تتميز المناطق الأمازيغية بأصناف من الإبداع الأدبي والفني الموروث تاريخياً، وهي تعد تراكماً إنسانياً مهماً جسد على مدار تاريخ القبائل الأمازيغية صورة حية تعكس تفاعل الإنسان مع محيطه الطبيعي والبشري. وعلى اعتبار الفن تجربة إنسانية خالصة، تسجل انطباعات الإنسان وتكشف رؤاه الداخلية وتأملاته الوجدانية وتصوراته لنفسه والكون، وفهمه للعلاقات والوشائج الرابطة بينهما في تفاعل مستمر، فهو الذي يعبر بجلاء عن هموم أو آمال أو أحاسيس وتأملات مجردة في الخيال ويحولها عبر أنساق إبداعية إلى صور فنية جمالية، يقرأ فيها الناظر صفحات تجربة إنسانية، فردية أو جماعية تتراكم مع الأجيال لتكون ذاكرة حية للجماعة.
فن "أحواش" عند الامازيغيين بالمغرب واحداً من أهم عناصر الذاكرة الفنية عند قبائل سوس وواحات باني درعة بالجنوب، إلى تخوم الصحراء الشرقية بتافيلالت وواحات زاكورة شرقاً. وبتأمل هذه التجربة الفنية المنفردة، وبإجراء مقارنة بسيطة بين أمسها القريب وحاضرها سنكتشف الكثير من المظاهر والفوارق، التي يمكن استنطاقها.
بين الأمس واليوم
"أحواش" من أشهر فنون الرقص والغناء عند الامازيغيين بالمغرب ويحظى باهتمام الكبار والصغار ذكوراً وإناثاً، وهو أقدم تعبير فني بمنطقة سوس جنوب المغرب، ويكتسي أهمية خاصة لكونه رقصة جماعية تجسد تلك الروابط الإنسانية، ليس فقط بين الممارسين لها أو المبدعين في أدائها، بل بينهم وبين الحاضرين وعموم المهتمين. فلا تكاد تمر مناسبة من مناسبات الأفراح عند سكان هذه المناطق دون تنظيم حفلات "رقصة أحواش" والتجند لها إظهاراً للفرح، وكان ذاك موسماً حقيقياً تشد اليه رحال المهتمين به لمسافات طويلة.. وهناك من الشعراء القدامى من يعتبر "أسايس" - وهي مكان أداء "أحواش" - مدرسة حقيقية. ولا عجب أن تجد شيخاً طاعناً في السن له مكانته في المجتمع يقف جنباً إلى جنب مع شاب مبتدئ يرقصان معاً، لأنه ببساطة ينقل قيماً وموروثاً ثقافياً إلى الخلف.
"أحواش" رقصة تؤدى بشكل جماعي في ميدان له خصوصية يسمى عادة "أسايس". والكلمة جامعة لأنواع متعددة ومتباينة من الرقص والغناء منها رقصات ذكورية محضة وأخرى نسوية وأخرى مختلطة. وكان الناس قديماً يؤدونها دون أية مناسبة، اللهم الفرح والسمر والطرب. أما في المناسبات الاجتماعية الكبرى كالأعراس والمواسم فهي من الأولويات. تؤدى الرقصة بعفوية وتلقائية، فكل شيء فيها فطري.
ورغم تنوع أشكال الأداء التعبيري والإيقاعي فيها فالقاسم المشترك بينها أنها كلها مناسبات لنظم الشعر والتعبير الجسدي بالحركة المتناسقة وبالصوت الغنائي المطرب والإيقاع المضبوط الوزن، بالإضافة إلى كونها مجال تنافس لإظهار مواهب الشعراء خاصة الذين هم في بداية مشوارهم الفني.
فن "أحواش" عند الامازيغيين بالمغرب واحداً من أهم عناصر الذاكرة الفنية الأمازيغية عند قبائل سوس وواحات باني درعة بالجنوب، وصولاً إلى تخوم الصحراء الشرقية بتافيلالت وواحات زاكورة شرقاً.
