فتنصُّ الفقرة أولاً على أن "الإسلام دين الدولة الرسمي، وهومصدر أساس للتشريع"، وتتفرع هذه الفقرة الى النقطة أ التي تحظر سنّ قوانين تتعارض مع "ثوابت أحكام الإسلام". ولا يتأخر الدستور عن خلق عقدة يصعب حلها، فبعد هذه النقطة مباشرةً ترِد أُخرى تنص على عدم جواز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية. وبما أن الدين الاسلامي في أبجدياته يعتبر كلَّ الاديان من بعده باطلة، فكان وقوع الدولة في شرك الاعتراف بديانة كالبهائية، التي يتدين بها عدد من العراقيين، معضلة.

يؤدي أعضاء مجلس النواب ورئيسا الجمهورية والوزراء اليمين الدستوري لتسلم مهام مناصبهم, يُستهل هذا اليمين بـ "أقسمُ بالله العلي العظيم" وينتهي بـ"والله على ما أقول شهيد"، وما بينهما عهود عريضة. وواضحٌ أن نصَّ القَسم هذا مستوحى من باطن الشريعة الاسلامية ونصوصها.

عند صياغة دستور العراق 2005، أدرك زعماء الحقبة الجديدة توجّسَ العراقيين من التصويت عليه لاقراره، لكن دعوة قادة المذاهب ومراجعها - علنية كانت أم ضمنية - الى التصويت لصالح الدستور أنجدته من السقوط.

يقرّ الدستور بأن العراق جزءٌ من "العالم الاسلامي" وأنه يضمن حرية ممارسة الشعائر الدينية. ولكن النص الوارد في الفقرة أولاً/ أ من المادة 41، متبوع بتضمين "الشعائر الحسينية" تأكيداً على ضمان إقامتها وديمومتها، هو امتياز فقدته شعائر بقية الأديان والمذاهب.

تستنزف بعض محافظات العراق اسبوعاً أو اكثر في تعطيل الدوام الرسمي من أجل فسح المجال لممارسة طقوس زيارة الامام الحسين مثلاً، وتوصد أغلب أبواب الحياة العامة من أجل ذلك، ويرتفع تأثير هذه الشعيرة الى قطع الطرقات الرئيسة في العاصمة والمحافظاتين الوسطى والجنوبية. وما وجدت الحكومات المتعاقبة على امتداد سنواتها الست عشرة حلّا يُرشّق نزيفَ الأيام هذا أو يرفد بنية البلاد التحتية بوسائل تقصّر المسافة والزمن وتعتق الحياة العامة. وتقول احصاءات مواسم الزيارة ان أعداد الزائرين لم تنقص عن عشرة ملايين زائر في العام الواحد، ليس أقل من ثمانين في المئة منهم عراقيون. يضاف اليها مجموعة من المناسبات الدينية يدور أغلبها في فلك ولادات أئمة المسلمين ووفياتهم...

يستكمل الدستور في المادة ذاتها، 41 أولاً/ب، منح مساحات من الدولة للدين، فينص على ادارة الأوقاف لشؤونها ومؤسساتها الدينية، ويشير الى تنظيم ذلك بقانون. ثم أفردَ المادةَ العاشرةَ منه لالتزام الدولة بتأكيد وصيانة "حُرمة" العتبات والمراقد والمقامات الدينية، وكرر في المادةِ نفسها ضمان حرية ممارسة الشعائر في هذه الأماكن.

إنفاق الميزانية المهول على المؤسسات الدينية

ترتبط دواوين الأوقاف الدينية والمذهبية برئاسة الوزراء. هناك ديوانان اسلاميان: الشيعي والسُنّي, وديوان ثالثٌ جامع للديانات المسيحية والأيزيدية والصابئة المندائية. في موازنة 2019 العامة خصص للوقف الشيعي وحده قرابة 593 مليار دينار كنفقات اجمالية، وللسُني أكثر من 284 مليارا. أما ديوان الديانات الأخرى فكان نصيبه أقلّ كنصيب أبناء هذه الديانات في الحياة العراقية: 7مليارات و 886 مليوناً.

تتفرع من ديوان الوقف الشيعي الأمانةُ العامةُ للمزارات الشيعية. تُدير هذه المديرية وترعى شؤون 158 مزاراً ظهر أكثرها في السنوات الأخيرة، وهي في الغالب مراقد لأولياء وشخصيات مهمة في تاريخ المذهب، ويتركز عددها الأكبر في محافظة بابل التي تضم أرضها 23 مزاراً. يُضاف اليها "العتبات المقدّسة" وهي مسجد الكوفة في محافظة النجف ومراقدٌ خمسة للامام علي بن أبي طالب وولديه الحسين والعباس وأحفاده الكاظم والجواد المدفونان في الكاظمية ببغداد، والهادي والعسكري في سامرّاء. وفي شباط/فبراير 2019، بلغ مجموع رواتب موظفي العتبات والمزارات قرابةَ 26 مليار دينار، الحصة الأكبر منها لموظفي العتبة الحُسينية الذين وصل مجموع رواتبهم الى 8 مليار ونصف المليار من الدنانير العراقية.

التعليم.. خصوصاً

تموّل الدولة مباشرة، وبمعزل عن حلقة وزارة التعليم العالي، مؤسستين تعليميتين دينيتين هما كلية الإمام الكاظم وكلية الإمام الأعظم. خُصص للكُليّتين أكثرُ من 36 ملياراً في موازنة هذا العام. في قطاع التعليم، الميدان الأكثر إغراءً للأيدلوجيات، تُفرَد مادة لتعاليم الدين الاسلامي طيلة مراحل الدراسة الابتدائية والمتوسطة والثانوية، وهي تمتد على اثنتي عشرة سنة دراسية. تتكوّن المادة من كتابين: القرآن، ويُفرض حفظ بعض آياته، والتربية الاسلامية، وتتناول تعاليم عقائدية وفقهية وأحاديث نبوية، وسير بعض الشخصيات البارزة في تاريخ الدين الإسلامي. وبعض مُعلّمي هذه المادة يفرضون على التلميذات الإناث في عمر مبكر للغاية ارتداء حجاب الرأس كي يُسمَح لهن بدخول الصف الدراسي.

