كان مشروع مترو الأنفاق بالقاهرة الكبرى محط ترحيب الرأي العام والشعب المصري عموماً. وهو خطط له منذ مطلع عقد الثمانينات الفائت، وبُدء فى تنفيذ الخط الأول منه فى منتصفه بإشراف شركات فرنسية ومعاونة شركات مصرية، وبقروض من المؤسسات والحكومة الفرنسية. بيد أن دخول جماعات المصالح الفاسدة، ورأسمالية المحاسيب، جعلت من المشروع فرصة سانحة لنهب المال العام المصري من ناحية، ولتحقيق الثروات والعمولات والرشى لفئات وأفراد مقربين من حكم الرئيس مبارك وأبنائه من ناحية أخرى.
لقد استمر العمل في الخط الأول (حلوان – المرج) الممتد بطول 43 كيلومتراً، منها أربعة كيلومترات تحت الأرض (نفقية) تمتد من محطة السيدة زينب إلى محطة رمسيس (أو الشهداء حالياً) خمس سنوات كاملة. وبعد فترة وجيزة بدأ العمل في تنفيذ الخط الثاني (العتبة - رمسيس – شبرا) بطول 19 كيلومتراً، منها 13 كيلومتر تحت الأرض. وبلغت تكلفته حوالي 11 مليار جنيه، أى بارتفاع لأكثر من ثلاثة أضعاف تكلفة الخط الأول.
ثم أخذت فكرة التوسع في مد خطوط المترو إلى كافة مناطق القاهرة الكبرى تشغل العقل التنفيذي والسياسي لدى القائمين على الحكم والإدارة في البلاد، لمواجهة المشكلات العويصة التي تعاني منها العاصمة المصرية، خصوصاً في مجالات المرور والمواصلات ونقل الركاب، بحيث تكون قادرة على تحمل الحجم المتعاظم من سكان القاهرة الكبرى وكذلك المترددين عليها يومياً والبالغ عددهم حوالى 16 مليون نسمة.
إلى هنا يبدو الأمر منطقياً ومطلوباً. فما الذي جرى بعد الخطين الأولين بحيث بدا أن هناك ما يستأهل المراجعة والفحص، ويدفع إلى الشكوك، خاصة بعد أن ظهر أن هناك مخطط مشترك بين الجانبين المصري والفرنسي لإنشاء أربعة خطوط إضافية بتكلفة قد تصل إلى 162 مليار جنيه خلال 2000-2020.
التساؤلات المشروعة
1- هل التوسع في هذا المشروع ليشمل الخطوط الأربعة الإضافية بهذه التكلفة المالية الضخمة له ما يبرره إقتصادياً وإجتماعياً في هذا الوقت بالذات؟
2- هل كان هناك بدائل أكثر رشادة تحقق الهدف المنشود، وهو التغلب على تكدس الركاب وصعوبة المرور، دون أن تكلف هذا القدر الهائل من الأموال، والكثير منها قروض تضاف إلى المديونية الضخمة على الاقتصاد المصري؟
3- هل كان لتدخل جماعات المصالح والأشخاص القريبين من الرئيس مبارك وأبنائه صلة بهذا التوسع السريع في المشروع وإهدار موارد كان من الممكن إستغلالها بشكل مختلف؟
4- وهل ما زال لجماعات المصالح تلك قدرة على دفع النظام السياسي الذي يترأسه الجنرال السيسي الآن للاستمرار في تلك السياسة؟
من أين بدأ التلاعب والفساد؟
ظهرت زيادة كبيرة في تكاليف تنفيذ المشروع بين الخطين الأول والثاني. وقد أرجع المتخصصون السبب الى طريقة تصميم الخطين والى طريقة التنفيذ.
ففي الخط الأول، جرى الاعتماد على فكرة تطوير تحديث الخطوط السطحية القديمة. كما أن طول عمليات الحفر تحت الأرض مختلفة بين الحالتين. وتبين أن تكاليف تطوير وتحديث وعزل مسار الخطوط السطحية لم تزد على 50 مليون جنيه للكيلومتر الواحد، بينما تكاليف الحفر تحت الأرض تعادل ألف مليون جنيه (مليار جنيه ) للكيلومتر الواحد بأسعار عام 2004، والتي زادت بعد ذلك إلى 1500 مليون جنيه للكيلومتر الواحد عام 2010 ، ثم إلى 2250 مليون جنيه عام 2014، وتجاوز عام 2017 حوالي ثلاثة مليار جنيه.
