قبل أكثر من عامين حكت لي صديقتي قصة شخصية عاشتها: شُلَّ والدها، ولكن وبفضل العلاج والصبر تعافى تماماً. فاستأذنت والديها بأن ترسل صورته الى إحدى المجموعات على فيسبوك تشجيعاً لإحدى الشابات على الصبر وهي كانت تشكو من مرض عضال وفقدت الأمل في النجاة. سمحوا لها بنشر قصته، وقالت لي أنه، وفي دقائق، وجد المنشور آلاف "الإعجابات" والتفاعلات. ولكن المثير في الأمر أن كل صديقاتنا اتصلوا بها وراحوا يسألونها: "هل أنت ابنة فلان". من كانت زميلتها في المرحلة الابتدائية وهي تقيم حالياً في لندن وأخرى في المرحلة المتوسطة وتقيم في إحدى الدول العربية أو زميلة دراسة في الثانوي وتقيم في امريكا.. وقالت لي أنهن يسألن عنك وعن كل صديقاتنا، وأن كل نساء السودان في هذه "القروبات" (وهو جمع لـ"غروب" أو "جروب" لو شئتم، باللهجة السودانية التي تلفُظ القاف مخففة).
جيل متمرد على كل شيء
على الرغم من أنه يعيش في كنف دولة ذات توجه اسلامي فرضت الحجاب وحاولت تقييد المرأة بقوانين وعادات وتقاليد تجعل من المجتمع ذكورياً بحتاً بحيث لا يحق لها إبداء إعجابها بالرجل - ومن تصرِّح عن مشاعرها تعتبر مبتذلة وغير مؤدبة - فإن كل ذلك لم يكبح جماح جيلنا المتمرد الذي أصبح يتنقل عبر فضاء الإنترنت ويتعرف على كل ما يدور في العالم، وعلى صراع النساء فيه من أجل فرض احترامهن، ونيل القوانين المناسبة لذلك.
المجتمع السوداني ذكوري يبيح للرجل إقامة العلاقات المتعددة وممارسة الخداع والتلاعب بمشاعر الأنثى دون أن يؤثر عليه هذا اجتماعياً. وحين يفكر في الزواج، يختار من ليست لها تجارب عاطفية.
وأما من تعبر عن مشاعر الحب والإعجاب فيتنكر لها المجتمع وتوصف بالانحلال الأخلاقي.
قروب "مُنَبْرَشات" كان متنفسنا. كانت البنات ("الفتيات") يرسلن صورة الولد ("الشاب") إلى القروب لجمع معلومة عنه، أو كما يقلن "نريد الزيت" وهو مصطلح سوداني يعني الخُلاصة، أو كل ما يتعلق بهذا الشخص: من هو، إسرته، هل هو متزوج أو مرتبط الخ..
وهذا تسبب في كثير من المشاكل بالنسبة للأولاد والبنات على السواء!
فهو ولا شك يمثل اقتحام لخصوصية الشخص. ولكنه وبالمقابل فمن محاسنه أنه أصبح مصدر خوف وقلق للأولاد لأنه يفضح المتلاعب في مجتمعه حيث بالتأكيد تطغى ازدواجية المعايير، فهو يغض الطرف عن علاقات الشبان التي لم تظهر أو التي تمارس في الخفاء. ولكنه يعاقب البنات بالنبذ.
في بداية القروب، كان يمكن لكل صبية تعرفت على شاب وتشعر بأنه كذّاب، أو تتشكك بنواياه، أن ترسل صورته إلى القروب وتسأل عنه. ومع اندلاع الثورة أصبح قروب مُنَبْرَشات يرصد فقط رجال الأمن!
شبكة النشر هذه جعلت بعض الأولاد يتجنبون التلاعب بمشاعر البنات خوفاً من أن تظهر صورتهم في القروب، الذي واجه هجمات شرسه من الرجال، وكانوا يصفون كل من هن بداخله بالانحلال الأخلاقي.. ولا سيما أن الاسم تحور من منبر للحديث (مِنْبَرْ Chat) الى "مُنَبْرَشات" تلك. فقد قامت الشابات بإدغامها في كلمة واحدة أصلها "مُنْبَرِش"، وتعني باللهجة العامية الجلوس على الأرض العارية، أو على "برش" فوق الأرض، وهو حَصيرٌ صَغير من سعف النخل. ويقصد بذلك الحب الشديد لدرجة جلوس المرأة منكسرة على الأرض: "أنا منبرشة" بمعنى معجبة حد الانكسار.
ففي بداية القروب، كان يمكن لكل صبية تعرفت على شاب يرغب بإقامة "علاقة" معها وتشعر بأنه كذّاب، أو تتشكك بنواياه، أن ترسل صورته إلى القروب وتسأل عنه. ذلك أن فيه عدد كبير من السودانيات من كل الأعمار.. ويوجد قروب آخر اسمه "الدعم السريع"! ومن الطريف أنه عند تنزيل صورة بالقروب لشاب وسيم ومحترم، تكتب الشابات: "تعالوا إنبرشوا".
شعار "الحصة وطن"
مع اندلاع الثورة أصبح قروب مُنَبْرَشات يرصد فقط رجال الأمن! وفي بدايتها، أذكر أن إحدى البنات أرسلت صورة ولد وقالت "أريد معلومات عنه" أو كما يقلن "الزيت"، قالت لها إحدى المشرفات على القروب "هل هو من الأمن" فأجابت بـ"لا". قالت لها "الأدمن" أن القروب "مضرِب عن الحالات الباردة" وسوف يفضح فحسب من يقتل ويعذب ويدهس.
جرت محاولات لضرب مصداقية القروب أو لتسريب معلومات إليه تخص بعض المعارضين باتهامهم بأنهم من الأمن، ولكن تمّ الكشف عن كل الألاعيب التي كان يروج لها "الذباب الإلكتروني".
بل استطاع القروب، بالتعاون مع العديد من الناشطين، خفض عدد الضحايا، ومن أن يجعل بعض المنتسبين للأمن يرفضون التعليمات التي تصدر إليهم خوفاً من أن يتم رصدهم عبر كاميرات الناشطين وقروب منبرشات. وقد قام بعض أفراد الأمن بتغطية وجوههم بشالات مما جعلهم محط سخرية. كما أن جهاز الأمن اعترف بقتل متظاهرين بعد كشف محاولاتهم إنكار هذه الجرائم بالشهادة والصورة.
نجح هذا القروب في تغيير نظرة المجتمع إليه وحتى نظرته لهذا الجيل الشاب بالكامل. آخر انتصار كان فضح كل أعضاء الكتيبة الإلكترونية (بأسماء الضباط) التي كانت تستعين ببعض عناصر الأمن المصري لـ"تهكير" قروب "منبرشات" وصفحات بعض الناشطين وصفحة "تجمع المهنيين".
اسم مستعار لشابة تقيم في أم درمان.