ليس ذلك فحسب. تمتد مساحة الدين في قطاع التعليم لدروس أُخرى كالتاريخ واللغة العربية اللذان يتضمنان نصوصاً وأفكاراً من قلب الشريعة الإسلامية وموروثاتها. أما بقية المواد الدراسية فتفتتح كتبُها بعبارة البسملة وتنتهي بعبارات الحمد وطلب التوفيق.

في العراق، يمكن لمن ترك التعليم العودة اليه عن طريق "الامتحان الخارجي"، وهو امتحان يجري دون الحاجة للمواظبة على الدوام. في السنوات الأخيرة ابتدع ديوانا الوقفين الشيعي والسُني طريقاً يتيح لتاركي التعليم تأدية امتحان من خلال الوقف، يفضي بمجتازيه الى كليات وجامعات العلوم الاسلامية وبعض العلوم الانسانية الأخرى. وقد تعرضت الحكومة في مرات عديدة لانتقادات باعتبار أن هذه الطريقة بمنح الشهادات تُضعف رصانة التعليم.

تمتد مساحة الدين في قطاع التعليم لدروس كالتاريخ واللغة العربية اللذان يتضمنان نصوصاً وأفكاراً من قلب الشريعة الإسلامية وموروثاتها. أما بقية المواد الدراسية فتفتتح كتبُها بعبارة البسملة وتنتهي بعبارات الحمد.

في العراق (عدا كردستان) هناك 53 مؤسسة تعليمية بين جامعة وكُلية دينية مرتبطة جميعها بوزارة التعليم العالي، تنقسم الى 33 كلية وجامعة أهلية تعود ملكية عدد منها الى سياسيين أو شخصيات مقربة منهم، و20 حكومية. وتبيح الدولة فتح مدارس أو مؤسسات دينية أو إقامة حلقات التعليم الديني.

تحظر ضوابط المؤسسات التعليمية إقامة نشاطات مذهبية أو دينية داخلها، الّا أنها لا تقوى على إبداء موقف منها إذا وقعت. بعض الجامعات والمدارس تتشح بداية كل عام هجري بلافتات تُحيي ذكرى عاشوراء، وتقيم بعضها استذكارا للحادثة بشكل أو بآخر، بل يتعدى البعض الآخر ذلك الى إقامة عروض تجسّد حالاتٍ مختَلف عليها في التاريخ الإسلامي، كحادثة حرق بيت الإمام علي من قبل الخليفة عمر بن الخطاب والتعدي بكسر ضلع زوجته فاطمة. العرض هذا شهدته الساحة الرئيسية لكلية الإدارة والاقتصاد المتفرعة من الجامعة المستنصرية عام 2016.

لا تقتصر هذه النشاطات على المؤسسات التعليمية فحسب، بل هي تنسحب أيضا على مؤسسات ودوائر الدولة، فتحمل جدرانها بشكل عشوائي شعارات وكتابات ولافتات دينية أو مذهبية، ويُستغل بعضها من قبل موظفيها لإقامة نشاطات دينية ليس أقلها أهمية المباني والمعدات التابعة للأجهزة الأمنية.

في العراق (عدا كردستان) هناك 53 مؤسسة تعليمية بين جامعة وكُلية دينية مرتبطة جميعها بوزارة التعليم العالي، تنقسم الى 33 كلية وجامعة أهلية تعود ملكية عدد منها الى سياسيين أو شخصيات مقربة منهم، و20 حكومية.

في الموصل والمحافظات الأُخرى ذات الغالبية السُنية، يعتقد البعض أن سلوك الأجهزة الأمنية هذا كان من أسباب نفور بعض أهلها منها واتّساع فجوة الثقة قبل سقوطها بيد تنظيم داعش.

تزدحم ساحات المدن وجدرانها وحتى أرصفة الشوارع الوسطية فيها، بصور كبيرة لشخصيات دينية مذيلة بعبارات تمجدها، أو شعارات لأحزاب دينية، أو اعلان لا يخلو من التنافس التسويقي لمؤسسات دينية صغيرة. ولا ملامح لسياسة الدولة تجاه هذه المظاهر العامة. وتعبيراً عن اتساع حدود مساحات الدين ونفوذه في الدولة، ينتظر بعض زعماء العملية السياسية تعليمات مباشرة يُصدرها رجال الدين لتحديد خطواتهم واتجاه مسيرها في العمل السياسي. وخير مثال على ذلك الفتوى التي أصدرها المرجع الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني والتي قضت بتطوع الناس لحمل السلاح بوجه داعش، فتحولت أغلب حشود المتطوعين فيما بعد لتشكل فصائل "الحشد الشعبي" الذي تكفلت الدولة بتمويله بعد الاعتراف به قوةً أمنية حكومية.

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

"اللا حياة" العراقية.. التجهيل الذي يحوّل كورونا إلى خرافة مميتة

ليث ناطق 2021-06-10

لماذا يغيب الوعي الصحي عن المجتمع العراقي؟ الإجابةً تستدعي مجموعةً أخرى من الأسئلة: لماذا يتراجع مستوى الرعاية الصحية، وتتردى الصحة العمومية؟ أين المستشفيات والمراكز الصحية الصالحة؟ كيف يسكن العراقي ويشرب،...