على الرغم من كون اللغة تنحاز لمنح الوطن صفة المذكر، إلا أن "مصر" كانت دوماً في مخيلة مواطنيها "سيدة".. سواء بهية أو مزوية، محروسة أو منحوسة. هي البلاد وهم العباد، هي "الأرض" وهم من يمشون عليها إصلاحاً أو فساداً.
سمراء، عتيقة التجربة، عفيّة المحاولة، منهكة الأحلام
مصر هي تماماً مثل السيدات اللاتي يبزغن فوق سطح أحداث مريرة تجتاح الاطمئنان الزائف، فتدفع إحداهن كل صباح الثمن الفادح لفساد سابح في أوصال البلاد، يسمونه حيناً إهمالاً وحيناً آخر إرهاباً، أو يتركونه عالقاً دون أسماء.
فبينما يقرر أحدهم في صدر الصورة، على رأس البلاد، أن يمتنع عن تطوير هيئة متهالكة كشبكة القطارات تُدعى "السكة الحديد"، ويقرر آخر على هامشها أن يخترع قنبلة ليفجر نفسه علّه يكون "الشهيد"، تمر من بين تفاصيل جحودهم جميعاً، اليوم تلو الآخر، أولئك "السيدات".
كنَّ في طريقهن، تشغلهن شؤون أخرى قد تكون أكثر أهمية، كقسط مستحق لمدرسة الابن الأصغر، أو كيفية تدبير الحد الأدنى من المبلغ المطلوب لتجهيز الابنة الكبرى للزفاف.. أفكار بالدماغ، هموم بالقلب، أكياس وحقائب على يمين وشمال الأذرع، فكيف، ومن وسط كل هذا الزحام، تستطيع أياً منهن، عندما يحين موعد نزول الهَّم، أن تنجو أو تفر؟ ينبثق الجحيم فجأة فوق سطح الأرض ولا يفصل بينهن وبينه أكثر من شبر.
سيدة الدرب
في مساء تلك الليلة، حوالي السابعة مساءً خرجت حلاوتهم زينهم (ربة المنزل) ذات الأربعة والأربعين ربيعاً من منزلها في منطقة الدرب الأحمر بالقاهرة.. خرجت لأمرين، الأول هو المرور على النجار لمتابعة ما أنجزه في غرفة ابنتها الكبرى التي تستعد للزواج قريباً، والثاني هو شراء "الخبز الفينو" لابنتها الصغيرة شيرين للتزود به إلى المدرسة في الصباح.
لم يُطِلْ معها صاحب معرض المفروشات في مفاصلة البيع والشراء، ولكنها انتظرت أمام المخبز قليلاً حتى تحصل على أرغفة طازجة، و كان القدر يعد لها فصلاً جديداً رهيباً. فعند دخولها الحارة الضيقة المفضية لباب منزلها، تصادف مرورها إلى جانب هذا الجار غريب الأطوار الذي سكن البناية مؤخراً، كان يستعد لركوب دراجته ويضع كمامة سوداء على وجهه وحقيبة ثقيلة على ظهره وحزام كحزام الأمان. لم تكن تنظر إليه أو لغيره. كانت تحمل أشياءها وتنظر إلى الأرض أغلب الوقت، كحال كل من يفكر بينما تحفظ أقدامه الطريق.
بينما يقرر أحدهم في صدر الصورة، على رأس البلاد، أن يمتنع عن تطوير هيئة متهالكة كشبكة القطارات تدعى "السكة الحديد"، ويقرر آخر على هامشها أن يخترع قنبلة ليفجر نفسه علّه يكون "الشهيد"، تمر من بين تفاصيل جحودهم جميعاً، اليوم تلو الآخر، أولئك "السيدات".
لم تشاهد هي ما شاهدناه جميعاً بعد ذلك عبر كاميرات المراقبة. فعند مرورها إلى جانب الشاب وصل إليه في اللحظة نفسها عدد من أفراد الأمن. وضع يده على الحزام، وطاله وطالهم الانفجار.. وأصبح السؤال الوحيد على ألسنة الجميع: وما مصير تلك السيدة العابرة بالصدفة بهذه اللحظة الصعبة؟ فحينما يكون هناك مشهد يتجاذب "بطولته"، بالسلب والإيجاب طرفين، يصبح هذا العابر أو العابرة هو خير من يمثل الملايين من المتابعين للمشهد، أبناء الصمت والصدفة.
