حين قال الشاعر الروماني جوفينال «أعط الناس ما يحتاجون اليه... أعطهم خبزاً وسيركاً» كان يسخر من اسلوب حكم يتمثل في إلهاء الناس بعيداً عن مشاكلها الحقيقية. وهو وصفٌ أستعيده كلما ملَّ طلبتي من سماع أمثلة أسوقها عن ممارسات الدولة الريعية في بلدان الخليج العربية. فالخبز، متمثلاً بالمكرمات الملكية والسلطانية والأميرية، والسيرك، متمثلاً في قائمة تكاد لا تنتهي من المهرجانات، يقومان بمهمات سياسية حيوية. كلاهما يحافظ على إبقاء اهتمام الناس بعيداً عن التجاوزات التى يرتكبها أهل السلطة ضدهم.
فالتنافس بين الناس على لقمة العيش (التي لا تأتي إلا في صورة مكْرمة) يقدم للعوائل الحاكمة فرصاً إضافية لكي تُشْغل فئات المجتمع ببعضها البعض. ويلعب الدور نفسه انشغال الناس بالمهرجانات وتنافسهم على «الفوز» فيها. إلا إن الخبز والمهرجانات ليسا كافيين. ولهذا لا بد من تفعيل أدوات إضافية لنشر الخوف بين الناس... الذي لا ينحصر في الخوف من الأجهزة الأمنية رغم ضرورة وجوده. فهذا النوع من الخوف غير مأمون منفرداً حين يكتشف الناس أن الأجهزة الأمنية هي نفسها مصدر الخطر على سلامتهم وأمنهم. الخوف المطلوب هو خوف غامض المصدر، خوف من الآخر ومن المجهول. خوفٌ على المستقبل ومنه في آن واحد. عندها تبرز العوائل الحاكمة وتقدم نفسها كضامنة للمستقبل وحامية لقيم المجتمع وتراث الأجداد. عندها أيضاً تصبح الأجهزة الأمنية، رغم تجاوزاتها وفسادها، هي مصدر الأمان للناس.
نانسي وهيفاء وعبَدة الشيطان
والبُويات، ومخاطر أخرى
رغم قواسمها المشتركة، تختلف تفاصيل الصورة في بلدان الخليج العربية. وسأكتفي فيما يلي بأربعة أمثلة من تفاصيل بحرينية. في 2003، وقف أحد النواب السلفيين معترضاً على السماح للمغنية اللبنانية نانسي عجرم بإقامة حفل في البحرين مشيراً إلى انها «تعتمد في تسويق اغانيها على اغراء الشباب والخروج عن الحشمة». وبدون مقدمات، تطور ذلك الاعتراض إلى حملة «شعبية» شارك فيها رجال دين سنة وشيعة، وقوى سياسية. وسرعان ما تحولت إلى مواجهات في شوارع العاصمة البحرينية تخللها إطلاق رجال الشرطة الرصاص المطاطي والقنابل المسيلة للدموع لتفريق المحتجين. وتكررت الاعتراضات حين جاء دور المغنية اللبنانية هيفاء وهبي لإحياء حفلة في البحرين. وصدر بيان وقعته عشرات الجمعيات السياسية ومؤسسات المجتمع المدني بما فيها جمعيات الأصالة (سلفية) والمنبر الإسلامي (إخوانية) والوفاق (شيعية) التي يمثل نوابها أغلبية أعضاء البرلمان البحريني.
في 2004 اتجه الاهتمام السياسي/الإعلامي إلى أخبار راجت عن أنشطة يقوم بها «عبدة الشيطان» في البحرين. لم تنقطع خلال العشر سنوات الماضية الإشارات الإعلامية وبيانات وزارة الداخلية والجمعيات السياسية إلى الخطر المحدق الذي يمثله «عبدة الشيطان» على قيم المجتمع ومستقبل أجياله. فهؤلاء بحسب ما ذكرت إحدى الصحف هم جماعة تدعي أن طقوسها «تمكنهم من الحصول على القوة الشيطانية». تتفاوت التفاصيل التي سربها «المطلعون» عن الطقوس التي يمارسها المشاركون والمشاركات في الحفلات التي تقيمها الجماعة في قاعات الفنادق الكبرى. فهم يرقصون على «موسيقى البلاك ميتال الصاخبة وموسيقى الروك». وهم يتعاطون «الخمور والمخدرات ومن ثم ممارسة الجنس الجماعي فيختلط كل شيء لديهم ويمارسون الزنا واللواط ويقومون بعدها بذبح قط أسود أو أي حيوان له اللون ذاته ويشربون دمه» (الوسط 27/4/2004).
