يقل عدد أفراد العائلة الخليفية عن أربعة آلاف شخص، إلا إن حصتهم من الوزارات هي 40 في المئة، بالإضافة إلى رئاسة مجلس الوزراء واثنين من ثلاثة نواب للرئيس. وتشمل الوزرات المخصصة للعائلة الحاكمة جميع الوزارات السيادية (الخارجية والدفاع والداخلية والمالية والعدل إضافة للمواصلات). وتتكرر هذه الحصة في توزيع المناصب العليا في الداخلية (35 في المئة)، والدفاع (50 في المئة)، والهيئات القضائية (27 في المئة)، وهي الحصة ذاتها التي تأخذها العائلة الخليفية من مجموع المناصب العليا في الشركات الحكومية والمختلطة. أما مجلس الدفاع الأعلى، فللعائلة ثلاثة عشر مقعداً من مقاعده الأربعة عشر.
لا تتعب السلطة الخليفية في البحرين من تكرار مقولة ان البلاد غنيمة الفتح، وإن شرعية حكمها تستند إلى قيادتها قبائل قدمت من الجزيرة العربية في العام 1783. ذاك هو ما يسميه دارسو الوضع السياسي الاجتماعي في البحرين وغيرها من دول الخليج العربي بـ"موروث الفتح وسرديات الغنيمة" لتفسير استحواذ العائلة الحاكمة على أدوات السلطة ومصادر الثروة في البلاد، والعلاقات بين مختلف مكونات المجتمع. وسرديات الغنيمة حاضرة في تسميات الأماكن العامة وفي النصُبِ والمجسمات المقامة بهدف تذكير الناس بمن هو الغالب عام 1783، ومن هو المغلوب حتى الآن. فالمسألة بالنسبة للعائلة الحاكمة لا تنحصر في استحضار فتح البحرين كحادثة تاريخية، بل بالتذكير بدورها في شرعنة اعتبار البلاد غنيمة لزعيمة القبائل الفاتحة.
تتشابه البحرين مع غيرها من بلدان الخليج العربي في أن لأبناء وبنات العوائل الحاكمة امتيازات تفوق ما تحلم به أكثر الفئات حظوة في المجتمع. ولا ينحصر ذلك في المردود المالي لهذه الامتيازات، بل أيضا في ما تؤسس له من مصادر قوة سياسية واجتماعية، وما توفره من حصانة قانونية وفوق قانونية. فبجانب الاستحواذ على المراكز القيادية في إدارات الدولة وأجهزتها، وفرت الموارد المالية الضخمة للعوائل الحاكمة قدرات إضافية مكنتها من التحكم في المجتمع، بل إعادة تنظيمه بما يتوافق مع رؤية كل عائلة حاكمة لمصالحها.
لعبت الطفرة النفطية منذ 1973 دوراً أساسيا في صياغة هذه العلاقة بين العوائل الحاكمة ورعاياها. ومعلومٌ أن سعر برميل النفط تضاعف ثلاث مرات في الأسابيع الأولى بعد حرب أكتوبر ليصل إلى 12 دولار في نهاية ذلك العام. ثم استمر الارتفاع رغم التقلبات الدورية ليستقر في السنوات الأخيرة في محيط المئة دولارللبرميل. ساهم ازدياد العوائد النفطية منذ الطفرة، على الرغم من تقلبات السوق، في تعزيز سرديات الغنيمة وانتشارها في دول الخليج العربي كافة، فتكرست كأساس لعلاقة العوائل الحاكمة بالناس، بغض النظرعن خلفياتهم الطائفية أو القبلية.
وبجانب ارتفاع أسعاره، زاد الإنتاج النفطي لبلدان مجلس التعاون الخليجي بسبب تحسن تقنيات الإنتاج والاكتشافات الجديدة، لتصل قيمة الصادرات النفطية إلى أكثر من 500 مليار دولار في العام 2011. وهكذا تمكنت العوائل الحاكمة، تدريجا لكن بثبات، من بناء دول "يتزامن فيها ما لا يتزامن" بحسب تعبير قديم لبسام طيبي. ففي البحرين، كما في بقية بلدان مجلس التعاون الخليجي، يتزامن نظام حكم قبلي متشدد في محافظته اجتماعياً وثقافيا وسياسياً مع نظام اقتصادي حديث يمارس دوره بدينامية في النظام الرأسمالي العالمي، وهو ما ترمز إليه عضوية المملكة العربية السعودية في ما يُعرف بمجموعة العشرين. بل يزداد اندماج دول الخليج في هذا النظام في مجاليْن هاميْن: الأول يتمثل في أن دول الخليج الست، بجانب كونها مصدرا رئيسا للنفط والغاز، لديها مرونة إنتاجية وتصديرية تمكِّنها من المحافظة على استقرار أسعار النفط وإمداداته، وعلى تعويض أي نقص طارئ في سوق النفط والغاز العالمية. أما الثاني فهو أن هذه الدول هي منطقة استيراد رئيسة من البلدان الغربية بما في ذلك أنظمة السلاح المتقدمة. فالسعودية مثلاً، التي زادت ميزانيتها العسكرية في العام 2011 على 48 مليار دولار، كانت قد أعلنت في نهاية العام الماضي عن توقيع إتفاقية مع الولايات المتحدة الأميركية لشراء أسلحة ومعدات وخدمات عسكرية بقيمة تزيد على 29 مليار دولار.