جاء البيان الأول يشير إلى استشهاد عدد من أفراد وضباط الأمن ومقتل الإرهابي. وجاء البيان الثاني يشير إلى نقل السيدة إلى المشفى. وكانت الفرحة طائرة وجميلة حين نقل التلفزيون المصري خبر وصولها إلى منزلها بعد تعافيها من كسر في الساق وشظايا متفرقة في جسدها. أصابها بالوهن لكنه لم يقدر عليها.
عادت السمراء، عتيقة التجربة، عفيّة المحاولة - ولو منكسرة الأحلام - إلى بيتها لتعيد من جديد ترتيب شؤونها الصغيرة.
سيدات القطار
وفي صباح يوم تالٍ ليس ببعيد، جاء مشهد جديد، طرفاه هذه المرة قطار حديدي ومصدّ خرساني، اشتعل بينهما الاشتباك بينما تصادف مرور سيدة تحمل أكياساً وحقائباً قبل استعدادها لمغادرة محطة القطار التي وصلت إليها تواً من الصعيد لتزور بيت ابنها.
مصر: النساء والبحر
10-10-2018
جاءت الفاجعة مريرة، في واحدة من أكثر الأماكن رمزية وازدحاماً. النيران تلتهم، وجراحٌ لا تعرف متى تلتئم، وأعاد الجميع السؤال نفسه من وسط آتون الأجساد المحترقة، شهيدة الإهمال والتقاعس والفساد: "أين ذهبت السيدة التي تشبه كل الأمهات؟".
وتوالت البيانات، اثنتان وعشرون حالة وفاة وخمسون من المصابين، وملايين من المفجوعين المتابعين، بعضهم يتداول صورة سيدة جميلة تُدعى "إيفون" بحثت ابنتها عنها في كل المستشفيات، طاف معها عدد من الشباب والشابات ممن ذهبوا للتبرع بالدم، لم يرها أحد ثم اكتمل الوجع بظهور نتيجة تحليل الـ DNA لإحدى الجثث.
جاء البيان الأول يشير إلى استشهاد عدد من أفراد وضباط الأمن ومقتل الإرهابي. وجاء البيان الثاني يشير إلى نقل السيدة إلى المشفى. وكانت الفرحة طائرة وجميلة حين نقل التلفزيون المصري خبر وصولها إلى منزلها بعد تعافيها من كسر في الساق وشظايا متفرقة في جسدها. أصابها بالوهن لكنه لم يقدر عليها.
واستمرت البيانات في اليوم الرابع للكارثة لتشير إلى تعافي تلك السيدة التي كانت هي الأقرب للحظة الانفجار، أراد لها القدر الحياة بنسبة حروق 20 في المئة.
نجاة لم تكن متوقعة، فجاءت بوافر غزير من السعادة المجترحة، نجت وهي من تعلقت بها القلوب، نجت لتحكي عن رفيقة طريقها خلال رحلة القطار، "إيفون". أما الطفلة "رواية" فقد أبكت الملايين وهي تجلس على الأرض غير واعية لاحتراق جسدها بقدر لوعتها وهي تنادي على جدتها التي اختفت.
فراغ قلب أم موسى / البلاد
في كل صباح ومساء تتلقى تلك البلد/"السيدة" آلاف الدعوات واللعنات ممن ينعون حظهم في المرور بأرضها أو ممن يرْثون لحالهم وحالها، بينما قطاع واسع من السيدات المصريات مثل أولئك "المارات" في الدروب والحواري والمدن البعيدة عن العاصمة القديمة، وتلك الجديدة، لديهن عشرات المظالم لا يلتفتن لها كثيراً ويركزن في شغل تفاصيل حياتهن اليومية بين طهي وتدبير بعض القروش القليلة وتداول النميمة.
لكن ومع تكرار الفجائع، أصبح الخوف شائع، والوجع قريب، وأصبحت قلوب كثير منهن، كقلب أم النبي موسى، التي فرغ حزناً على وليدها حين اضطرت لتركه وحده في نهر النيل ذات صباح.
نهر يسحب الجميع بجسارة، بينما كل العيون شاخصة. لم يعد هناك إلا الرتابة والغرابة، وللذل أن يتقدم فيمضغ أوصال الحضارة.