الميزانية السعودية: شدّ الحزام على بطون الفقراء

 في نهاية كانون أول/ ديسمبر الماضي أعلنت وزارة المالية السعودية عن ميزانيتها لعام 2014 ( 1435-1436 هجرية) التي بلغت 855 مليار ريال (228 مليار دولار). كسابقاتها، لم تتضمن أرقام الميزانية الأخيرة تفاصيل مخصصات وزارات الدفاع والداخلية والمؤسسات الأمنية الرديفة، إلا أن أغلب التقديرات تشير إلى أن المخصصات المباشرة لهذه الوزارات لن تقل عما كانت عليه في العام السابق أي ما يزيد عن ثلث
2014-01-15

عبد الهادي خلف

أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة لوند ـ السويد، من البحرين


شارك
(من الانترنت)


في نهاية كانون أول/ ديسمبر الماضي أعلنت وزارة المالية السعودية عن ميزانيتها لعام 2014 ( 1435-1436 هجرية) التي بلغت 855 مليار ريال (228 مليار دولار). كسابقاتها، لم تتضمن أرقام الميزانية الأخيرة تفاصيل مخصصات وزارات الدفاع والداخلية والمؤسسات الأمنية الرديفة، إلا أن أغلب التقديرات تشير إلى أن المخصصات المباشرة لهذه الوزارات لن تقل عما كانت عليه في العام السابق أي ما يزيد عن ثلث الميزانية. ولم تتضمن الميزانية، كسابقاتها، ما يتعلق بالميزانيات المخصصة للملك ولبقية أفراد العائلة المالكة.
إلا أن ذلك لم يخفف من تهليل الإعلام الرسمي لتلك الميزانية التي قيل عنها إنها «ميزانية تاريخية» لمجرد أن بند المصروفات فيها لم يتجاوز بند الإيرادات. ولم تنسَ تحليلات صحفية الإشارة إلى أن الميزانية الأخيرة تؤكد جدية التوجه الحكومي إلى» كبح جماح النمو عبر خفض الإنفاق الحكومي الذي سجل في السنوات العشر الماضية ارتفاعا مستمراً يزيد على 10 في المئة سنوياً».
 ظل ذلك الحماس محصوراً في نطاق المسؤولين الحكوميين والإعلاميين الرسميين وقابلته خيبة أمل ملحوظة في أوساط ذوي الدخول المتوسطة والمحدودة، الذين توقعوا أن يعلن الملك مكرمة جديدة لرفع الرواتب والإعانات الاجتماعية. فما بين الفئتيْن «تناقضٌ لافتٌ» (حسب تعبير الاقتصادي السعودي عبد الحميد العمري، «الاقتصادية»، 30/12/2013)، فبينما يتحدث المسؤولون عن منجزات ترتفع أصوات المواطنين بالشكاوى والمطالبات.

مليار دولار في اليوم
لا يعني خفض تقديرات المصروفات أن السعودية تعاني من ضنك مالي أو أن الملك السعودي وأشقاءه وبقية الأمراء والمتنفذين في المملكة يعانون من ضائقة مالية. فإنتاج السعودية النفطي وحده يدِّر دخلاً يزيد عن مليار دولار يومياً. وحسب تقاليد مرعية في المملكة كما في غيرها من بلدان الخليج، تُحتسب وارداتها النفطية على أساس سعر يقل بـ 20 إلى 30 دولارا للبرميل عن متوسط سعر السوق العالمي الذي تخطى منذ 2010 حاجز المئة دولار للبرميل. مما يعني بالنسبة للسعودية أن مبلغاً يتراوح بين 85 و100 مليار دولار سنوياً لم يدخل في السنوات الأربع الماضية ضمن بند الواردات، بل يبقى تحت تصرف ولاة الأمر. يضاف إلى هذا المبلغ عوائد إستثمارات تزيد على 680 مليار دولار يديرها صندوقان سياديان سعوديان في الخارج.