رأينا بعض آثار "تزامن ما لا يتزامن" في أساليب إعادة صياغة علاقة العوائل الحاكمة بحلفائها التقليديين من جهة وعلاقتها مع رعاياها. فلم يعد مشايخ القبائل ورجال الدين والوجهاء التقليديون قادرين على منافسة العوائل الحاكمة، بل أصبح أغلب هؤلاء يعتمدون على رضا الشيخ/الأمير/الملك لضمان احتفاظهم بمواقعهم. من جهة ثانية، فَقدت أعراف ما قبل الطفرة النفطية دورها الذي كانت تلعبه في تشكيل العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وفقد معها المواطنون ما كان يميزهم في السابق عن غيرهم من فئات السكان من امتيازات وحقوق مكتسبة.
عزز ازدياد الريع النفطي قدرات كل عائلة حاكمة على "تدوير" النخب السياسية والاجتماعية والاقتصادية في بلدها، بمن في ذلك الوجهاء التقليديون والتكنوقراط. وعلى عكس ما يبدو في الظاهر، فإن التدوير يشمل جميع الفئات، بغض النظر عن انتماءاتها القبلية أو الطائفية. فباحتكار سلطة توزيع موارد البلاد المالية، بما فيها مردود الإنتاج النفطي، تُبقي تلك العوائل الحاكمة أغلب النخب رهائن لديها، وتهمِّش من تشاء بل تصنع نخباً جديدة. ويتم ذلك عن طريق اختيار من يقوم بتنفيذ المشاريع من مختلف الأحجام التي تمولها الحكومات الخليجية أو تشارك في تمويلها.
يعرف كل وجيه في كل دولة خليجية، سواء كان سنياً أو شيعياً، قبلياً أو حضرياً، عربياً أو من أصول غير عربية، أن رضا العائلة الحاكمة في بلده هو ضمانة استقرار مركزه المالي وتطوره، وهو مفتاح الدور المتاح له ممارسته في المجال العام، وهو أساس مكانته الاجتماعية. وتتعدد الأمثلة في كل بلد خليجي على حالات مأساوية لمن أُزيحوا من مراتبهم العليا في الهرم الاجتماعي وفي السوق بسبب عدم مراعاتهم هذا القانون غير المكتوب. ولعل في هذا بعضا من تفسير استمرار الدور الهامشي الذي تلعبه هذه الفئات في الشأن العام وتحاشيها ما يقودها إلى مواجهة تسبب غضب العوائل الحاكمة، بل حتى مجرد عدم رضاها.
وعن طريق احتكار سلطة توزيع الريع النفطي، تمتلك العوائل الحاكمة قدرة غير محدودة على تعظيم أرباح المشاريع التي يتم التعاقد على تنفيذها. فكما أوضحت التحقيقات البريطانية في قضايا الرشوة ضمن إحدى صفقات الأسلحة البريطانية (صفقة اليمامة)، حصل أحد الأمراء السعوديين على مليار جنيه إسترليني في مقابل دوره في تمرير الصفقة. ومعلومٌ أن تعظيم الأرباح يتم بطرائق مختلفة من بينها تلزيم المشاريع بعقود تفوق كلفتها الحقيقية بكثير. ومنها قبول تنفيذ مشاريع بكفاءة ونوعية أقل مما تم التعاقد عليه. ففي البحرين على سبيل المثال، يستعرض تقرير الرقابة المالية في كل سنة أمثلة كثيرة على الهدر الناجم عن الأساليب المعتمدة في تلزيم المشاريع الحكومية. وفي حين تتم محاسبة بعض صغار المسؤولين، لا تتضمن التقارير ما يقوم به أفراد العائلة الحاكمة نفسها. لقد اشترى رئيس الوزراء في البحرين، وهو عم الملك، مجمع المرفأ المالي في قلب العاصمة بدينار واحد. وساهم كشف هذه العملية بين المحتشدين في دوار اللؤلؤة إلى تنظيم مسيرات باتجاه المرفأ المالي بهدف الاعتصام فيه، ما سبب مواجهات مع القوى الأمنية وسقوط ضحايا.