في السنوات التالية، برز اهتمام سياسي وإعلامي مماثل بخطر «انتشار ظاهرة الجنس الرابع» أو ما يُعرف محلياً بـ«البُويات»، أي «الفتيات المســترجلات» بحسـب لغــــة الخطاب الإعلامي السائد. ينشر الإعلام الرسمي ووسائل الإعلام الاجتماعي ومنابر المساجد أخباراً تزيد من الإحساس بالخطر الداهم على القيم والأخلاق من جهة، وعلى مستقبل الوطن نتيجة لاسترجال النساء. ويصور ذلك الخطاب ان خطر «المسترجلات» داهم، فهن «موجودات في كل مكان بحيث لا يخلو منهن صف في مدارس البحرين الإعدادية والثانوية» (أخبار الخليج 10/5/2008). وتُنشر أخبار غير موثقة عن مآس ناجمة عن الغيرة أوعن قيام «البويات» باغتصاب من يرفضن الرضوخ لهن أو عن حفلة زفاف تمت في مدرسة بحضور جميع الطالبات (تتكرر، وبصياغات مختلفة الحكايات غير الموثقة عن حالات الاغتصاب والتحرش الجنسي بين طالبات المدارس، والزفاف المثلي في قنوات الاتصال الاجتماعي). وبسبب التضييق على حرية التعبير، لا يمكن مواجهة مبالغات الخطاب الإعلامي/الديني/السياسي الذي يعتبر كل خروج عن الصورة النمطية للمرأة استرجالاً وتهديداً للقيم والتقاليد.
طفل في الخامسة يقبل طفلة في الخامسة
في بداية حزيران/ يونيو الجاري، انتشرت في البحرين صورة طفلة وطفل في الخامسة من العمر يقبلان بعضهما بعد تبادل الهدايا في حفلة عيد ميلاد أقيمت في روضة الأطفال بحضور أمهات الأطفال ومدرساتهم. ضاعت في الضجة إن والدة الطفلة صاحبة العيد هي من أخذ الصورة وإن إحدى المعلمات هي من نشرتها في الصفحة الخاصة بالروضة على الأنستغرام.
كان يمكن لتلك الصورة أن تكون كما هي، تسجيلا عاديا وبريئا لحدثٍ عادي يتكرر كل يوم في الحضانات أو المنازل، حين يحتفل الأهل والمدرسون بأطفالهم ويتفاخرون بهم. إلا إن البحرين «غير» كما يقول ملصق للترويج السياحي. فلم يمر وقتٌ طويل حتى قامت حملة للدفاع عن أخلاق المجتمع وقيمه. وهي حملة تصدرها وزير التربية والتعليم في بيان أعلن فيه أن روضة الأطفال خالفت «الأعراف والقيم والمبادئ التربوية الحاكمة للعملية التعليمية في مملكة البحرين، من خلال نشر صورة طفل يقبل زميلته بصورة غير لائقة في احتفال أقيم داخل الروضة وبعلم إدارتها». على ضوء ذلك قرر الوزير سحب ترخيص الروضة لقيامها بنشر صورة تخالف «الآداب والقيم وتعد انتهاكاً لحقوق الطفل».
لم يجد الوزير ضرورة لتبيان ما هي الشروط اللازمة لقيام طفلة في الخامسة بتقبيل طفل آخر في «صورة لائقة». ولم يتوقف الوزير للبحث عن بدائل لاستيعاب 250 طفلاً وطفلة بعد إغلاق روضتهم ولا لتشغيل العشرات من معلمات الروضة وبقية العاملين فيها. لم يكن الوزير في حاجة إلى فعل أكثر مما فعل كي يؤكد أن الخبز والسيرك لا يكفيان لإدامة أنظمة الاستبداد.