ضمن فن الشارع، كان الغرافيتي هو الاسبق في الميلاد. وقد ترعرع في الأحياء الفقيرة حيث استعمله المهمشون للتعبير عن مواقفهم. وفي تونس خرجت حركات فنية صنفت نفسها في خانة المقاومة الفنية، نذكر منها "أهل الكهف" فيما يتعلق بالرسومات الحائطية، و"فني رغماً عني" في مجال مسرح الشارع.
ولأن الهدف الاساسي هو تحقيق التواصل مع رجل الشارع، فإن "حركة اهل الكهف"، التي عرفت نفسها في احدى كتاباتهم بالاتي: "نحن أحفاد الكاهنة وكسيلة، أحفاد حنبعل مقاوم روما، أحفاد علي بن غذاهم مقاوم العثمانيين، أحفاد الدغباجي، وجورج عدة، وحشاد، مقاوم الاستعمار الفرنسي. نحن رفاق الفاضل ساسي ونبيل البركاتي وكل شهيد سال دمه من اجل هذه الارض الطيبة...نحن تونس"، أعادت النظر الى الفضاء، فحاولت خلق جغرافيا مكانية للإبداع وسافرت بالفن من الفضاء المغلق النوعي، المقتصر على فئات معينة، الى الأمكنة المفتوحة والعامة، بأعمالها الفنية ذات القيمة الجمالية التي تحاكي المجتمع في كل تفاصيله وتناقضاته. وهم التقوا بجدران تونس العاصمة ومدينة جربة وتالة وسيدي بوزيد الخ...استعملوا الجدران كمحمل اساسي واعتمدوا ادوات تمنحهم السرعة والوضوح، كعبوات الصباغ المضغوطة، وأوراق الطباعة والملصقات. وهذه تعكس تحديهم الواضح لسلطة القوانين، فأعمالهم لا ترضى بالتراخيص الرسمية، في حين يخضع محتوى العمل الفني الى الافكار السياسية والثورية التي تطمح للتغيير وللدفاع عن قضايا المجتمع. ولم تحتف رسوماتهم بسقوط الطاغية فحسب بل نذكر كلمات لطالما صاحبت اعمالهم مثل "دافعوا عن مجتمعكم" و"لا تقعوا في حب السلطة".
كتاباتهم باتت عصية على الفهم البسيط للأشياء، تبحر في سماء اللامعنى او تصور واقعها كواقع معقد أصاب الانسان بالهذيان: "مدة صلوحية اعمال اهل الكهف لا تتجاوز الـ24 ساعة. نرجو منكم تهذيبها او تخريبها او تعذيبها او إعادة توضيبها"، "أعمال اهل الكهف تأبى التعليب، "محمد البوعزيزي هو اول فنان تشكيلي في تونس". ولكن الكلمات صعبة الفهم لوحة فنية تحمل تعقيدات العمل التشكيلي نفسه، او هي دعوة مباشرة لإخراج الفرد من عزلته او من كهفه نحو الحائط الذي يجمع حوله اناسا تنظر، تستكشف، تتساءل، وتتناقش.
ومن الحركات في فضاء الشارع التونسي ما بعد "14 جانفي" مجموعة "فني رغماً عني"، وهي فرقة مسرحية شابة انتفضت على سلطة المكان وهجرت خشبته الى الأبد. كتبوا يعرّفون عن أنفسهم: "من عمق الإدراك بتهميش المبدعين في الأحياء الشعبية وتمسكاً بحق المواطنة ودفاعاً عن حرية الإبداع والتعبير، تشكلت مجموعة من الشباب المهمش في مختلف الفنون من غناء بلحن الكلمات ورسم وكتابة على الجدران وتدوين ورقص ومسرح استعراضي...". ويمكن ان نقول إننا امام بزوغ شكل جديد من المسرح، نصنفه بأنه مسرح "إبداع الناس للناس". مسرح الحياة اليومية يعرض على مسافة قريبة جداً من المتفرج، بعيداً عن سلطة الكراسي والإضاءة والديكور وتوجيهات المخرج، بإيجاز شكل فني يعتمد المباشراتية. واللافت في عروض مجموعة "فني رغماً عني" هو الجمهور الذي يكون متشوقاً متحمساً، فاعلاً وفضولياً، يطلق التعليقات المتحمسة ويقدم اقتراحات على مؤدي العمل. وحين يغادر جزء من الجمهور يعوضه آخر. وهو جمهور ملامحه غير محددة، تختلف فيه الاعمار والاهتمامات والافكار والتوجهات، فتتحقق بذلك حالة فرجة فريدة، اختيارية، لا يستطيع ان يوفرها إلا فضاء الشارع الحر.
وفي لقاء مع الباحث والاكاديمي وعضو بنقابة مهن الفنون التشكيلية، الاستاذ نبيل الصوابي، اكد انه لا يجب اعتبار هذه الظاهرة حديثة لا سابق لها، لأن هناك محاولات في الفن العربي المعاصر، خصوصاً في المغرب مع جماعة الدار البيضاء، ومحمد القاسمي الذي اشتغل مع الصباغين في السوق القديمة، وفي مصر ايضاً في مجال المسرح. وربما اخذت هذه الظاهرة حيزاً مهماً بعد "الثورات العربية" بسبب العلاقة الفرجوية مع الفضاء، وهي تنظر لمفهوم "السياسي" في الفن وليس السياسة، بمعنى رؤية سياسية فنية.
ولكن الصوابي يضيف أن مشكلة هذه الظواهر أنها ما زالت تقدم تحت شعار "الثورية " وبقوالب جاهزة وتقنيات تختزل ماهو فني ضمن ما هو سياسي، بمعنى اختزال مفهوم الحرية في "التنديد" او الفضح. وهي رؤية ايديولوجية يجب مراجعتها، اذ لا يجب اختزال الفن في التحريض، لأنها رؤية ضيقة الأفق مثلما يقول محمود درويش "ما هو أسوأ من الشعر السياسي هو تعالي الشعر عن السياسة، وأيضاً على الشعر ان لا يقيس نفسه بالدبابة".