كان تسرب أول فيديو وأول مقال بعدما أحرق محمد البوعزيزي نفسه في 17 كانون الاول/ ديسمبر 2010 بمثابة اقتلاع لأول حجر من سور السجن الكبير الذي كان يسيج حياة التونسيين. التقط المجتمع وسائل الإعلام الافتراضية من مدونات وصفحات فايسبوك وحسابات على موقع تويتر وغيرها، كأسلحة للدفاع عن نفسه. فمن خلالها تم التشهير بالنظام السياسي والدعوة لعمليات الحشد والتحرك. وتم تطوير هذه الصفحات الافتراضية وربطها بالواقع المعيش، فولدت الاذاعات الجمعياتية أو المجتمعية في سياق الاعلام المواطني. تجربة تعرف نجاحاً كبيرا وتترسخ كل يوم، بل هي أصبحت منافسا حقيقيا لوسائل الاعلام التقليدية، تمدها بالمعلومة الحينية وتكشف أسرار القضايا وتوجه الرأي العام بعيدا عن المغالطات والتوظيف. وهي مكنت المواطن البسيط والمهمش من المشاركة في صياغة رسالته الاعلامية.
تجاوز المدونون ونشطاء هذا الاعلام الشعبي مجال نشر الخبر الى الاهتمام بقضايا المجتمع عموما، فتشكلت المجموعات والآراء بطريقة تفاعلية وتشاركية وأقيمت حملات المناصرة والحشد لكبرى القضايا. فاعتصام القصبة الذي تمكن من خلاله الشعب التونسي من تحقيق مطلب الحصول على مجلس تأسيسي منتخب ينبثق منه دستور جديد للبلاد، كانت منطلقاته والمتابعة الدقيقة والتوثيق المباشر له، كتابة وتصويرا سمعيا بصريا، لا تمر إلا عبر شبكات التواصل الاجتماعي. وتحولت هذه الوسائل الافتراضية الى بوابة للنقاش السياسي والاجتماعي، ودفع المجتمع نحو المشاركة في الحياة العامة وتبادل المعلومة، متجاوزة بذلك إشكالية المتلقي السلبي. وحدثت النقلة النوعية الثانية عندما انبثقت الاذاعات الحرة وتكاثرت في كل حي أو قرية في تونس، تبث برامجها كما يحلو للقائمين عليها. وهي مؤسسات إعلامية لها موجات الأثير التي تسلكها، ولها برامجها وخطها التحريري.
جاءت هذه النقلة من الافتراضي (انترنيت، فيسبوك وتويتر) الى «الواقعي» بفضل إدراك المدون أن الاذاعات هي إعلام شعبي يتيح المجال لممارسة المواطنة والحق في التعبير. وأول محطة إذاعية في تونس تأسست في 10 كانون الاول/ ديسمبر سنة 2007، بالتزامن مع الذكرى التاسعة والخمسين للإعلان العالمي لحقوق الانسان. ولكنها لم تحصل على رخصة البث عبر الاثير إلا بعد سقوط نظام بن علي، وتقول مديرتها: «راديو 6 هو أول مشروع إذاعة حرة في تونس، تأسست من طرف ستة صحافيين مناضلين من أجل حرية التعبير». وقد خرجت الى النور تجارب اخرى على غرار اذاعة «صوت المناجم» بمدينة قفصة، واذاعة «الشعانبي أف أم» بالقصرين، و«اذاعة الكرامة» في سيدي بوزيد، واذاعة «راديو شعبي» في تونس العاصمة...
وقد أخبرتنا الصحافية رجاء يحياوي، العاملة براديو «الشعانبي أف أم» بأن «البث التجريبي للراديو انطلق يوم 25 أيار/ مايو 2012، لكن سبق ذلك العديد من التحضيرات، سواء من قبل التقنيين أو المنشطين. فقد تكاتفت جميع الجهود ليرى هذا المولود الإعلامي الجديد النور». وتضيف: «بالنسبة لي كمنشطة في الاذاعة، أعتبر حرية التعبير أهم شيء في عملي. وأعتبر إصراري على العمل التطوعي بهذه المؤسسة، رغم الظروف المادية الصعبة، واجبا للحفاظ على مولود إعلامي هو الوحيد في منطقة عرفت التهميش الثقافي والاقتصادي لسنوات عديدة». ويمكن التطرق الى المسؤولية الاجتماعية التي تقلدتها وسائل الاعلام هذه، وسعيها الدؤوب الى تسليط الاضواء على المهمش والفقير، وتمكينه من مساحة إذاعية يشارك فيها مجتمعه آراءه وهمومه. فقد أُتيحت فرصة التنشيط الاذاعي لكل من يرغب بالمشاركة، سواء كان عاملاً أو عاملة في المهن البسيطة أو الشاقة، أو طالباً أو موظفاً، وهو ما يتيح البحث في مشاكل هؤلاء وفي العراقيل التي تعترضهم في حياتهم العامة، ليتأسس فضاء بديل تكتنفه حرية التعبير والمسؤولية في المراقبة والنقد والاستقصاء.
***
ما قبل وما بعد
قبل سقوط نظام الرئيس زين العابدين بن علي، تولّت مجموعة كبيرة من مؤسّسات الدولة التونسية تنظيم الجهاز الإعلامي، إذ كانت وزارة الاتصالات هي الجهة المسؤولة عموماً عن الإعلام، فيما كانت وزارة الداخلية هي المسؤولة عن المصادقة على طلبات إصدار المطبوعات الجديدة. وقد حوّلت وزارة الداخلية تلك العملية، التي كان ينبغي أن تقتصر على مجرد إخطار بسيط، إلى نظام مقنّع لمنح التراخيص. واللافت انه منذ العام 1990، تأسست «الوكالة التونسية للاتصال الخارجي»، المشرفة على توزيع عائدات الإعلانات التي يتم تحصيلها من الإدارات العامة على وسائل الإعلام المختلفة، وبالتالي كانت تقرّر حجم تمويلها وجدوى استمرارها.
وترى الكاتبة فاطمة عيساوي، في تقرير أعدّته أخيراً لمركز «كارنيغي»، أنّ ظروف العمل لا تزال اليوم سيئة بالنسبة للعاملين في قطاع الإعلام التونسي، حيث يعمل العديد من الصحافيين وفق عقود عمل موقّتة قد تُجدَّد لفترات طويلة، إلا أنها تبقى من دون أي أمان وظيفي. وتشير إلى أن إحدى المسائل التي تعيق تطوّر مهنيّة الإعلام التونسي، تُختصَر بواقع أنّ وسائل الإعلام التقليدية «أصبحت مظهراً مركزياً من مظاهر الصراع السياسي الدائر بين الحكومة الجديدة التي يقودها إسلاميون معتدلون من جهة، والمعارضة العلمانية الجديدة من جهة أخرى».