ومنها ما يعرف بـ"أكوال" وهي كلمة أمازيغية مركّبة توحي إلى كثرة القول المفيد "أوال" تصطف فيها النساء وهن في أبهى حلل الزينة أو في حلقة دائرية حول الرجال الذين يتكلفون بضبط الإيقاع الذي يؤدى بدوره بأدوات خاصة، منها ما هو مشترك مع غير الأمازيغيين ومنها ما يرتبط تاريخياً بهم.والأدوات الإيقاعية الأساسية في "أكوال" هي "تالونت" (البندير) وهو إطار من خشب ملفوف بجلد حيواني له إيقاع خاص، لكنه ليس كالبندير المعروف في جبال الأطلس. فصوت "تالونت" البندير الأمازيغي يتسم بالرقة ولكل مقطع غنائي إيقاعه الخاص إذ بضربات البندير يتفاهم الماسكون بها بينهم، ولابد من ضابط للإيقاع أشبه برئيس الجوقة يسمى " أمرياس"( الرئيس)، وهو الذي يتكلف بحسه الفني المرهف وتجربته في الميدان بضبط الإيقاع والتنسيق بين الصوت والحركة والإيقاع، ثم "كانكا" (الطبل) المعروف بإيقاعه المسموع الذي يعلو على جميع الإيقاعات الأخرى.
تبدأ حفلة "أحواش" غالباً بموال افتتاحي بعد أن يأخذ كل واحد موقعه الخاص به، وغالبا ما يكون الافتتاح بالبسملة وطلب العون من الله والمدد وحسن التوفيق أو التوسل بالأولياء والصالحين. وتنقسم الوصلة الغنائية في "أحواش" إلى دورين، الأول يسمى "أمجوكر" أي الرتيب والثقيل في كلماته وحركاته التعبيرية، ثم يرتفع الإيقاع وتتسارع الحركة في تناسق تام مع الغناء حتى يصل إلى مستوى معين يكون من اللازم الانتقال إلى الدور الثاني. وبضربة خاصة من ضابط الايقاع يحول "أمرياس" الإيقاع إلى الدور الثاني الذي يختلف عن الدور الأول (أمجوكر الثقيل) بالسرعة في الحركة والتتابع في الإيقاع والاختزالية في مقاطع الأغنية، ويسمى هذا الدور "أمسوس" ويعني ذلك بالأمازيغية كمن ينفض الغبار عن ثيابه قياساً على حركاته السريعة، وفي نهاية هذا الدور يتوقف الغناء ليحل محله "العواد" (المزمار) حيث يختفي الكلام لصالح نغمات "العواد"، بل في بعض أنواع "أحواش" لا غناء أصلاً بل كل ما فيه "العواد" والإيقاع والحركة.
"أحواش" رقصة تؤدى بشكل جماعي في ميدان له خصوصية يسمى عادة "أسايس". واحواش جامعة لأنواع متعددة ومتباينة من الرقص والغناء، منها رقصات ذكورية محضة وأخرى نسوية محضة وثالثة مختلطة. وكان الناس قديماً يؤدونها دون أية مناسبة، اللهم الفرح والسمر والطرب، أما في المناسبات الاجتماعية الكبرى كالأعراس والمواسم فهي من الأولويات.
وهناك نوع آخر من "أحواش" نسوي بامتياز، وأنواع أخرى تتمايز بخصائص إيقاعية أو بحركاتها الأدائية مثل "أهناقار" أو رقصة "الدرست" المعروفة بمنطقة طاطا في أقصى الجنوب المغربي ، حيث تشكل هذه الرقصة فضاءاً للحوار الشعري عبر سجال بين الشعراء، غالبا ما يكون حول مواضيع اجتماعية أو سياسية أو دينية، تتخللها وصلات من الرقص والغناء. لكن كثير من هذه الأنواع آخذة في الذبول والاختفاء أو التحريف والابتذال.
تسمع أهازيج النساء على الرحى وهن يطحنّ الدقيق أو عند غزل الصوف والنسيج أو عند الحصاد أو ما يعرف عندهم بـ" تازرارت" أو "تامواشت" وهي مواويل غنائية. وتتعالى الأهازيج للتغني بكل جميل ولكل جميل في الحياة في كل محفل أو مجمع أو ملتقى يجمع الأمازيغيين.. عند البناء أو الدرس أو الحرث ناهيك عن الزواج أو الفرح بمولود أو استقبال ضيف أو حاج عائد من مناسك الحج.