تحية إلى "المارات" بقلب تجاربنا المريرة
08-03-2019
وقد اجريت العديد من الدراسات لحل مشكلة المرور والمواصلات فى القاهرة الكبرى، وأسندت إلى كل من المكتب الاستشاري الفرنسي "سيسترا" (1998-2000) والمؤسسة اليابانية للتعاون الدولي "جايكا" (2000-2002). وقدمتها المؤسستان إلى الحكومة المصرية مشفوعة من جانب حكوماتها بتسهيلات مصرفية وقروض لتنفيذ المشروع. كما كان الجانب الفرنسي مسلحا بعلاقات خفية بعدد من المتنفذين في الحكم والإدارة في الجانب المصري وتحديداً أحد أصهار الرئيس المصري المخلوع حسنى مبارك.
كانت المخططات السابقة لمترو الانفاق هي إنشاء ثلاثة خطوط. وقد انتهت دراسة المكتب الاستشاري الفرنسي الى اقتراح تعديل المسار القديم للخط الثالث (أمبابة – العتبة – الدراسة) وهو بطول 8,5 كيلومتر، لينتهي المسار الجديد في مطار القاهرة ويصبح بطول 34 كيلومتر. كما تم اقتراح إضافة ثلاثة خطوط جديدة بإجمالي أطوال 97 كيلومتراً للخطوط الأربعة، بتكلفة 97 مليار جنيه باسعار 2004. وقامت هيئة الأنفاق بزيادة أطوال الخطوط لتصل الى 144 كيلومتراً للخطوط الأربعة.
وتغاضت الدراسة الفرنسية عن الخطوط السطحية الموجودة فعلاً والممتدة من رمسيس إلى منطقة مصر الجديدة ومدينة نصر والمعادي.
اقترحت دراسة أجراها مكتب ياباني حلاً لأزمة المرور يقوم على الإكتفاء بأربعة خطوط مترو أنفاق وتطوير خطوط المترو السطحية القائمة. ويتميز الإقتراح الياباني عن الإقتراح الفرنسي بانخفاض التكلفة، إلا أن هذا الأخير هو ما اعتمد. وتبين لاحقاً أن شركة "ألستوم" الفرنسية التى تولت تنفيذ المشروع، منحت عمولات ورشى لعدد من كبار المسئولين ومنهم رئيس هيئة مترو أنفاق القاهرة.
أما دراسة الجانب اليابانى فاقترحت حلاً ممتازاً لأزمة المرور، هو الأكتفاء بأربعة خطوط مترو أنفاق فقط وعدم التوسع أكثر فى ذلك نظرا لتكاليفها العالية وعدم الحاجة الفعلية إليها. وتطوير خطوط المترو السطحية القائمة وإعادة بنائها لتكون ثلاثة خطوط سريعة بتكلفة 3 مليار جنيه. وإنشاء خط شرقي يربط القاهرة بالمدن الجديدة (الشروق -العبور - بدر - العاشر من رمضان)، وخط غربي يربط القاهرة بمدينة 6 أكتوبر .
ويتميز الاقتراح الياباني عن الإقتراح الفرنسي بإنخفاض التكلفة لإعتماده على إنشاء وتجديد خطوط المترو السطحية السريعة التى تبلغ تكلفة إنشاء الكيلومتر الواحد فيها 50 مليون جنيه فقط، إضافة الى ربط القاهرة بالمدن الجديدة حولها.
لكن وزارة النقل المصرية وهيئة مترو أنفاق القاهرة الكبرى، والحكومة المصرية أخذت كلها بما ذهبت إليه الدراسة الفرنسية، على الرغم من ضخامة التكاليف التى تزيد عن 300 مليار جنيه. فقد تبين لاحقاً أن شركة "ألستوم" الفرنسية العملاقة التى تولت تنفيذ هذا المشروع، منحت عمولات ورشى لعدد من كبار المسئولين في مصر ومنهم رئيس هيئة مترو أنفاق القاهرة الذي أحيل فى تشرين الثاني / نوفمبر 2013 إلى المحاكمة بتهمة الحصول على رشوة تمثلت فى مساهمة شركة "فنسي" الفرنسية بمبلغ 200 ألف جنيه لبناء فيلته الخاصة بمدينة 6 أكتوبر. وهو ما يفسر التغاضي عن الأخطاء الإنشائية فى الخط الثالث للمترو، ومنها نشوء حفر وتسرب للمياه الجوفية أسفل كابلات الكهرباء وشروخاً بالنفق يصل عرض بعضها الى 1,5 ملليمتر..
