وجهت كريستين لاغارد، مدير صندوق النقد الدولي، خلال اجتماعها في الكويت (25/10/2014) مع محافظي مؤسسات النقد والبنوك المركزية بدول مجلس التعاون، تحذيرات جدية للمسؤولين في الخليج من تداعيات الأزمة الاقتصادية الرأسمالية على المنطقة. لم يكن محافظو البنوك المركزية الخليجية في حاجة إلى تذكيرهم بما يمثله استمرار الانخفاض السريع في سعر برميل النفط خلال الأشهر الأخيرة من 110 دولارات للبرميل في حزيران /يونيو إلى أقل من 85 دولاراً للبرميل في نهاية تشرين الأول / أكتوبر. إلا انه كان لافتاً تكرار تلك التحذيرات في التصريحات والمقابلات الصحافية التي قامت بها لاغارد وغيرها من مسؤولي الصندوق، والتي شددت على أن نمو اجمالي الناتج المحلي لبلدان المنطقة سيسجل هبوطاً حاداً وسيؤدي إلى عجز ملحوظ في ميزانياتها للسنوات القادمة. كما كان لافتا تكرار دعوة لاغارد حكومات بلدان مجلس التعاون إلى مواجهة تداعيات الأزمة الاقتصادية بتبني سياسة اقتصادية تقوم على تشجيع نمو القطاع الخاص وتقليص الإنفاق العام بما في ذلك الإنفاق على الخدمات الإجتماعية والتعليم والصحة وتقليص الدعم الحكومي للسلع الاستهلاكية والوقود. وهي السياسة الاقتصادية نفسها التي يروِّج لها خبراء الصندوق منذ سنوات. إلا إن الشروع فيها ناهيك عن نجاحها يستدعيان تغييراً سياسياً جذريا في طبيعة علاقة العوائل الحاكمة بالمجتمعات التي تحكمها.
أزمة اقتصادية أخرى، ما الجديد؟
شهدت بلدان الخليج العربية قبل اثنتي عشرة سنة أزمة اقتصادية ومالية تشابه ملامحها الأزمة التي تلوح نذُرها في الأفق الآن. ففي السعودية مثلاً تجاوزت الديون السيادية المحلية (المستحقة للمصارف ومؤسسات الاستثمار المحلية) في العام 2002 قيمة الناتج المحلي الإجمالي، حيث بلغت 614 مليار ريال (164 مليار دولار أميركي). واستمر ارتفاع تلك الديون لتصل في 2004 إلى 630 مليار ريال (168 مليار دولار أميركي). بالإضافة إلى الديون المحلية، كانت هناك 35 مليار دولار مُستحقة للمصارف ومؤسسات استثمار خارجية، علاوة على ديون مُستحقة على مؤسسات حكومية مثل أرامكو. وقتها، فرضت ضغوط الديون باختلاف مصادرها، على الحكومة السعودية إعلان عجز في ميزانية 2004 وصل إلى 45 مليار ريال (12 مليار دولار).
تصدت العائلة الحاكمة في السعودية لتداعيات تلك الأزمة بإسلوبَيْن رئيسيَّيْن: أولهما رفع الإنتاج النفطي. ولقد ساهم رفع الإنتاج وارتفاع معدل سعر البرميل في 2005 إلى ضعف ما كان عليه في 2002 في تمكين الحكومة السعودية من مواجهة ضغوط الديون السيادية وعجز الميزانية علاوة على توفير التمويل اللازم لتحسين البنى التحتية في المملكة، وغيرها من المشاريع التي تولى تنفيذها القطاع الخاص. أما الأسلوب الثاني فكان الإعلان عن استعدادها لإدخال إصلاحات سياسية واقتصادية تستجيب لمطالب النخب السعودية. على هامش ذلك الإعلان، حدث انفراج غير معهود في الساحة الإعلامية أتاح التعرض لبعض مشاكل البلاد، وإن في حدود ضيقة، بل وتغاضت السلطات الأمنية السعودية في تلك الفترة القصيرة عن تحركات شبه علنية قام بها نشطاء سعوديون بمن فيهم رجال أعمال ورجال دين وأساتذة جامعات ومثقفون، طُرحت فيها مطالب بإصلاحات سياسية. وشارك في دعوات «الإصلاح» بعض كبار أفراد العائلة الحاكمة. إلاأن أكثر تلك الدعوات إثارة للاهتمام أتت من ولي العهد وقتها، عبد الله بن عبد العزيز، الذي نُقل عنه إنه يعتبر المطالب الإصلاحية هي مطالبه شخصياً، وإنه، مثل أغلبية الشعب، ضد الفساد، وضد التمييز، ومع المشاركة الشعبية.
