في بداية شهر هذا الشهر، تشرين الأول/ أكتوبر، أعلن أحد المسؤولين في وزارة الصحة الكويتية عن مشروع يهدف إلى إخضاع الوافدين لفحص طبي للكشف عن المثليين والمتحولين جنسيا. وأضاف المسؤول ان بلاده ستقترح هذا المشروع خلال اجتماع اللجنة المركزية لبرنامج العمالة الوافدة لبلدان مجلس التعاون الخليجي الذي سيعقد في 11 تشرين الثاني/نوفمبر المقبل في سلطنة عُمان. ولم يكشف المسؤول الكويتي عن نوعية الإجراءات والأجهزة التقنية التي سيتم استخدامها في المطارات الخليجية للكشف السريع عن المتسللين من المثليين والمتحولين جنسياً. من جهتها فشلت الوسائل الإعلامية والمنظمات المعنية بحقوق المهاجرين في الحصول على معلومات إضافية عن حجم المشكلة التي سيتصدى القرار لها، وعن نوعية الفحوص التي سيمر بها الوافدون قبل حصولهم على شهادة «لائق للعمل».
الخطر المزدوج
أثار الخبر ردود فعل على المستويين المحلي والخارجي. دعت منظمة العفو الدولية إلى العدول عن فكرة اخضاع الوافدين لفحوصات طبية ترمي الى التحقق من ميولهم الجنسية، باعتبار ان ذلك يشكل «انتهاكاً للحق الانساني الاساسي في الحياة الخاصة». من جهتها اكتفت جمعيات حقوق الإنسان الخليجية بإعادة نشر موقف منظمة العفو وغيرها من المنظمات الحقوقية الدولية وشبكات الدفاع عن حقوق المهاجرين. ولهذا بقيَ الصوت الغالب في الإعلام الخليجي هو صوت المرحبين بالمشروع. فلقد رأى نوابٌ كويتيون فيه «جهداً طيباً للقضاء على مثل هذه الظواهر الغريبة على مجتمعنا والتي لا تتوافق مع شريعتنا وعاداتنا». وقلل المؤيدون للمشروع في مختلف بلاد الخليج العربي من أهمية الاعتراضات الحقوقية على التمييز ضد الوافدين، بما فيها استهدافهم بفحص الميول الجنسية. فتحركات نشطاء حقوق الإنسان كما أشار نائبٌ كويتي «لا تعنينا، فهم ليسوا أوصياء علينا وليسوا هم من يحمي القيم والاخلاق».
ما بين الموقفيْن الخارجي والمحلي، قد يختار المسؤولون الخليجيون التروي فيحيلون الموضوع برمته إلى لجنة لدراسته. أما إذا توافق المجتمعون في11 تشرين الثاني/نوفمبر على فرض ذلك الفحص الطبي، فإن تنفيذه يتطلب وقتاً طويلاً لتذليل العقبات الفنية والإدارية والسياسية التي عادة ما تعرقل تنفيذ القرارات الجماعية في بلدن مجلس التعاون الخليجي.
لا يجد المتابع للأوضاع السياسية في الخليج غرابة في حماسة المرحبين في جميع بلاد المنطقة بالاقتراح الكويتي. فلقد جمع ذلك الاقتراح مصدرين من مصادر الفزع الأخلاقي في الخليج: العمالة الأجنبية والجنس. وفي بلاد الخليج، كما في بلدان أخرى، يسهل انتشار الفزع الأخلاقي بين الناس حين يتم إقناعهم بأن ثمة أخطارا جدية تتهدد استقرار حياتهم الاجتماعية وما يسودها من قيم. ويزداد الفزع الأخلاقي انتشاراً وقبولاً بين الناس حين تتمثل تلك المخاطر في قيم وسلوكيات وأفكار»مستوردة» يجلبها الغرباء. عندها تتزايد أهمية دوريْن للسلطة. أي دورها في تحديد الأخطارالمحدقة بالمجتمع والقادرة على درئها، ودورها كقوة ضامنة لاستمرارالتقاليد والقيم و استقرارها.
"فزاعة" العمالة الأجنبية
طيلة أكثرمن أربعة عقود مرت، منذ الطفرة النفطية، لم تتوقف وسائل الإعلام المحلية عن تفصيل «المخاطر» التي تمثلها العمالة الأجنبية على تماسك المجتمعات الخليجية وثقافتها وتقاليدها بل ومستقبل أجيالها. ولا تختلف في هذا المجال وسائل الإعلام تلك التي تملكها الحكومات مباشرة أو تلك التي تقوم بتمويلها ورعايتها. وساهم أكاديميون ومثقفون ورموزمعتبرة في معارضات سياسية في نشر الفزع من الهجرة الأجنبية. فلم يكن مكلفاً على هؤلاء تفصيل خطر خادمة منزلية من بنغلاديش على تربية أطفالنا وثقافتهم بالمقارنة مع كلفة انتقاد موافقة العوائل الحاكمة على إقامة القواعد العسكرية الأجنبية في أراضي المنطقة ومياهها. ففي بداية السبعينيات مثلاً، انتشرت إشاعة كاذبة عنا ن آلاف العمال الكوريين الذين استُجلبوا لبناء الموانئ الجديدة ومواقع إصلاح السفن في الامارات والبحرين كانوا جزءا من «قوة التدخل السريع» الأميركية. ولم يهتم أحدٌ بحقيقة ان الولايات المتحدة الأميركية التي تتموضع سفنها الحربية في مياه الخليج وموانئه لم تكن في حاجة للجوء للعمال الكوريين لحماية مصالحها. ولم تسع السلطات المعنية المحلية إلى نفي تلك الإشاعة حتى بعد أن تم ترحيل أعداد كبيرة من أولئك العمال إثر قيامهم بإضراب عن العمل لتحسين ظروف عملهم.