كما كشف تقرير الجهاز المركزي للمحاسبات (حزيران/ يونيو 2014)، أن (العقد 55/ مترو) الموقع بين هيئة الأنفاق وشركة فينسي لتنفيذ المرحلة الثانية للخط الثالث للمترو، يقضى بالتزام هيئة الأنفاق بدفع غرامة بمبلغ 184,5 مليون جنيه فى حالة عدم فوز الشركة بتنفيذ المرحلتين الثالثة والرابعة للخط الثالث، وهو ما وصفه التقرير بإنه "شرط إذعان" لصالح شركة فينسي. و قد أوصى التقرير بإحالة الموضوع إلى جهات التحقيق. و مع ذلك تمّ توقيع عقد إنشاء المرحلة الرابعة للخط الثالث للمترو مع شركة فينسىي نفسها فى شباط/ فبراير 2015.
انحطاط بلا قعر في البهية أم الدنيا.. مصر
28-02-2019
كما تبين فيما بعد (وفقا لصحيفة وول ستريت جورنال الامريكية في 6/5/2008 ) بأن السلطات الفرنسية والسويسرية والبرازيلية تقوم بالتحقيق في قيام شركة "ألستوم " الفرنسية بتقديم رشاوى قيمتها مئات الملايين من الدولارات، ونسب عمولة تصل إلى 15 في المئة من قيمة العقود للمسؤولين السياسيين للحصول على مشروعاتها والعطاءات التى ترسو عليها. كما نشرت صحيفة "ديلي تليغراف البريطانية أن السلطات الأمريكية فرضت غرامات على شركة "ألستوم" الفرنسية تقدر بحوالى 772 مليون دولار كعقوبة جنائية مقابل تسوية اتهامات مع وزارة العدل الأمريكية متعلقة برشاوى مُنحت لعدد من المسئولين فى عدة دول من بينها مصر وأندونيسيا والسعودية للحصول على عقود ومشاريع.
كما عادت صحيفة وول ستريت جورنال (14/12/2008) الى نشر خبر مفاده أن المدير السابق لشركة " ألستوم – مصر" قد صرح بأن فساداً شاب حصول الشركة الفرنسية على مناقصة الخط الثالث، كما تقدم ببلاغ (رقم 907 /2008) إلى النائب العام المصري متضمناً هذه الوقائع. ولم يجرِ تحقيق ولم تتخذ الإجراءات القانونية والقضائية الصحيحة.
أهمل تطوير خطوط السكك الحديدية التى تهم أكثر من 50 في المئة من سكان مصر، خاصة في الريف والمحافظات المختلفة. بل جرى تمويل الخط الثاني من مترو الانفاق من حصيلة إيرادات هيئة السكك الحديدية، مما أوقف فعلياً فرص تطويرها وصيانتها، فأدى إلى مزيد من الإنهيار في خدماتها.
ويضاف إلى هذه الوقائع والمؤشرات القوية على الفساد أن شركة "ألستوم – مصر" التى وقعت عقدين مع هيئة مترو الأنفاق، لم تكن قد أعتُمدت بعد كعضو فى الاتحاد المصري لمقاولى التشييد والبناء وفقا للقانون، وأنما سجلت نفسها بتاريخ لاحق على هذه العقود، وليس لها سابق أعمال بهذا الحجم، وهذا مخالف للقوانين المصرية.
وأما السبب الثاني بعد الرشاوى فهو القروض التى يقدمها الجانب الفرنسي لشراء المستلزمات المستوردة من فرنسا، ومنها قرض بـ900 مليون يورو (9.0 مليار جنيه). وعلى الرغم ان هذا القرض يمثل ثلث تكلفة المرحلة الثالثة من الخط الثالث، فهو شكل بصورة أو بأخرى إغراءاً للجانب المصري للإستمرار في التعاقد مع الجانب الفرنسي.
