غذاء اليمنيين المحروس بشواهد القبور

أصل وفصل أكثر الاطباق شهرة في شمال اليمن: "السلتة" أو كيف تخفي عادات الأكل الغريبة فزعا تاريخيا من التجويع.
2019-04-04

ريان الشيباني

كاتب وفنان تشكيلي من اليمن


شارك
مغني سيف - سوريا

يذهب المُحكى الشعبي اليمني لاعتبار "السلتة" - وهي وجبة الشمال الأكثر شهرة - تطوراً لطبق أبتكره الخدم المحليون، في فترة استعبادهم من قبل الحامية العثمانية التي هيمنت على البلد حتى أوائل القرن العشرين. تروي الحكاية أن دَرَك امبراطورية الخلافة درجوا على إبعاد الخدم المحليين عن الموائد، عندما يحين وقت تقديم الطعام. وحين يشعرون بالتخمة، يسمحون للبائسين الجوعى التصرف بما تبقى على الموائد من فتات.

وفي فوضى المواعين، يتهافت الخدم لجمع بقايا الطعام في آنية فخارية.. يصبون حساء اللحم ورغوة الحلبة عليه، ويسخنونه، لتخترع حالة العوز هذه وجبة "السلتة" الأكثر شهرة وشعبية. يعزز مصداقية هذه الحكاية، الاسم "التركي" للطبق والطريقة التي يعد بها من حيث كونه تجميعاً مستعجلاً لبقايا غير متجانسة من الطعام.

فالطباخ الذي لا يحتاج للخبرة، يرمي بإناء حجري فوق موقد مرتفع يطل من جوفه أنبوب غاز يكاد من شده إندفاع النار فيه أن يرفع الإناء الثقيل. يصب حساء اللحم الأحمر والبطاطا والحلبة ويضيف إليه البيض والأرز باسلوب ارتجالي، ويترك المزيج ليسخن، ليقدم على طاولة الزبون، فائراً مثل فوهة بركان.

في الخارطة اليمنية، يمكن أن تحدثك العادات الغريبة للطعام عن تاريخ من التجويع، انتهجته أنظمة ما قبل "ثورة 26 سبتمبر 1962" لشعب حاول تكريس عكس ذلك بكرمه وإيثاره.

المجاعة القديمة في قريتي النائية

قضيت العشر السنوات الأولى من عمري في ريف نائي جنوب مدينة تعز. وأتذكر من تلك الفترة كيف كان رجال القرية يلجأون إلى الأحراش وفجوات الجدران الحجرية للمدرجات الزراعية للبحث عن ممالك دبابير البلح، لابادتها والاستحواذ على بيوتها الطينية.

في هذه الممارسة، التي تبدو وكأنها آتية من زمن بدائي، يتخذ أهالي القرية من اليرقات المتشرنقة داخل بيوت طينية سداسية مغطاة بالحرير الأبيض، غذاء لهم. وبتكريس خرافة أن لهذه الديدان منفعة جمة لأوجاع الظهر والمفاصل، تستقبل العائلات بترحاب جموع الفاتحين المنتصرين على الممالك اللاسعة لتقوم النساء ببقية المهمة.. يتناولن ألواح الطين وينزعن الأغطية الحريرية عن الشرنقات الجميلات النائمات ليضعنها مقلوبة فوق (القلايات) المغطاة بالسخام، ويشعلن الحطب أسفلها، فتتساقط اليرقات التي ترفض مغادرة شرنقتها دون هذا الشكل المأساوي من الاستدعاء.

أما وقد أضيف الملح وقليل من الماء إلى الحركة البضة والدؤوبة للديدان التي تحاول فزعاً تسلق جدران المقلاة، يترقب الصبية وجبتهم، بشغف يروي مأساة قرون أجبر فيها الناس على التجرؤ على الطبيعة لابتكار هذا الغذاء.

بعد سنوات أخرى، اتجهت شمالا إلى ريف أكثر تمدناً. وفي البرية، بين المواشي التي أرعاها، تتبعت دبوراً حتى مملكته، وبعد قتال شرس معه، هزمته، وكافئت نفسي بيرقة حية، ولم أكن أعلم أني سأصير سيركاً للفرجة لدى نظرائي من الصبيان الذين عادوا إلى منازلهم مندهشين من تناول إنسان لـ"دودة".

ولأن هناك مثل شعبي يقول "الأعور فكاهة في بلاد العميان"، اكتشفت، مع طول الإقامة، أن لهذا الريف "المتطور" عاداته الغذائية الغريبة. وقد شاهدت السكان المحافظين يتناولون نوعاً من الحشرات، أحلّوه لأنفسهم دون عناء البحث عن مسوغ ديني.

