يتقدم التاريخ بالأمم ودولها. ولكنه مع العرب يعود بهم القهقرى.. نحو جاهليتهم الأولى!
فبعد قرن على نهاية الحرب العالمية الأولى التي اسقطت "الامبراطورية العثمانية" ومعها حليفها القوي، المانيا، تقاسم "المنتصرون": بريطانيا وفرنسا والمشروع الاميركي الوافد من باب التحالف معهما، هذه المنطقة العربية، "المشرق" تحديداً. وهكذا فرضت فرنسا انتدابها على لبنان (مع تعديلات جوهرية على خريطة "المتصرفية" (بضم "الاقضية الاربعة"، أي بيروت والشمال والبقاع والجنوب إلى جبل لبنان، لإقامة الدولة اللبنانية)..ومعه سوريا.
ولقد قاوم السوريون مشروع تقطيع بلادهم إلى "أربع دول"، وتمكنوا – بالثورة - من الحفاظ على كيانهم السياسي، متجرعين مرارة التقسيم واغتيال مشروع الوحدة العربية، اقله في المشرق.
أما العراق فقد نجح البريطانيون في إقامة مملكة هاشمية اعطي عرشها للملك فيصل الاول ابن الشريف حسين (مطلق الرصاصة الأولى ايذانا بقيام الثورة العربية من اجل الوحدة والتحرير، تحت رعاية بريطانيا..).
وفي هذا التقاسم فرضت بريطانيا انتدابها على فلسطين، ثم اقتطعت من سوريا "امارة " الامير عبد الله ابن الشريف حسين، باسم شرقي الاردن.. استباقاً للاحتلال الاسرائيلي لفلسطين، التي سينال منها الامير عبد الله ما يحول "امارته" الى مملكة بعاصمتها القدس الشريف.. ولم يتأخر العقاب، حيث اغتيل الملك عبد الله عند عتبات المسجد الاقصى، ليرث عرشه نجله الامير طلال الذي اتهم بالجنون، ليوّلى الحفيد الحسين بن طلال وتستمر المملكة حتى العام 1967، حين سوف تسقطها اسرائيل لتضم القدس إلى دولتها، بعدما كانت المملكة الهاشمية في العراق قد اُسقطت بثورة 14 تموز/ يوليو 1958 بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم بالشراكة مع العقيد عبد السلام عارف، وهي شراكة سيسقطها الشيوعيون بتحالفهم مع قاسم حتى العام 1961.. حين اغتيل الاخير في 9 شباط/فبراير عام 1963 وانفرد عارف بحكم دولة متصدعة. وتوالت الانقلابات حتى استقر الحكم لصدام حسين بتغطية من خاله احمد حسن البكر، حتى الاحتلال الاميركي في العام 2003 بعد سلسلة مغامرات قاتلة بدأت بالحرب على ايران وانتهت بغزو الكويت.. فضلاً عن المذابح ضد الاكراد.
مع نهاية ايلول/ سبتمبر من العام 1970 رحل جمال عبد الناصر، مباشرة بعد نجاحه في وقف المذبحة ضد المقاومة الفلسطينية في الاردن.. وكان أن انتقلت هذه المقاومة – بأثقالها السياسية والعسكرية- إلى لبنان ، حيث لن تتأخر تداعيات وجودها الثقيل في التحضير لحرب اهلية عربية - دولية في الوطن الصغير المبتلى بالسرطان الطائفي.
ولقد عجل في هذه التداعيات خروج الرئيس المصري انور السادات على الاجماع العربي، وتفرده بزيارة الكيان الاسرائيلي، مصالحاً، وتحدثه امام الكنيست بتاريخ 19 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1977، ثم اندفاعه إلى عقد معاهدة الصلح مع اسرائيل برعاية اميركية مباشرة في كامب ديفيد في 17 ايلول /سبتمبر عام 1978.
ولسوف "يعاقب" الشعب المصري السادات، باغتياله، بعدما كان النظام العربي قد عاقب مصر بنقل مقر جامعة الدول العربية إلى تونس لفترة انتهت مع اغتيال السادات في 6 تشرين الاول/اكتوبر من العام 1981، فأعيدت إلى القاهرة وكأن المعاهدة والتزامات الصلح قد اغتيلت معه.. وهذا غير صحيح بطبيعة الحال.
كانت تلك بداية عصر جديد: فسرعان ما التحق الملك حسين بمسار السادات، فعقد معادة صلح مع العدو الاسرائيلي في وادي عربه.. ما ضيّق الخناق على منظمة التحرير، فأقدم محمود عباس على عقد معاهدة مع الاسرائيليين، في اوسلو، تحت الرعاية الاميركية، استولدت "السلطة الفلسطينية" التي سيسمح لها العدو الاسرائيلي بالعودة إلى الداخل الفلسطيني، بغير سلاح، لتكون أسيرته.. وهكذا دخل ياسر عرفات وطوابير من المقاتلين السابقين الارض المحتلة ليشكلوا "شرطة فلسطين" التي تقوم فعليا بدور حارس للاحتلال من "الارهاب الوطني".
ولم يمر وقت طويل قبل تفجير سوريا، وتعطيل الحياة السياسية في لبنان وترك موقع الرئاسة الأولى شاغراً، في حين تم اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وسادت الفوضى، بينما قوات الاحتلال الاميركي تهيء لفتنة دائمة في العراق، واقطار الخليج تتسابق للاعتراف بإسرائيل وقد حققت الريادة قطر، بينما فتحت عواصم الامارات والبحرين وسلطنة عمان نوافذ خلفية للعلاقات مع العدو القومي في الحاضر والمستقبل.
أين العرب اليوم من احلام وحدتهم او توحدهم في "دولة قادرة تصون ولا تبدد، تحر ولا تهدد" الخ.. إن الوطن العربي مزق، بعضه يتآمر على البعض الآخر، بل لقد قاتل بعض العرب العراق تحت الراية الاميركية، بذريعة تخليصه من "الطاغية" صدام حسين اثر احتلاله الكويت في اوائل التسعينات، ثم أتم الاميركيون احتلال ارض الرافدين في العام 2003..
أما سوريا فكان عليها أن تعيش محاصرة، متوترة، لسنوات، قبل ان تتفجر بالضغوط الدولية والعربية وقصور النظام عن معالجة أمراضه، ليمتد هذا التفجر الذي سرعان ما صار دولياً، لاسيما بعدما ساهمت تركيا ودول عربية بينها قطر والسعودية في توسيع دائرة النار، معززة بتوظيف الفتنة الطائفية.. وهكذا فتح النظام ابواب سوريا امام "الاصدقاء الروس" الذين جاءوا لنجدته، بعدما كان سبقهم الايرانيون ومعهم "حزب الله" في لبنان..
إن الوطن العربي، الآن، مزق من دول ضعيفة ومسترهنة.. لم يكن ينقص الا أن تتورط دولة الإمارات، التي بلا جيش، مع السعودية في الحرب على اليمن حيث يدمر العمران وسائر اساب الحياة.. والا أن تنفتح ابواب الدول العربية البعيدة، سلطنة عمان مثلاً، امام رئيس الحكومة الاسرائيلية، بينما يؤكد هذا المحتل أن عواصم عربية أخرى ابدت استعدادها لاستقباله..
وأن يرتكب وزير خارجية لبنان "سقطة" بالحديث عن اسرائيل بلهجة محايدة..
والتقدم إلى الخلف مستمر.. ربما لان النظام العربي يعتبر أن المستقبل خلفنا لا أمامنا!