كيف أهدرنا أكثر من 80 مليار جنيه فى هذا المشروع؟
بالاضافة إلى الفساد والرشى والعمولات والتغاضي عن القوانين المصرية في التعامل مع الجانب الفرنسي وشركاؤه، مثل صهر الرئيس مبارك وبعض كبار الشخصيات المتنفذة في قطاع النقل وفي الحكومة المصرية، فإن إهداراً ضخماً قد حدث للموارد المصرية وترتبت أعباء ديون لم يكن لها ضرورة. والمدهش أن هيئة مترو الأنفاق المصرية ووزارة النقل كانتا تتوسعان فى زيادة الأطوال حتى عن تلك التى أوصت بها دراسة المكتب الاستشاري الفرنسي!
ويمكن حصر أوجه الإهدار على النحو التالي:
1- إهمال الخطوط السطحية بل والإسراع في ردمها وتخريبها بدلاً من تطويرها وعزل مسارها كما جرى فى الخط الأول ( حلوان – المرج ). قد ادى ذلك إلى تكليف أكثر من 43 مليار جنيه ممثلة فى النفق الممتد من العتبة إلى مصر الجديدة ثم إلى مطار القاهرة.
2- جرى تجاهل الاقتراح الياباني بإنشاء خط مترو سطحي من رمسيس إلى أمبابة بتكلفة 350 مليون جنيه، ومن بعده يمكن مده إلى مدينة 6 أكتوبر. وتمّ تنفيذ الإقتراح الفرنسي بحفر نفق تحت الأرض من العتبة إلى أمبابة بتكلفة 24 مليار جنيه.
3- تمت إزالة خط المترو السطحي الممتد من شبرا الى المطرية الى مصر الجديدة إلى مدينة نصر، والذي يمكن تحديثه بتكلفة مليار جنيه فقط، وذلك لحفر نفق خط المترو الخامس (أسفل الخط الذي تمت إزالته) بتكلفة 54 مليار جنيه.
4- أدت هذه السياسة إلى إهمال تطوير خطوط السكك الحديدية التى تهم أكثر من 50 في المئة من سكان مصر، خاصة فى الريف والمحافظات المختلفة. فقد جرى تمويل الخط الثاني من حصيلة إيرادات هيئة السكك الحديدية، مما أوقف فعليا فرص تطويرها وصيانتها، فأدى إلى مزيد من الإنهيار في خدمات هذا المرفق الحيوي، الذي يحتاج الآن وفق دراسة للبنك الدولي إلى حوالي 100 مليار جنيه. علماً ان تكاليف تحويل كل مزلقانات السكة الحديد إلى النظام الأتوماتيكي تبلغ 1.5 مليار جنيه، أى ما يعادل تكاليف حفر كيلومتر واحد تحت الأرض.
5- كان من الممكن فى بعض المناطق والمسارات التى يصعب فيها استخدام الخطوط السطحية لإعتبارات المساحة أو لكونها مناطق أثرية (كطريق شارع الهرم وفيصل) إستخدام نظام الكباري (الجسور) التى لا تتكلف سوى 100 مليون جنيه لكل كيلو متر واحد. خصوصاً أن كثير من المدن الكبرى فى العالم تستخدم هذا الأسلوب مثلما هو الحال في شيكاغو الأمريكية ومترو فانكوفر فى كندا و العديد من شبكات المترو فى المدن الهندية، وفي إمارة دبي..
6- تكشف ممارسات شركة "ألستوم – مصر" و"ألستوم " الفرنسية فى عمليات سابقة عدم جودة وكفاءة عملياتها. فقد رصد ائتلاف مهندسي الكهرباء فى مصر فى تشرين الثاني/ نوفمبر 2012 كثرة الأعطال فى محطات الكهرباء التى عملت فيها هذه الشركة. ففي محطة شمال القاهرة نشب حريق بعد تسلم المحطة من صيانة الشركة، وفي محطة طلخا تحطمت التوربينة وتوقفت لمدة عامين كاملين، وفى محطة الكريمات تحطمت التوربينة بعد 17 يوماً من بدء تجارب التشغيل، وفى محطة النوبارية تعرضت ريش الضغط المنخفض للتدمير، وخرجت محطة التبين من الخدمة لمدة عام كامل بسبب إحتراق الوحدة الأولى التى إنشئت عام 2010 بتكلفة 4 مليارات جنيه، كما توقفت الوحدة الثانية بسبب تدمير الدائرة الكهربائية الخاصة بها... كما سبق وأسندت إلى هذه الشركة تجديد مولدات كهرباء السد العالي، وترتب عليها مشكلات.
.. وكل ذلك ما زال مستمراً، بل هو يتجدد ويتوسع بالوجهة نفسها، على الرغم من افتصاح أمره!