سواء أكان تعظيم الأرباح إفساداً أم فساداً، فإن سلطة العائلة الحاكمة على أجهزة القضاء وتنفيذ القانون تجعلها قادرة على محاسبة أو منع محاسبة المتهمين بالفساد. فكما لا يمكن لأستاذ جامعي أو مدير إدارة أن يستمر في وظيفته إلا برضا العائلة الحاكمة أو في رعاية أحد أفرادها، فلا يمكن لفاسدٍ أن يفسد، كثيراً أو قليلاً، إلا بعد أن يُنتقى لذلك.
وهكذا تمكنت كل عائلة حاكمة من إعادة رسـم الخريطة الســياســية/الاجتماعية بمختلف الطرائق، وخلق حقائق ديموغرافية جديدة وملائمة. نكتفي بالإشارة إلى ثلاث طرائق من بين غيرها: 1) التحكم في توزيع مناطق تشييد المشاريع الإسكانية والمدن الجديدة، والتحكم في توزيع المواطنين والوافدين عليها، 2) التحكم في استيراد العمالة الأجنبية وأعدادها ومصادرها، وأبرز نتائج هذا هو "أجْنبة الطبقة العاملة في الخليج" والمتمثل في تقليص المكون العربي (تشكل العمالة الوافدة من بلدان شبه القارة الهندية وحدها في العام 2011 55 في المئة من مجموع الأيدي العاملة في بلدان الخليج)، 3) الدور الذي تؤديه سياسات التجنيس الجماعي (وسحب الجنسية الجماعي) في تحديد الوزن الديموغرافي النسبي لمكونات السكان قبلياً وطائفياً.
وتلعب "المكرمات" دوراً هاماً في تعزيز قدرات العوائل الحاكمة في الخليج على إعادة رسم الخريطة السياسية / الاجتماعية. والمكـرمـة هي عطية من الشيخ/الأمير/الملك يمنحها وقتما يريد لمن يريد. هي حـق مطـلق له فان شــاء منح وإن شــاء منع. ولقد توسع هذا المفهوم في العقود الأخيرة ليشمل حصول المواطن على مسـكن أو عمـل أو تعويض بطـالة أو علاج صـحي أو حتى جواز سـفر. ولقد رأينا تأثير هذا التوسع في تغييب "حقوق المواطنة واستحقاقاتها" من الخطاب السياسي المعتمد، في مقابل انتشار المدائح التي تبرز فيها المكرمات التي يتفضل بها حاكمٌ كريم على رعاياه تقديراً منه لولائهم. فليس للمواطنين حقوق يطالبون بها بل هي احتياجات يعود قرار توفيرها لتقدير الشيخ/الأمير/الملك.
بطبيعة الحال، لا تفسر هذه الترتيبات السياسية / الاجتماعية وحدها حقيقة أن العوائل الحاكمة في بلدان الخليج العربية تمكنت طوال العقود الماضية من المحافظة على استقرار حكمها رغم كل ما شهده محيطها الجغرافي طوال العقود الماضية من ثورات وحروب. فلقد استندت فاعلية الترتيبات على ثلاثة مرتكزات إضافية. الأول هو ما وفرته عائدات النفط من إمكانيات لبناء أجهزة أمنية وعسكرية حديثة وقادرة على مواجهة كل تحرك داخلي. والثاني هو دور الحماية المتبادلة الذي توفره كل من العوائل الحاكمة لمثيلاتها، وهو ما حدث حين تدخلت القوات السعودية لقمع الاحتجاجات في دوار اللؤلؤة في البحرين. أما الثالث فيتمثل في مظلة الحماية العامة التي تتمتع بها العوائل الحاكمة في الخليج بفضل علاقاتها الاستراتيجية، سياسياً وعسكرياً ونفطياً، مع الولايات المتحدة الأميركية التي تنتشر قواعدها ومنشآتها الأمنية والعسكرية في جميع أراضي بلدان المنطقة ومياهها الإقليمية.
في إطار هذه الصورة لم يتوقع أحدٌ أن تكون إحدى بلدان الخليج من بين بلدان "الربيع العربي". ولهذا كان رد فعل العوائل الحاكمة في المنطقة سريعاً وحاسماً، حين أزهرت أولى أزهار الانتفاضة في البحرين. ولهذا أيضاً سارعت السعودية والإمارات الى التدخل العسكري لإخمادها قبل انتشارها. ولهذا أيضاً لم تتأخر بقية العوائل الحاكمة عن تقديم أشكال الدعم الأخرى، المالية والسياسية والأمنية، للعائلة الحاكمة في البحرين. فلقد كان المحتجون في دوار الؤلؤة يعلنون أن المنطقة برمتها، وليست البحرين وحدها، على مشارف تغيير تاريخي لتجاوز الترتيبات الأجتماعية/ السياسية التي تكرست طوال العقود الماضية.