استحدثت في تونس ما بعد الثورة وزارة للتنمية الجهوية. تلك كانت احد المطالب الأساسية للثورة. ولمنطقة الحوض المنجمي من ولاية قفصة أولوية باعتبارها حاضنة لتمرّدات وتحركات عمالية كثيرة لعلّ أشهرها انتفاضة 2008. لكن ولاية قفصة هي أيضاً حوض الفوسفات، أحد أعمدة الاقتصاد التونسي.
لكن الفشل كان عنوان المحاولات السابقة لتحفيز النمو الاقتصادي للمنطقة، لارتكازه على مناجم الفوسفات من دون الاهتمام بالمجالات الأخرى، كالمجال الصناعي، حيث من الممكن أن تنشأ صناعات للزجاج، إذ تكتنز المنطقة في أوديتها الطين الأحمر والرمل السيليسي ذا الجودة العالية. وهي ثرية فِلاحياً بتعدّد مواردها المائية، من جوفية تقدر بـ 128 مليون متر مكعب في السنة، علاوة على الطاقة الاستيعابية لسد «سيدي عيش» التي تقدر بـ 885 مليون متر مكعب، إضافة الى تميزها بمراع شاسعة وأراض قابلة للاستغلال الزراعي تبلغ حوالي 273 ألف هكتار. وفي مقابل هذه الامكانات، تعاني قفصة، بحسب تقديرات المعهد الوطني للإحصاء، أعلى نسبة بطالة في البلاد، إذ تصل فيها نسبة العاطلين عن العمل من حاملي الشهادات الى 47,4 في المئة من مجموع حاملي الشهادات العاطلين عن العمل في تونس.
كما تعاني المنطقة ضعف البنية التحتية، من طرقات ومؤسسات صحية وثقافية، وزيادة في النمو الديموغرافي، ومشاكل بيئية بسبب الفضلات التي يلقيها المجمع الكيمياوي بالمظيلة، التي تسمى «البخارة»، وتساهم بقدر كبير في تلويث الطبقة المائية وكذلك الهواء، بالاضافة إلى انتشار السكن العشوائي والنقص في التجهيزات والخدمات الاساسية في المستشفيات ودور الثقافة مثلاً. كما تفشّت الأمراض وتكاثرت. فوفق تقديرات قسم «مقاومة التلوث» بالمستشفى المحلي بمدينة المظيلة التابعة لولاية قفصة، تجاوزت الاصابة بمرض هشاشة العظام 68 في المئة من مجموع السكان سنة 2011، وكذلك يتفشى سرطان الدم بين الاطفال نتيجة تلوث المياه التي يتسبب بها المجمع الكيميائي الذي تتجاوز فيه نسبة اصابة الأطفال الـ 23 في المئة في مدينة المظيلة.
ورغم أن النشاط الاقتصادي بمنطقة الحوض المنجمي ظل متمحوراً حول المنجم، الذي تعيش مدن بكاملها منه، إلا أن «برنامج الاصلاح الهيكلي» الذي انطلق عام 1996، أصاب شركة فوسفات قفصة بالعجز عن تلبية طلبات العمل للأعداد المتزايدة من أبناء الجهة. فقد فتح البرنامج الباب على أنماط بائسة وهشة في ميدان التشغيل، على اثر التنقيحات في «مجلة التشغيل» التونسية (لوائح قوانين العمل) التي دخلت حيّز التنفيذ سنة 1996، مشرّعة أنماط التشغيل بالعقود ذات المدد المحدودة. وأسوأ هذه الأنماط كان آلية «التشغيل بالمناولة» الذي يشبه الاستعباد، مع أجور رديئة وغياب لأي ضمانات اجتماعية. ولم تؤثر هذه الشروط في العاملين والعاملات بشكل مباشر فحسب، بل أثرت في مستوى العيش بشكل عام أيضاً، وهو ما تسبب بتناقص عدد عمال «شركة فوسفات قفصة» من 14 ألف عامل في أواخر الثمانينيات، إلى حوالي 5300 عامل اليوم. كما جعلت الشركة من المكننة وسيلة إضافية للتخلص من اليد العاملة. كما أنها كثفت من الساعات الاضافية لتجنب انتدابات جديدة، فصرفت في السنوات الماضية على هذه الساعات ما قيمته 5 مليارات من المليمات. هكذا، باتت مدن الحوض المنجمي منسيّة ومهمَّشة وتعاني الفقر والبطالة، اضافة إلى النقص الفادح في المياه الصالحة للشرب. فالشركة تستهلك جزءاً كبيراً من الثروة المائية للمنطقة، إضافة إلى تسبب مياه غسل المستخرجات في تلويث كميات المياه المتبقية.
أجري امتحان لقبول العمال والكادرات العلمية في «شركة فوسفات قفصة» في شهر نيسان/أبريل 2012. وبعد صدور النتائج، شهدت المنطقة موجة من الاحتجاجات والاعتصامات المفتوحة أمام وزارة التشغيل، لم تنتهِ الى نتائج وحلول حقيقية. واستندت الحركة الاحتجاجية الى عدم تطبيق مبدأ قبول العاطلين عن العمل، رغم أن السلطات أقرّته بعد الثورة لحاملي الشهادات العليا. وقد اتهمت بيانات المحتجين السلطات الجديدة باعتماد سياسة النظام السابق نفسها في مجالات المحاباة، وعدم التدقيق في ملفات المتقدمين إلى الوظيفة، وإلغاء امتحانات التوظيف وإعادتها بهدف إسقاط بعض الأسماء الناجحة من دون تبرير.
الحجر الأساس في التعامل مع اشكالية التنمية الجهوية هو الديموقراطية المحلية، أو المباشرة، من خلال انتخاب المجالس الجهوية والمجالس البلدية، لأن ما نلاحظه اليوم هو أن طريقة التعيين في هذه المجالس لا تزال هي نفسها التي كانت معتمدة في العهد السابق. هذا علاوة على ضرورة كسر حاجز المركزية من خلال الانتخاب المباشر والشفاف لرئيس البلدية وللمعتمَدين الذين يمثلون السلطة السياسية، من دون أن ننسى الوالي الذي يمثل أعلى سلطة سياسية في الولاية. فرغم أهمية موقعه، لا يزال هذا الاخير يُعيَّن بناء على ولائه السياسي للحكومة، ومدى انسجامه مع برامجها السياسية. وتنبع أهمية تعزيز اللامركزية في تونس من ضرورة منح أبناء الجهات الفرصة في صياغة الخيارات التنموية الصائبة لربطها بمحيطها المحلي ثقافياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً، حتى لا يبقى النمو غير المتكافئ بين الجهات هو القاعدة.