بينما يمكن تحديد تاريخ واضح لبداية حقبة "السلام الاقتصادي" الرسمي الذي أعلن عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو عام 2008 كشعار عريض لسياسته المفضلة تجاه القضية الفلسطينية، فانه ليس من المؤكد تحديد تاريخ نهايته الفعلية أو المعلنة. لكن بات من الواضح اليوم، بعد عشر سنوات من التلويح بهذا المصطلح كحل سحري يمكن أن يعوض عن السلام العادل، انه مفهوم تقادم عليه الزمن والأحداث والسياسات والحقائق على الأرض، وأصبح في عداد ضحايا عملية السلام المنتهية صلاحيتها.
تبدو الأفاق الفلسطينية اليوم مظلمة أكثر من أي وقت مضى، وذلك أمام سيادة الرؤية الأميركية المخيفة لحل مسائل "الوضع الدائم"، والمتمثلة بصفقات ترامب حول قضايا اللاجئين والقدس والجولان (والقادم أعظم…)، ومع استيلاء اليمين الفاشي الصهيوني على نظام الحكم الإسرائيلي، كما عادت لتؤكد ذلك نتائج انتخابات 2019، موصلة رسالة إلى الفلسطينيين داخل إسرائيل بأنهم مستهدفون أيضاً. أن حجم هذه الهجمة على القضية الفلسطينية قد يدفع البعض (العربي أو الإسرائيلي أو الأميركي) للاعتقاد بأن لا مفر للقيادة الفلسطينية من الاستجابة علناً أو ضمناً لمثل هذه العروض المالية السخية.
لم يكن ابداً سلاماً ولم يكن ابداً اقتصادياً
ربما قبل سنتين عندما تحدث ترامب في بداية عهده عن صفقته، قبل قطع الحوار والاتصال الفلسطيني مع الادارة الاميركية، كان من الممكن التفكير بتعامل ايجابي مع بعض المبادرات الاقتصادية. لكن تلك اللحظة قد مضت واصبحنا في وضع مختلف تماما. مع أن الخطة الأميركية المرتقبة ("صفقة القرن") ستحتوي بالتأكيد على عناصر وحوافز مالية للفلسطينيين وللعرب، وبرامج تعاون اقتصادي إقليمية ضخمة مصممة لتشجيع الانخراط بتمريرها، لكن وعلى الأرجح، فأن حتى مثل تلك العروض مهما كانت جذابة، لن تكفي لتشكل الإغراء الاقتصادي ("الجزَرة") اللازم الذي عادة يترافق مع فرض ("العصا") الرؤية السياسية الأميركية الإسرائيلية المعادية للحقوق الفلسطينية. وعلى الرغم من المحيط العربي الرسمي غير المساند للفلسطينيين، وعلى الرغم من الحالة الاقتصادية المحلية المتردية، إلا أن الظروف الموضوعية والميدانية تبدو هذه المرة غير مواتية لجر الجانب الفلسطيني للتساوق مع مثل هذه الحوافز، أو لتمرير أية محاولات لخلق قيادة فلسطينية بديلة.
حجم الهجمة على القضية الفلسطينية قد يدفع البعض (العربي أو الإسرائيلي أو الأميركي) للاعتقاد بأن لا مفر أمام القيادة الفلسطينية من الاستجابة علناً أو ضمناً للعروض المالية السخية التي تطرح عليها مقابل حل مسائل "الوضع النهائي".
الموت الحتمي لمناهج السلام الاقتصادي ليس وليد الظروف الراهنة الكارثية بقدر ما يعكس إفلاس متراكم للمفهوم نفسه، الذي روج له أصلاً وزير خارجية أميركا جورج شولتز في 1987، والقائل بضرورة "تحسين جودة حياة الفلسطينيين" بدلاً من التجاوب مع مطالب م.ت.ف. آنذاك، بالاعتراف بها ممثلاً للشعب الفلسطيني وكطرف له حقوق وطنية. صحيح أن دوام مفاهيم الترويض السياسي بواسطة الحوافز الاقتصادية ينسجم مع أقدم وانجح أدوات السلطات الاستعمارية طوال التاريخ وفي السياق الإسرائيلي الفلسطيني كذلك. كما أن مبادرة شولتز لم تكن سوى حلقة في سلسلة محطات مشابهة. هنا نستذكر مبادرات رابين تجاه الصناعة الفلسطينية عقب الانتفاضة الأولى، ثم مسار التعاون الاقتصادي الإقليمي ضمن عملية مدريد، وصولاً إلى بروتوكول باريس الاقتصادي الملحق باتفاقيات أوسلو. ثم تجددت هذه الصيغة التعاونية في عصر نتانياهو في شكل "تسهيلات وتصاريح"، وعدم المس المباشر بالحياة الاقتصادية الفلسطينية. في جميع هذه المراحل، احتفظت إسرائيل بمفاتيح التحكم بالتجارة والطاقة والمواصلات والأراضي والمياه والموارد المالية الفلسطينية، والتلاعب بها كما تقتضي ذلك ضرورات فرض العصا السياسي أو الأمني. اذاً، لم يكن أبداً السلام الاقتصادي سلاماً ولم يكن اقتصادياً.