لا يمكن للملك السعودي أن يحقق في 2014 ما تمكّن من تحقيقه قبل عشر سنوات. فلم تعد السعودية، رغم أهميتها، قادرة كما كانت على التأثير في سوق النفط بأن تقنع بقية الدول الأعضاء في «اوبك» بخفض إنتاجها. فمن جهة يبدو ان التوجه العام بين الدول المنتجة للنفط هو تفضيل خيار رفع مستويات إنتاج النفط للتعويض عن انخفاض أسعاره. ومن جهة أخرى، أدى إنتاج النفط الصخري إلى إضعاف تأثير دول»اوبك» في سوق النفط. ويتوقع خبراء نفطيون أن يزداد تأثير النفط الصخري بعد أن يصل ما تنتجه الولايات المتحدة الأميركية وحدها منه في 2015 إلى ما يزيد عن ثلثَيْ مجموع إنتاج دول منظمة أوبك.
من جهة ثانية، لن يتمكن الملك السعودي من الخروج على الناس كما فعل قبل عشر سنوات حاملاً رايات الإصلاح والمشاركة الشعبية ومحاربة الفساد والتمييز. فلقد تهلهلت تلك الرايات تاركة اثرها إحباطاً بين النخب الموالية وقناعة تنتشر بين المعارضين بإن الحكم السعودي لن «ينصلح» من ذاته. وحتى في حال استجاب الملك السعودي أو غيره من حكام المنطقة إلى اقتراح صندوق النقد الدولي بتنشيط القطاع الخاص، فمن غير المتوقع أن يؤدي ذلك إلى النتائج التي يتمناها خبراء الصندوق. فلا تتوفر للقطاع الخاص في السعودية وغيرها من دول الخليج العربية، حياة خارج العوائل الحاكمة. ولا تتوفر للقطاع الخاص إمكانات الحراك الذاتي، ناهيك عن النمو، بدون الدعم الحكومي المباشر وغير المباشر. ويتمثل الدعم المباشر في عقود المشاريع الحكومية المجزية التي تُمنح لكبار المتنفذين في السوق الذين يقومون بدورهم في توفير الفرص للشرائح المتوسطة والدنيا من رجال الأعمال. بفضل علاقة التبعية المتسلسلة، بقيَ القطاع الخاص على حاله رهينة لإرادة العائلة الحاكمة سياسيا، كما استمر عاجزاً عن القيام بدور اقتصادي مستقل يتجاوز دوره التقليدي المقرر كإحدى القنوات التي تعتمدها العائلة الحاكمة لتوزيع الريع النفطي. وازداد وضوح هذا الدور منذ بدء «الربيع العربي» من خلال ما وفرته «المكرمات» المتتالية التي وزعها ملوك وأمراء المنطقة منذ بداية 2011.
الصناديق السيادية: ريعٌ مؤجل
لن يسبب انخفاض سعر برميل النفط إلى 80 دولارا أو حتى إلى 70 دولارا خطراً وجودياً على ملوك وأمراء الخليج. ولكنهم لا يستطيعون التقليل من جدية التحذيرات التي سمعوها من لاغارد وغيرها، حول تداعيات الأزمة الرأسمالية العالمية بشكل عام وانخفاض عائدات النفط بشكل خاص. بالمقابل لا يمكن المبالغة في تأثير تلك التداعيات في قدرة العوائل الحاكمة على الإمساك بزمام الأمور في بلدانها. بل توفر الضجة الإعلامية حول انخفاض سعر برميل النفط غطاء لتسويق استجابة الحكومات الخليجية لنصيحة صندوق النقد الدولي الداعية لتقليص ملحوظ في الإنفاق الحكومي عن طريق إلغاء أغلب أوجه الدعم الحكومي وخصخصة الخدمات الأساسية، خصوصا التعليمية والصحية. فليس متوقعاً خروج تظاهرات الخبز في شوارع ابوظبي أو الدوحة احتجاجاً على إلغاء الدعم الحكومي لأسعار سلع استهلاكية أو بسبب رفع سعر البنزين. وحتى حين تخرج تلك التظاهرات في مدن في السعودية أو عُمان أو البحرين تتولى التعامل معها قوى الأمن الداخلي والحرس الوطني التي لا يتوقع احدٌ أن يطالها تقليص الإنفاق الحكومي. من المتوقع أن تمتص الصناديق السيادية الخليجية (التي تزيد قيمتها على 2.5 تريليون دولار) قسماً كبيراً من العجز المالي المتوقع خلال السنوات القادمة. فعائلة آل نهيان الحاكمة في أبو ظبي على سبيل المثال تمتلك سبعة صناديق سيادية تزيد قيمة أكبرها على 773 مليار دولار. ولا شك إن هذه الأموال ستساعدها لسنوات عدة على استيعاب التداعيات المالية الناجمة عن انخفاض قيمة عائداتها النفطية. ويتشابه الوضع بالنسبة للعوائل الحاكمة في السعودية والكويت وقطر. لقد مُنيت تلك الصناديق بخسائر كبيرة في أثناء الأزمة المالية في العام 2008 بسبب عدم شفافية إدارتها وسوء استثماراتها العقارية في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا. إلا إنها ما زالت تمثل احتياطا ماليا معتبراً للعوائل الحاكمة في بلدان الخليج.