..وأخيراً، وتحت ضغط الرفض الشعبي الذي ملأ شوارع الجزائر العاصمة، والمدن جميعاً في مختلف انحاء البلاد، عرباً وبربراً، "نطق" الرجل الذي لم يعد يستطيع أن يتحدث فيعبر عن رأيه ويؤكد حضوره: عبد العزيز بوتفليقة.. قال، أو قال غيره بلسانه، انه لن يرشح نفسه لولاية رئاسية جديدة، وارجأ موعد انتخاب خلفه، الرئيس الجديد شهوراً معدودة، وأقال الحكومة وعين لها رئيساً جديداً قدّر أن يرضى عنه المعترضون.. أي الاكثرية الساحقة من الجزائريين.
ومع التمني أن يكون قرار التراجع هذا نهائياً، وان يكون بوتفليقة الذي حكم الجزائريين لحوالي عشرين عاماً (أربع ولايات رئاسية) قد انتبه اخيراً إلى رفض الشعب قراره بالاستمرار على قمة السلطة (وهو العاجز عن النطق فضلاً عن المشي..) مستجيباً لما عبرت عنه التظاهرات الحاشدة والغاضبة طوال الاسبوعين الماضيين، والتي مرت - ولله الحمد - بسلام، ربما لان الجيش، وهو القوة الحاكمة، أدرك أن الشعب حزم أمره وقرر رفض التمديد أو التجديد، وأية مصادرة لرأيه وقراره.
يلحق بهذا التمني المباشر تمنٍ آخر مفتوح: أن يدرك الرؤساء "المنتخبون" انهم، حتى لو جاءوا من العسكر (قيادة الجيش أو بعض أركانه) فهم ليسوا قادة مخلّدين، وانهم بشر مثل الاخرين، يصيبون ويخطئون، وأن الرئاسة ليست حقهم الشرعي المفتوح إلى الأبد لأنهم يزينون اكتافهم بالنجوم والسيوف المتقاطعة.
لقد اسقطت الجماهير التجديد المفتوح، وهي ما تزال في الشارع رفضاً لتمديد الولاية لمدة تسعة شهور، ربما "لإعداد" الرئيس الجديد.. أو هكذا قيل، وقد اعتبرها الجزائريون "خدعة". أي التمديد من دون إذن من الشعب.
بعض المفاتيح لفهم المظاهرات في الجزائر
28-02-2019
وبالتأكيد فان الشعب الجزائري، صاحب التجربة المميزة بل الفريدة في التاريخ في القتال والنضال من اجل حقه في بلاده، وطرد المستعمر الذي فرض عليه جنسيته بالإكراه، لن يتوقف عن المجاهرة بالاعتراض ورفض التجاهل "الرسمي" لإرادته، وسيكمل صموده في الشارع حتى يكون له ما اراد، لأن قراره الحر هو أبسط حقوقه..
ولتنشيط الذاكرة وإعادة الاعتبار إلى النضال التحرري العربي وأبطاله الميامين، أستعيد الواقعة التالية التي كنتُ في عداد الشهود عليها، بكل دلالاتها غير المسبوقة:
في العشرين من ايلول/ سبتمبر 1962، انعقد أول مجلس للنواب في تاريخ الجزائر المستقلة. كان المشهد فريداً وتاريخياً بكل المعايير: النواب المنتخبون يدخلون الآن إلى المجلس النيابي، والنسبة الكبرى بينهم من المشوهين جسدياً.. بعضهم بلا ذراعين، والبعض بلا ساقين أو بساق واحدة، وثمة من هو مطفأ العين مشوه الوجه لأن الاصابة جاءته في رأسه، وثمة ايضاً من جاء محمولاً على كرسي، لأنه عاجز عن المشي نتيجة إصاباته العديدة.
دمعت عيوننا، الزعيم العراقي الراحل صديق شنشل، والزميل المرحوم سليم اللوزي مؤسس مجلة "الحوادث" في لبنان (والتي صدرت في ما بعد من لندن)، وكاتب هذه السطور.
كان المشهد نادراً، وغير قابل للتكرار.. وكان ناطقاً بالثمن الفادح الذي دفعته الجزائر من حياة ابنائها، وحقهم في بلادهم، خصوصاً وقد تجاوزت اعداد الشهداء عبر السنوات العشر من النضال (1954-1963) ضد جيش الاحتلال الفرنسي، كما ضد "الاقدام السوداء"-Les Pieds Noirs- المليون شهيد، عدا الجرحى والمعوقين نتيجة إصابتهم بالرصاص أو بشظايا القنابل في انحاء مختلفة من اجسادهم.
بدأت الجلسة الاولى للمجلس النيابي الاول في تاريخ الجزائر الحرة حسب الاصول: انتخاب رئيس للمجلس ورؤساء اللجان، ثم رفعت الجلسة الأولى ليباشر المجلس حقه الدستوري في انتخاب الرئيس الاول لجمهورية الجزائر الديمقراطية.. ولقد انتخب أحمد بن بللا كأول رئيس للجزائر المستقلة والحرة، والتي استعادت هويتها الاصلية بإجماع اصوات النواب..
عندما ذهبنا لتهنئة الرئيس احمد بن بللا بانتخابه في "فيلا جولي" التي اتخذت قصراً رئاسياً مؤقتاً، دخل علينا العقيد هواري بومدين، الذي كان قائداً لقوات جيش التحرير التي تم تدريبها في تونس اساساً، كما في المغرب، وفي مصر عبد الناصر كما في بعض بلاد الشام "شام الله في ملكه" كما يسميها الجزائريون.
كان احمد بن بللا، يحاول تدريب نفسه على أن يكون رئيساً. وكان بومدين يدرب نفسه ويستعد للانقلاب على الشرعية، وخلْع بن بللا وسجنه لمدة اثنتي عشرة سنة حبساً انفرادياً لم يستقبل خلالها الا "زهرة" التي ستصبح زوجته، مع ولدين لا يتجاوز عمر أي منهما العاشرة.. وقد تم تبنيهما - شرعاً - مع إصرار على أن تكون الابنة بلون افريقيا..
ليس للتاريخ لسان ناطق..
لكن التاريخ هو الانسان..
وحكاية الجزائر مع الرئاسة، بعد التحرير، تستحق تأريخاً خاصاً.
وها هم الجزائريون في الشارع، خوفاً من أن تكون خطوة بوتفليقة مجرد خدعة! وبعض الامل في أن يتمكن الوسيط – الداهية والناصح دائماً - من ابتداع "فتوى" تقنع الرئيس العنيد برغم عجزه جسدياً وذهنياً، وتقنع في الوقت ذاته شعب الجزائر الذي إذا قال فعل، كما تشهد شوارع العاصمة والمدن الأخرى شرقاً وغرباً وجنوباً.
حمى الله الجزائر بلد المليون شهيد من اجل حقها في القرار.