نصائح صندوق النقد الدولي
في منتصف 2012 ومنتصف 2013، أصدر صندوق النقد الدولي تقريريْن إيجابييْن عن مباحثات خبرائه مع المسؤولين السعوديين. لم يتعرض التقريران للفرص الإقتصادية الضائعة بسبب ما تستنزفه صفقات التسلح أو الفساد. إلا أن التقريريْن كررا الإشارة إلى الخلل الهيكلي الذي يعاني منه الاقتصاد السعودي جراء اعتماده على عوائد النفط التي تشكل 90 في المئة من واردات ميزانية المملكة، مما يجعل السياسة الاقتصادية رهينة لتقلبات السوق النفطية العالمية.
كما كرر التقريران أيضاً التحذير من «ألا تكون أوضاع سوق النفط العالمية مؤاتية للسعودية خلال السنوات القليلة القادمة بقدر ما كانت عليه خلال العقد الماضي». ولهذا ركزّت مناقشات وفد صندوق النقد الدولي مع المسؤولين السعوديين على محاولة التوصل إلى صيغ ملائمة من «وصفة إعادة الهيكلة الاقتصادية» التي فرضها صندوق النقد على دول أخرى، كوسائله للخروج بها من أزمات اقتصادية قائمة أو متوقعة. فالسعودية ليست مصر أو الأردن أو تونس أو غيرها من دول، عربية وغير عربية، طبقت وصفة صندوق النقد الجاهزة، فواجهتها الناس بما يُعرف بانتفاضات الخبز. وإعادة هيكلة الإقتصاد السعودي ليست في حاجة إلى إجراءات الصدمة التي شهدتها تلك الدول. إلا أن السعودية بكل ما لديها من قدرات مالية واحتياطات نفطية ليست قوة اقتصادية مستقلة تستطيع التملص من الخضوع إلى شروط صندوق النقد الدولي (علاوة على التزامات يفرضها كل من البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية). لهذا لم يكن مستغرباً أن تتركز المباحثات بين الطرفين، حسبما ذكر تقرير خبراء الصندوق (24/6/2013) حول مجاليْن، أولهما «السياسات اللازمة لمواجهة القضايا الاقتصادية والاجتماعية ارتفاع معدل البطالة والإسكان وتزايد استهلاك الطاقة»، وثانيهما «الحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي مع تعزيز النمو غير النفطي».