اختلفت خلال السنوات الأربعين الماضية تفاصيل «المخاطر» الذي تمثلها العمالة الأجنبية على بلدان الخليج العربية. لا تغيب أغلب هذه التفاصيل عند الحديث عن الهجرة الأجنبية إلى الخليج، إلا ان لكل منها جمهوره ومواسمه. يصعب حصر جميع «المخاطر» التي يتداولها الإعلاميون والسياسيون والأكاديميون المعنيون بالعمالة الوافدة إلى الخليج، لكن هنا بعض عناوينها الرئيسية. فهي قد تكون مخاطر استراتيجية/عسكرية كما كان الحال مع العمال الكوريين في منتصف السبعينيات. وقد تتمثل المخاطر في «عدوى الانحلال الأخلاقي» عبر ممارسات وسلوكيات الوافدين الأجانب على قيم المجتمعات الخليجية، وقد تكون مخاطر ثقافية/تربوية تتعلق بالهوية كما هو حال الوافدات من جنوب شرقي آسيا للعمل في المنازل أوحضانات الأطفال. فلا يكاد أسبوعٌ يمر من دون أن تنشر وسائل إعلامية قصصاً عن أطفال يحفظون أناشيد بلغة مربيتهم البنغالية أو التاميلية، تنديدا بدور المربيات الأجنبيات في تنشئة الجيل القادم في الخليج. وقد تكون مخاطر على اللغة العربية نفسها، فتنتشر المقالات والندوات التلفزيونية التي تتباكى على حال لغة الضاد بسبب سوء استخدام الوافدين لها. وقد تكون المخاطر مالية تتمثل في «ضياع فرص الاستثمار» بسبب تحويل مليارات الدولارات التي يرسلها الوافدون إلى أهاليهم.
شيطنة العمالة الأجنبية
أحد الأبواب الثابتة والمقروءة في الصحف الخليجية هو ما تنقله عن تقارير الشرطة عن مداهمات لبيوت دعارة أو القبض على شبكات أو أفراد يمارسون الدعارة. وهي مداهمات لم تعد محصورة في المدن المعروفة، بل صارت تشهدها مكة المكرمة نفسها في مواسم حج العمرة. وفي كل الأحوال يكون المقبوض عليهم أو الذين تجرى محاكمتهم أو تسفيرهم من البلاد هم من فقراء العمالة الأجنبية الذين لا تتحرج الصحف من نشر صورهم. في أعقاب كل حملة مداهمات تتعالى اصوات الخطباء في الجوامع وعلى صفحات الرأي منددة بالانحلال الأخلاقي الذي تسببه العمالة الأجنبية.
لا يلام من يتابع الصحف الخليجية ويسمع خطباء الجمعة فيها حين يظن أن الدعارة في الخليج هي مهنة مستوردة ولا تنتشر إلا بين الفقراء الأجانب، (قبل الطفرة النفطية كانت المدن الرئيسة في الخليج مثل المنامة ودبي تضم منطقة معروفة للبغايا المحليين من الجنسين).
يسهل الربط بين الدعارة والعمالة الأجنبية، وشيطنتها يقدم للسلطات كبش فداء سهل الوصول إليه والتضحية به كلما استدعت الحاجة. فما ينشره الإعلام نقلاً عن بيانات وزارات الداخلية عن مداهمات لاوكار الدعارة ومحاكمة وتسفير بضع مئات من المقبوض عليهم فيها من العاملات والعمال الأجانب، يرضي قادة الاحتجاجات على ما يعتبرونه مظاهر للتحلل الاخلاقي في بلدانهم. من جهة ثانية تؤكد البيانات والتقارير أن السلطات حريصة على القيام بواجباتها في حماية الأخلاق العامة وصيانتها من التلويث الذي يسببه العمال الأجانب.
سيضيف إخضاع الوافدين للعمل في الخليج لفحص طبي للكشف عن ميولهم الجنسية أداة جديدة لإدارة الفزع الاخلاقي في بلدان مجلس التعاون، علاوة على تشديد قدرة السلطات الحكومية وأصحاب الأعمال على ابتزاز المهاجرين الفقراء. ضمن هذا السياق، يبدو مستغربا تماماً عدم تصدي النشطاء الحقوقيين في الخليج لإفشال إقرار هذا الانتهاك الجديد لحقوق الإنسان في المنطقة، واكتفاؤهم بإعادة نشر مواقف المنظمات الحقوقية الدولية وشبكات الدفاع عن حقوق المهاجرين.