دخلت البلاد منذ أسابيع في حالتها الربيعية الاحتفالية، عكستها لافتات إعلانات العروض والحفلات الموسيقية، والمهرجانات الثقافية والمؤتمرات وورش العمل على نفقة المال العام، واستقبالات حافلة لوفود من المشاهير (فنانين، مطربين، موسيقيين، كتاب..الخ)، لم تغفل الكاميرات عن تسجيل وصولهم وحركتهم لحظة بلحظة. هؤلاء أتوا من أصقاع الدنيا لبلد يعتمد دخله على مساعدات جيرانه، وربما يسمعون عنه لأول مرة، وهم من حيث يقصدون أو لا يقصدون يساهمون بإضفاء شرعية على واقع سياسي ملتبس.
شوارع البحرين الرئيسية وطرقاتها، وكل وسائل الميديا عجت بالإعلانات الترويجية للفعاليات المتنوعة. فمن جهة رفرفت أعلام البحرين على طول الشوارع السريعة، بجانبها أعلام سباق "فورمولا1" (يجري للمرة التاسعة في البحرين، وقد استمر ثلاثة أيام انتهت في 21 نيسان/ابريل ) الذي تابعه الملايين كحدث رياضي، ضمن سلسلة سباقات الجائزة الكبرى عالمياً، وعددها 19 كل عام. لذا فهو يجتذب الاهتمام الدولي للبحرين. السباق يحقق دخله من الرسوم المدفوعة من أماكن الاستضافة، ومن حقوق العرض التلفزيوني، بيد إن الخزينة العامة كما قيل تدفع نحو 40 مليون دولار سنوياً، لتكون البحرين جزءاً من السباق.
على خطٌ موازٍ، شنُت حملة اعتقالات استباقية لتأمين السباق ولتفادي أي مظهر احتجاجي برغم استمرار المواجهات اليومية، فيما كانت المعارضة تعلن تصعيداً سياسياً وصفته بـ"الشعبي"، الذي تخلله تنظيم المسيرات والوقفات الاحتجاجية، كما أعلن "ائتلاف شباب 14 فبراير" عن فعالياته التي اسماها "براكين اللهب". وهذا جرى على امتداد الشوارع الرئيسية المطلة على قرى ومناطق الاحتجاج، حيث أمكن للسائح الزائر مشاهدة السياج المعدني الذي شيدته السلطات الأمنية لمحاصرة هذه المناطق، فضلاً عن حواجز إسمنتية ودوريات حراسة أمنية دائمة عند مداخل القرى والمناطق السكنية، قابلتها حواجز شعبية أخرى تألفت من قطع حجارة وحاويات القمامة وجذوع النخيل وبعض قطع الأثاث والأخشاب وغيرها. وهناك الإطارات المشتعلة التي وضعها المحتجون من الشباب لقطع الطرق الرئيسية والداخلية في قراهم.
استمرت المناوشات الأمنية بين شباب يرشقون الشرطة بالحجارة وزجاجات المولوتوف، قابلتهم الشرطة المسلحة بإطلاق عشوائي كثيف للغازات السامة المسيلة للدموع وخرطوش الشوزن. وعلاوة على الضحايا الآدميين، اشتكى البعض من نفوق الحيوانات من مواشي وطيور في مزارعهم وتلف محاصيلها. لقد تغير نمط المعيشة، إنه المشهد الأكثر سريالية للمناخ السياسي، حيث زدادت حمى نشر الصور المزدحمة في كل الأنحاء والأمكنة، على أعمدة إنارة الطرق السريعة المؤدية لحلبة السباق وفي المراكز التجارية وعلى جدران وواجهات مؤسسات الدولة، خارجها وداخلها، في المدارس والمستشفيات وغيرها لتؤكد "أن البلد بخير".
فهل البلد بخير؟!
في أيام "فورمولا1" وربيع الاحتفالات الشكلية، تحديداً في مسيرة المعارضة بقرية الديه على بعد أمتار من مطار البحرين الدولي، سار عشرات الأطفال في المسيرة واضعين ضمادات رمزية على أعينهم، رافعين صورة الطفل أحمد النهام (5 سنوات)، الذي تصدرت مأساته وصورته منذ عام وسائل الاتصال الاجتماعي والفضاء الافتراضي وهو راقد بأحد المشافي بعد استئصال عينه اليسرى التي فقئت بسبب شظايا أُطلقت من خرطوش الشوزن من المرتزقة، أثناء المواجهات حينذاك، بينما كان جالساً في حضن والده وهو يبيع السمك. أما وفود العلاقات العامة الرسمية فيدافعون عن الطفولة في المؤتمرات الدولية، ومثلهم بعض البرلمانيين المستميتين لإصدار قانون يعاقب أولياء الأمور الذين يصطحبون أطفالهم في الاحتجاجات (النهام لم يكن في تظاهرة)، وقيل أيضاً إنهم ينوون معاقبة من يضبط أطفالهم بزي الروضة وسط المسيرات. ديموقراطية زائفة صورتها قبيحة، إذا ما نظرنا الى الواقع بشموله. يصح في مراقبة المشهد السياسي البحريني وتفاعل عناصره في أيام سباق الفورمولا 1 القول إنه مشهد "سريالي" بامتياز. فمظاهره كانت غريبة تقفز فوق الواقع بتناقضاتها وغموضها وتعقيدها، وكانت حقاً خارج تحكم العقل والمنطق.
مواضيع
سريالية السياسة في البحرين
مقالات من البحرين
البحرين: حين تراقب العائلة الحاكمة نفسها
هناك تقرير سنوي يصدره ديوان الرقابة في البحرين، يُطبَّل له كل عام باحتفالية مكرورة لا يوازيها سوى تناسيه بعد انتهاء الاحتفال به. فما هي وظيفة هذا التقرير، وما هي صلاحيات...
حُلم ملك البحرين بغزو الفضاء
قرر ملك البحرين منذ خمس سنوات غزو الفضاء، ومذَّاك ما زال يُمْعِن! حين يختفي الخوف من ارتكاب المسخرة.
البحرين "تستعد" للحرب ضد إيران
تتصرف البحرين كما لو كانت دولة كبرى في منطقة الخليج العربي، وهي استكملت - أو هي على وشك استكمال - الإستعدادات التي تتطلبها الحرب مع إيران.
للكاتب نفسه
خيارات الاتحاد النسائي البحريني
لم تحد مطالبات الحركة النسائية البحرينية عن أصل الحكاية التي تأسّست في 8 آذار/مارس 1857 بتظاهرة عاملات مصانع النسيج الأميركية للمطالبة برفع الأجور وتقليل ساعات العمل، حتى تجدّدت في تظاهرات...
شنطة يدي مجرد كيس
حتى منتصف القرن السابق، لم تكن جداتنا بحاجة إلى حمل حقائب تحتوي على هواتف نقالة أو حواسيب أو أكسسوارت كضروريات، بل إن حقائبهن في الموروث الاجتماعي لم تتجاوز ما يطلق...
البحرين: "هذي أرضنا، نموت ونحيا فيها"
من علو سطح منزل متهتك، في حي ينتشر فيه الفقر كوباءٍ مزمنٍ بإحدى قرى الاحتجاج الشعبي، تتحرك الكاميرا بثبات، تلتقط تسجيلاً مرئياً وصوتياً لامرأة شابة تتدثر بعباءتها السوداء، عزلاء تحتضن...