يحل الصيف اليمني، فيستبشر القرويون المعتمدون على حقولهم بقدومه، ثم وقد أدلهمت السماء، وقصفت الرعود، وهطل القطر، ينتظر الأهالي بصبر توقف المطر لينطلقوا إلى الأجمات الطينية، التي تتفتح فجواتها على ممالك من النمل الأسود الطائر. ويقام هناك مارثون لتقاسم هذه الحشرات مع طيور السنونو. ومن حينها وأنا أعتقد أنه ما من سبب آخر للمثل الشعبي القائل: "لو غضب الله على النملة، أريشت" (أي منحت جناحين).

تروي الحكاية أن دَرَك الحامية العثمانية درجوا على إبعاد الخدم المحليين عن الموائد، عندما يحين وقت تقديم الطعام. وحين يشعرون بالتخمة، يسمحون للبائسين الجوعى التصرف بما تبقى على الموائد من فتات.

يلتقط السكان النمل الجذل الذي يدعونه "شظوية" ويودعونه في قناني المياه البلاستيكية، لحظة استعداده للإقلاع مغادرا مسكنه الطيني المبتل. وعند العودة إلى المنازل، يتم شواء النمل بالطريقة ذاتها التي تعد بها يرقات الدبابير. وقد تلتهم نيئة، حال ينتاب المرء لحظة كسل طفولية.

وبالرغم من أنه لم يتم تكريس هذا الغذاء على إنه دواء لأي من الأسقام، إلا أن البالغين من الأهالي يحبذون كثيراً أكل هذه الحشرة.

قصيدة شعبية لهاني الفحام أتت على ذكر "الشظوية" في معرض هجاء للحب الزائف، حين قال: "واللي ما يعرفش معنى الحب، يُلقِط شظوية". أما أنا، وقد شاركت الصبية الأكل النيء لـ"الشظوية" ذات مساء، عدت لأمي مبتهجاً وعندما سألتني عن الشيء الذي آكله، أخبرتها:

- شيء ما يشبه الصراصير.

على الأعم، يبقى موسم هطول الأمطار فرصة لجلب الأمهات للجراد من الحقول، وإهدائها لصغارهن المترقبون لعودتهن. وهناك أيضاً نوع من الكمآت ينشغل الناس بالبحث عنها تحت أشجار السدر، فيما يرى آخرون في أصماغ الأشجار وثمارها حيلاً لذيذة لإسكات الأمعاء الخاوية.

فمحاصيل البن والذرة والسمسم واللوبياء، ذات الطبيعة النقدية، كانت هدفاً لسلطات الجباية لدولة الخلافة العثمانية ولحكم "الإمامة"، ما جعل القرويون يبحثون عن غذائهم في نباتات غير موسمية، ولا تحتاج إلى عناية حقلية، ومن ذلك نبات يدعى "العلفق"، أو "الحلص".. وإلى حد ما يمكن أن يسري الأمر على نبتة "الملوخية" ذات الوجود البري.

.. والمجاعة الماحقة اليوم

في وقت ما من العام 2018، نشرت وسائل الاعلام العالمية، صوراً لمواطنين يمنيين جوعى في ريف محافظة حجة، (شمال غرب اليمن)، يطبخون أعشاباً، كوجبة وحيدة في بلد تعصف بأغلبية سكانه مجاعة ماحقة.

ومن صور القدر الذي يغلي تحت نار الحطب، نميز أوراق "العلفق" أو "الحلص"، وهي تسمية دارجة لنبات حمضي متسلق، وقد أتى الموروث الشفاهي على تخليده في حكاية واحدة على الأقل.

تتحدث الحكاية عن يمني فر من المجاعة إلى الحبشة وتزوج فيها امرأة حبشية جميلة، وفي سنوات الرخاء التي أعقبت "ثورة 26 سبتمبر"، استطاع المغترب اليمني جلب زوجته معه في رحلة العودة إلى اليمن بخدعة رومانسية. قال لها: في بلدي يجنون عناقيد العنب من شرفات النوافذ. وفي قريته الصغيرة، تفاجأت الزوجة بحالة الجدب المحيط بها، فسألت زوجها بامتعاض: أين عناقيد العنب التي تتدلى من الشرفات؟ وفاجأها رده: إلحقيني، سأريك إياها. قادها إلى سور المقبرة المسورة، خارج القرية، وأشار لها إلى عريشة كثيفة متشابكة من "العلفق" تتدلى منها ثمار بلا فائدة تشبه العنب الأصفر، تتخطى جزء واسع من السور باتجاه الخارج، وقال لها:

- ها هي ذي!

يموت الواحد في الريف اليمني، فلا تجرؤ عائلته ومحبوه على مغادرة قبره قبل غرس شتلة من نبات العلفق بجانب الشاهد الحجري المنتصب. ويحمل هذا الطقس الجنائزي دلالته الدنيوية لدى القرويون الذين يرون في أسطح القبور حرماً يتجنب الجميع الوطء عليه، وبالتالي بيئة مناسبة لحماية هذه النبتة واستدامة بقاءها. وها قد جاء الوقت لمن يعتمد عليها اعتماداً كاملاً.