رياح التحريف والتبديل
يلحظ المتتبع للتحولات الاجتماعية الكبرى، بما فيها تلك التي عرفتها مناطق سوس جنوب المغرب، انعكاساتها على المستوى الإبداعي والفني. ولم يسلم فن "أحواش" من بعض مظاهر هذا التحول العميق، بغض النظر عن التقييم الذي يحيط به والاحكام سلبية كانت ام ايجابية التي تطاله.
غناء المدَّاحات في الجزائر
21-11-2012
فأزمة الفن الأمازيغي في المغرب عموماً من أزمة الشعر وانحباس المواهب ومسخ الأذواق. فهذه الفنون العريقة لم تعد تحظى بالأهمية على مستوى التذوق والأداء، فتغيرت الكلمات وزاغت الحركات وتسربت أنماط من التعبير إلى دروب "أحواش" وهي غريبة عنه، بل أقحمت فيه عنوة أحياناً فأفسدته ولم تطوره. والملاحظة البارزة التي تتناسل منها باقي الملاحظات الجزئية هي أن الفنون الأمازيغية عامة و"أحواش" على وجه الخصوص كانت تتسم بالتلقائية والعفوية والفطرية، ولم تتلوث بالحمولات الإيديولوجية الضيقة ولم تدخل في أتون الإثنية والعصبية، إلا أنه ظهرت نزعات منحبسة أمسكت بالمشعل، لكن بشكل مقلوب، فحولت فن "أحواش" من إطاره الرحب - برحابة حياة الأمازيغ الفطرية في البادية والريف - وزجت به في قوالب ضيقة فانكمش الإبداع وأفل نجم الفن بعدما كان وهاجاً.
من فضاء أسايس الرحب إلى ساحة الفلكلور الضيق
حافظ الرواد الأجداد على سجل تاريخ الأمازيغ وديوان تراثهم الأصيل كوديعة، فأحاطوه بأسوار منيعة في وجه التمسيخ والتغريب والتحريف، لكن الفن الأمازيغي الراقي تحول إلى مادة دسمة لملء الفراغ في السهرات والحفلات الرسمية، وتمّ اختزال هذا التراث الفني في شكل رقصات فلكلورية تؤدى على منصات الفنادق الفخمة كمنتوج سياحي مثل باقي المنتوجات الأخرى، وتحول هذا الفن بقيمه الإنسانية والجمالية إلى مجرد حركات لا يعرف لها المؤدي ولا المتلقي معنى، إلا لدفع الملل عن السياح الأجانب إن هم وفدوا إلى ديارهم. وأما التنافس في تنظيم المهرجانات "الفنية" فيزج بهذا الفن في براثن النفعية والاسترزاق بالتراث والفن، ومنظمو مثل هذه المهرجانات أشبه بمخرج مسرحية لا يعرف أصلاً اللغة التي كتب بها السيناريو أو الحوار.
نسمع أخبار الفرق الغنائية الأمازيغية المحترفة ل"أحواش" قد تجاوزت حدود المغرب إلى المنتديات الدولية، فأعطت لهذا الفن شهرة عالمية. إلا أن هذا التسابق المحموم لتطوير الشكل والإطار الخارجي لم يواكبه تطوير المعاني بل حدث إغراق في المظاهر والأشكال. على ذلك، هناك كثير من الجمعيات جادة في الحفاظ على التراث الفني وبعثه وتجديده، على الرغم من محدودية الإمكانات والوسائل. وإن كان كثير من الفنانين الاصيلين يئنون في زوايا التهميش والحرمان في البوادي والقرى ولا يلتفت إليهم أحد، فقد تسلقت بالمقابل زمرة من الوصوليين منابر الشهرة والظهور، محققين مكاسب شخصية ومادية...
___________
اقرأ/ي أيضا: من دفاتر السفير العربي
الموسيقى والغناء.. سجل خاص للتغيرات السياسية
___________