الموت الحتمي لمنهاج السلام الاقتصادي ليس وليد الظروف الكارثية الراهنة بقدر ما يعكس إفلاس متراكم للمفهوم نفسه، الذي روج له أصلاً وزير خارجية أميركا جورج شولتز في 1987، والقائل بضرورة "تحسين جودة حياة الفلسطينيين" بدلاً من التجاوب مع مطالب م.ت.ف. آنذاك، بالاعتراف بها ممثلاً للشعب الفلسطيني وكطرف له حقوق وطنية.
ليست المواجهة الحالية بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل حول احتجاز الأخيرة لأموال المقاصة الضريبية (التي تجبيها ويفترض أن تحولها كاملة للجانب الفلسطيني) هي المرة الأولى التي تكشف إسرائيل عن حقيقة فهمها لشروط نهجها للسلام الاقتصادي، بما ينطوي عليه بالفعل من استسلام فلسطيني لإملاءات الاحتلال. تكررت مثل هذه الإجراءات في تجميد أو تخفيض تحويلاتها للأموال العائدة للخزينة العامة الفلسطينية عدة مرات خلال السنوات ال12 الماضية، كتحذيرات واضحة للقيادة الفلسطينية بأنها اجتازت إحدى الخطوط الحمراء الإسرائيلية، الدبلوماسية أو الأمنية أو السياسية. لم تكن هذه الإجراءات المالية أبداً شأن اقتصادي مهما كانت تداعياتها خطيرة بالنسبة للاستقرار المالي والوضع المعيشي الفلسطيني. لكن في سياق الهجمة الاستيطانية والعنصرية الإسرائيلية المتصاعدة باستمرار، ومع انعدام فرص إحياء عملية تفاوضية سلمية، فإن احتمالات ترويض الشعب الفلسطيني بالوسائل الاقتصادية تبدو هي الثانية معدومة بعد ما تراكم لديه من تجارب مرة، ولم يعد مستعداً لأن يساير عملية سلمية أصبحت تستخدم كأداة ضغط وفرض للوصاية.
الموقف الفلسطيني
في هذه الأثناء، يستعد الطرف الفلسطيني للإقدام على خطوات أولية لما يسمى بـ"الانفكاك الاقتصادي" عن إسرائيل، تمشياً مع القرارات التي اعتمدتها القيادة الفلسطينية منذ ما يزيد عن سنة، وبحسب البرنامج المعلن للحكومة الفلسطينية الجديدة برئاسة محمد اشتية، احد أقطاب حركة فتح الاقتصاديين (الشباب نسبياً)، وهو لاعب مخضرم في الملف الاقتصادي منذ "مفاوضات باريس" وفي محافل ومؤسسات اقتصادية أخرى.
اعتمدت دائماً معادلة السلام الاقتصادي على توفر ثلاثة شروط: 1- وجود مبادرة أو خطة أو عملية سياسية قابلة للتطبيق، 2- وجود شريك فلسطيني شرعي مستعد للتعاون، 3- وحالة اقتصادية فلسطينية سيئة لغاية تستدعي إنعاشاً سريعاً ومكثفاً. بينما تحطمت المبادرات الأميركية الأولى في هذه الاتجاه بعد 1987 بسبب رفض الإدارة الأميركية الاعتراف بـ"م،ت.ف." وبسبب انطلاقة الانتفاضة الأولى، فإن عملية التعاون الاقتصادي الإقليمي ثم اتفاقيات باريس الاقتصادية شكلتا صيغاً ناجحة لفترة محدودة، لأنها تضمنت العناصر الثلاثة المذكورة: عملية سياسية، مشاركة فلسطينية، وتجاوب مع المخلفات الاقتصادية لقمع الانتفاضة والعزل المالي المفروض على المنظمة بعد حرب الخليج الأولى. وحتى عندما طُرحت الفكرة مجدداً من قبل نتانياهو عام 2008، توفرت كذلك العناصر المذكورة: عملية سلام أحياها الرئيس أوباما في قمة أنابوليس، قيادة فلسطينية جديدة أمام اختبار إظهار حسن النوايا والسلوك، وحاجة ملحة للتعويض عن الخسائر الاقتصادية المتكبدة بفضل الانتفاضة الثانية والانقسام الجغرافي والسياسي بين شطري الوطن.