محاصيل البن والذرة والسمسم واللوبياء، ذات الطبيعة النقدية، كانت هدفاً لسلطات الجباية لدولة الخلافة العثمانية ولحكم "الإمامة"، ما جعل القرويون يبحثون عن غذائهم في نباتات غير موسمية ولا تحتاج إلى عناية حقلية.

في الظروف العادية، يتجه الرجال والنساء، في الصباحات الباكرة إلى المقابر التي تبدو بعرائش هذا النبات كما لو أنها حدائق، ويقطفون حاجتهم من الأوراق الغليظة لـ"العلفق" التي تكون بحجم نصف الكف المطوية، ليتم غليها بالماء فوق موقد الاحجار، وإضافتها بعد هرسها إلى "الحقين" (اللبن الرائب) وأكلها مع وجبة عصيدة الذرة السمراء. ويحرس الأهالي هذه النبتة في الوعي الجمعي، بإضافة فوائد صحية لأكلها وشرب عصارتها، ومن ذلك القضاء على الديدان المعوية.

ومع موجة التجويع الجديدة، عاد اليمنيون وقد جردتهم كارثة من صنع البشر من كل أساليب معيشتهم.. عادوا إلى غذائهم المحروس بالموتى، وألتهموه بنهم إنسان ما قبل الدولة..

اقرأ/ي أيضا:

في عددها الصادر في حزيران/ يونيو 2012، وفي استطلاع لها حول أرخبيل سقطري، نشرت مجلة "ناشيونال جيوغرافيك" صورة لنبات دهني أصفر فاتح له ورود حمراء يسميه السكان المحليون "المزاهير"، وقالت ان الناس يحافظون عليه باعتباره غذاء طوارئ لسكان الأرخبيل في أوقات المجاعة.

قشور القهوة بدلاً من لبها

وحتى في مشروب القهوة، يذهب الكثيرون إلى اعتبار استخدام اليمنيين لقشور البن، والزهد عن لب ثمارها إلى ممارسات سلطات الاستبداد والجباية، التي نُكب بها هذا الشعب ردحاً طويلاً.

فالحكّام بأمر الله، وحتى مطلع القرن العشرين، فرضوا حظراً على تصرف الفلاحين بمحاصيلهم من البن، بقانون أن يتم توريد محصول البن إلى بيت مال المسلمين، مقابل السماح للفلاحين بالتصرف بالقشور التي ينزعونها عن الثمرة السمراء للقهوة.

ومع إن بعض هؤلاء الحكام، كانوا يحرِّمون - في وقت ما - شرب القهوة، إلا أنهم حرصوا على حرمان الفلاحين من محاصيلهم ليصدروها إلى الخارج، كأحد أهم مصادر التمويل. "البالة"، وهي أشهر قصيدة يمنية مغناة، كتبها الشاعر والمؤرخ مطهر الارياني، سجلت هذا الموقف في شطر منها: "والبن للتاجر المحظوظ والطاغية".

يقال إن استخدام اليمنيين لقشور البن والزهد عن لب ثمارها يعود إلى ممارسات سلطات الاستبداد والجباية. فالحكّام بأمر الله فرضوا حظراً على تصرف الفلاحين بمحاصيلهم من البن، لتورد إلى بيت مال المسلمين، مقابل السماح لهم بالتصرف بالقشور التي ينزعونها عن الثمرة السمراء.

ومع أنه، في الفترة التي تلت الاستقلال والثورة، أتيح للفلاحين التصرف بثمارهم، إلا أن وعيهم التحوطي جعلهم حتى وقتنا الحاضر يفضلون قشور البن على لبابه. وها نحن بصدد وضع لائحة وطنية للتذكير بالفوائد الجمة للرضا بقشور العيش وفتاته.

في ايلول/ سبتمبر الماضي، روى لي عجوز معمِّر احتفل هذا العام بعامه المائة، قصة من ذلك الزمان العابر، ومن هذه البلاد التي لم تبارح أقدارها. قال:

- كنت فقيراً في شبابي مثل كل اليمنيين، ومعدماً إلا من نخلة ورثتها عن أمي. وفي إحدى سنوات القحط يبست أعذاقها، فجف بلحها وتساقط. وفي الخريف جاء موسم الحصاد الذي حمل معه عساكر الإمام الذين طالبوني بخراج النخلة. قلت لهم: "النخلة هذه السنة لا خراج لها". وبدلاً من الذهاب رفضوا المغادرة حتى آتي لهم بثمار النخلة، مبررين الأمر بأنه لا يمكن أن أتنصل عن حقوق الدولة وهناك نخلة في سجل ملكيتي.

مقالات من اليمن

تحوُّلات العاصمة في اليمن

يُعدّ الإعلان الرئاسي عن نقل العاصمة الى "عدن"، في معناه القانوني، إجراءً رمزيّاً، لأن نقل العاصمة يقتضي إجراء تعديلات في الدستور اليمني، الذي لا يزال ينص على أن مدينة "صنعاء"...

للكاتب نفسه