رفع الدعم الحكومي و... 
تمكن إعادة قراءة بنود الميزانية السعودية الأخيرة باعتبارها خطوة أولى، أو بالأحرى اختبارية، على طريق تطبيق التوصيات التي قدمها خبراء صندوق النقد الدولي. ومن بين تلك التوصيات: تركيز الإنفاق على المشروعات الرأسمالية، والبدء في تخفيض النفقات الجارية، وإعادة التسعير المحلي لمنتجات الطاقة. كما تضمنت تطبيق ضريبة القيمة المضافة بهدف توسيع القاعدة الضريبية. إلا أن ترجمة هذه التوصيات إلى إجراءات فعلية قد يؤدي إلى استفزاز ردود فعل شعبية قد لا تختلف في جوهرها عمّا مثلته انتفاضات الخبز في بلدان أخرى. يمتلك النظام السعودي قدرات أمنية واسعة يستطيع بواسطتها، وبواسطة تحريك جيش من الإعلاميين ورجال الدين، أن يواجه أغلب الردود الفعلية المحتملة.
لن يكون صعباً على السلطات السعودية خفض الإنفاق الحكومي عبر تأجيل عدد من المشاريع الملحة لتحديث البنية التحتية وخاصة في مناطق الأطراف.
فلقد تعوَّد الناس على تأجيل المشاريع التنموية، وحتى إلغائها، منذ أن أعلنت الحكومة السعودية في 1970 أول خطة خمسية للتنمية. فبعد تسع خطط خمسية للتنمية، صار مفهوما للجميع عدم جدية تلك الخطط وما تعلنه من أهداف عامة، من قبيل «زيادة معدل نمو الإنتاج المحلي الاجمالي، وتطوير الموارد البشرية لتتمكن عناصر المجتمع المختلفة من زيادة مساهمتها الانتاجية وتمكينها من المشاركة الكاملة في عملية التنمية، وتنويع مصادر الدخل الوطني، وتخفيف الاعتماد على البترول عن طريق زيادة مساهمة القطاعات الانتاجية الاخرى في الانتاج المحلي الاجمالي»... كما تعود الناس أيضا على التعايش مع واقعٍ «لا يطابق بنسبة كبيرة ما دُوِّن في تلك الخطط... وتحديداً في القطاعات الحيوية التي تمس المواطن بشكل مباشر، مثل التعليم والصحة والشؤون الاجتماعية والإسكان والعمل» (جريدة «الرياض» 6/10/2012).
ولن يكون صعباً أيضاً تسويق فرض ضريبة القيمة المضافة بعد توفير الفتاوى الدينية وتحشيد الدعم الإعلامي لها. إلا أن الأمر يختلف حين يتعلق بإلغاء الدعم الحكومي للسلع الغذائية او الديزل أو الكهرباء في بلد تعتمد الشرائح الفقيرة والمتوسطة من مواطنيه على ذلك الدعم كي لا تسقط في شراك الفقر. لهذا تتحسس السلطة السعودية طريقها بحذر ملحوظ. فكل المخارج أمامها تقود إلى مسارات محفوفة بالأخطار. ففيما عدا تقليص أوجه الإنفاق غيرالمجدي الأخرى، لن تجد السلطات السعودية وسيلة لإبقاء الدعم الحكومي للسلع الأساسية على مستوياتها الراهنة.
من جهة ثانية، وهي الأهم من وجهة نظر العائلة المالكة، فإن لإبقاء مستويات الدعم الحكومي على حالها كلفة خارجية. فاستمرار الدعم الحكومي يستدعي مواجهة مع كل من منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي اللذيْن يعتبران كل أنواع الدعم، وخاصة تعرفة الكهرباء وأسعار منتجات النفط والغاز، هي أداة تنافسية غير مقبولة. والرياض، في هذه الأيام على وجه الخصوص، لا تمتلك القدرة على الدخول في معركة خاسرة كالتي خاضتها طوال عقديْن تحت شعار «تحقيق الإكتفاء الذاتي من الحبوب» قبل أن ترضخ تماماً في 2008 للضغط الأميركي وتلغي الدعم الحكومي لإنتاج القمح والحبوب.

المختبر البحريني 
لم تعد المسألة تتعلق بإلغاء الدعم ولكن بتوقيته وآلياته وجدوله الزمني. ولهذا تتابع السعودية مجريات الأمور في البحرين التي استجابت حكومتها مبكراً لتحذيرات صندوق النقد الدولي وأعلنت أنها ستبدأ في منتصف هذا الشهر بإعادة تسعير وقود الديزل تدريجيا، بحيث تتضاعف بحلول عام 2017. وحسب تصريح لمحافظ البنك المركزي في البحرين (4/12/2013)، فإن هذه الخطوة تهدف إلى «تخفيف عبء الدعم الثقيل عن كاهل المالية العامة»، ضمن إجراءات إعادة النظر في دعم المحروقات والسلع الأساسية. حتى الآن، وبسبب الغضب الشعبي، لم تتمكن الحكومة البحرينية، التي تعتمد على حدة انقسام الشارع السياسي، من تمرير قرارها. إلا أن المسؤولين في البحرين لا يشكّون في قدرتهم على تنفيذ قرار رفع سعر الديزل ومن بعده تعرفة الكهرباء وأسعار مواد أساسية أخرى. وهذا ما ينتظره المسؤولون في السعودية.
 

مقالات من البحرين

خيبة م ب س الاقتصادية

كان النزاع المدمر على سوق النفط، ودور السعودية - وبخاصة محمد بن سلمان- في تأجيجه، مقامرة وحماقة في آن. فإن كانت السعودية تخسر 12 مليون دولار يومياً مقابل كل دولار...

للكاتب نفسه

خيبة م ب س الاقتصادية

كان النزاع المدمر على سوق النفط، ودور السعودية - وبخاصة محمد بن سلمان- في تأجيجه، مقامرة وحماقة في آن. فإن كانت السعودية تخسر 12 مليون دولار يومياً مقابل كل دولار...