في جميع المراحل "الاغرائية"، احتفظت إسرائيل بمفاتيح التحكم بالتجارة والطاقة والمواصلات والأراضي والمياه والموارد المالية الفلسطينية، والتلاعب بها كما تقضي ضرورات فرض العصا السياسية أو الأمنية. اذاً، لم يكن أبداً السلام الاقتصادي سلاماً ولم يكن اقتصادياً.
ثم تمّ تطوير مفهوم السلام الاقتصادي في حلة جديدة ومتطورة في مبادرة وزير الخارجية الأميركي كيري في عام 2014، التي ربما شكلت أكثر الصيغ تقدماً من حيث تركيزها عل مفاصل اقتصادية فلسطينية محورية كان من شانها الارتقاء إلى خطة استثمارية حقيقية وليس فقط الاكتفاء بتقديم فتات. لكنها لم ترَ النور بعد انهيار العملية التفاوضية برمتها في السنة نفسها. وربما هناك اليوم في العلاقة بين إسرائيل وقطاع غزة بعض ملامح "الهدنة الاقتصادية" التي بموجبها يسمح بتسهيلات مدنية ومعيشية مقابل هدوء على الجبهة الجنوبية.
الخيارات الفلسطينية أمام "السلام الاقتصادي"
10-05-2017
اختلف الوضع اليوم في جميع ما يتعلق باحتمالات نجاح الشق الاقتصادي لصفقة ترامب، وأهمها السياق السياسي المعادي الذي سيطرح ضمنها والذي لن يجد شركاء فلسطينيين أو حتى عرباً يمكن التعويل عليهم لإضفاء صفة شرعية عليها. فالقيادة الفلسطينية اليوم موحدة ونظام الحكم ثابت وهي الجهة العالمية الوحيدة التي تتحدى علناً الإدارة الأميركية، على الرغم من كل تداعيات فشل المراهنة على عملية السلام وضعف الموقف التمثيلي الفلسطيني عربياً ودولياً على خلفية دوام الانقسام بين الضفة وغزة، وعلى الرغممن حالة الركود التي اتسم بها الاقتصاد الفلسطيني منذ 2015، والأزمة الاجتماعية المتعاظمة.
ومع أن الحالة الاقتصادية ليست جيدة وتنذر بالخطر، مع تصعيد الحصار المالي الإسرائيلي الأميركي، فإن التجارب السابقة تشير إلى قدرة السلطة على تحملها لفترة أشهر قليلة إضافية. هذا على افتراض توفر حد أدنى من الدعم المالي العربي والأوروبي، واستقرار النظام المصرفي والتماسك الاجتماعي والسياسي.
حتى الآن هناك ارتياح عام من رحيل الحكومة السابقة (لأسباب اجتماعية قبل غيرها) دون توقعات عالية، واستلام حركة فتح مباشرة مسؤولية إدارة الحكم الذاتي، في الوقت الذي تصعد م.ت.ف. من مواقفها المعلنة الرافضة للتعامل مع الخطط الأميركية والإسرائيلية المتوقعة. يبدو أن هناك مراهنة فلسطينية على أنه لا يوجد سوى خيار تشديد الموقف السياسي الرافض للسياسات الأميركية الجديدة، وعدم القبول بمزيد من تلاعب إسرائيل بالعلاقة المالية والاقتصادية كما تشاء، بينما الموقف الداخلي حالياً كفيل بالصمود أمام الضغوطات والاملاءات والإغراءات.
وستظهر الأشهر القادمة مدى صواب الحسابات السياسية الفلسطينية وقدرة السلطة على إدارة الأزمة المالية بحكمة، بينما الشعب الفلسطيني أينما وجد، في الأراضي المحتلة والقدس وداخل إسرائيل، مطالب بالتحلي بالوعي واليقظة والوحدة وبتحمل الشدة الاقتصادية التي لا مفر منها، اذا أراد أن يحافظ على الحد الأدنى من الكرامة ومن روح المقاومة.