للأسف حرمني "خذلان الجسد" كما قال محمود درويش! بسبب أوامر الاطباء بعدم القراءة والكتابة لوجود علة في العصب البصري والشبكية، وعلى الرغم من فداحة الأمر، رددت قول صديقتي بائعة الصحف "كتّر خير الدنيا!".
فعلاً "كتّر خير الدنيا" لأنني عشت حتى أرى المشعوذين وتجار الدين يطردهم الثوار من جامع عبد الحي يوسف، ويخرجون مهرولين فزعين منكسرين لأنهم قالوا بان الخروج على الحاكم حرام. وأن أعيش حتى أرى عمر البشير مثل "مارشال المديرية" في نيالا يرقص بعصا سيدنا سليمان وينعق بصوته الأجش كغراب البين وكأنه في رقصة الهنود الحمر. "مارشال المديرية" يعرفه سكان الخرطوم في الستينات، رجل معتوه يلبس الزي العسكري ويحمل عصاه، منحه ضابط المجلس غرفة في المديرية يجلس فيها طوال النهار وينصرف مع الموظفين!
عمر البشير الآن يلبس الزي العسكري ويحمل عصاه، ولكنه مجرد من أي سلطة سياسية أو تنفيذية، وليس لديه اي قرار. فنظامه عملياً سقط وانتهى. وهذا وضع غريب وسريالي تماما!
عشت لأرى علي عثمان محمد طه يرجف وهو في قصره والثوار يغنون وهم في الأسر! يهدد بكتائب كان نظّمها لعذاب أمريكا التي دنا عذابها وليس لقتل أبناء وطنه المسالمين العزل. ولكن "هي للجاه وليس لله". فعلي عثمان يخشي فقدان القصر الوريف والجاه وتلاحقه عقدة ان يعود للفقر والمسكنة.
عشت لأشهد الإعلام العاهر الذي قاد حملة فصل الجنوب ويحاول الآن التحريض على إذلال الشعب السوداني.
كان الشاعر مظفر النواب يعذر العاهرة التي تبيع اللحم الفاني ويسب من يبيعون أقلامهم وضمائرهم!
عشت لأتابع مصير شهداء حقيقيين، عرس شهداء معتقدهم بناء فردوس على هذه الارض، وبنات حورهم معهم في المسيرات والاعتصامات، زينتهن جمال العقل والروح وقوة الإرادة.
عشت لأرى ثورة أبناء الغد وهي مختلفة عن كل الثورات والانتفاضات الاخيرة. السودانيون مبدعون ومبتكرون، اختلفت ثورتهم عما سمي "الربيع العربي"، فالسودانيون – رغم غطرسة العرب وتعالي بعضهم الفارغ عليهم – كانت المرأة في مقدمة ثورتهم بينما خلت الانتفاضات العربية من دور المرأة.
حين شاركت بعض الفتيات في مظاهرات يناير 2011 تعرضن للتحرش في شارع محمد محمود.
المرأة السودانية سابقة لنظيراتها العربيات. فقط وصلت منصب قاضية محكمة عليا منذ ستينيات القرن الماضي، ودخلت البرلمان بالانتخاب المباشر وليس التعيين منذ عام 1965. كانت المرأة السودانية في الثورة الحالية امتدادا للامازونيات (البطلات المقاتلات) والكنداكات (الحاكمات الحكيمات) وبنات مهيرة بنت عبود ورابحة الكنانيه والشريفه بت بلال ونصرة بنت الشيخ ادريس ونصرة بنت الجيل (اسطورةام حقيقة؟).
وفي الزمان الحاضر هن امتداد لفاطمة أحمد إبراهيم وخالدة زاهر وحاجة كاشف وحواء علي البصير وأم بابكر الشهيد العامرة.
زار فيدل كاسترو القاهرة في ستينيات القرن الفائت ورأى المصريين يصطفون أمام الجمعيات وهم في حالة أكتئاب ويتشاجرون، فعندما قابل عبد الناصر قال له "نحن في كوبا عندنا اشتراكية بالسامبا فالكوبيون يغنون ويرقصون في صفوف الانتظار".
في السودان صنع الشباب ثورة بالسامبا مثلما قال كاسترو. فقد طرزوا ثورتهم بالأهازيج والزغاريد والأغاني والكورال والشعر والموسيقى والدوبيت.
ثورة التغيير مع الفرح والبهجة والبسمة على الرغم من الرصاص، وهم الذين جعلوا من البمبان "بخور تيمان"، وحملة "تسقط بس" نغمة جميلة أعذب من كل سمفونيات الارض. ثورة لا تعرف الخوف أو الاكتئاب، ثورة الفرح والمستقبل والجديد والحياة!
وبالتأكيد سوف يستجيب القدر لأماني وأحلام أبناء الغد القادمين من أفق بكره. من الجانب الاخر تذكرت دوبيت الطيب ود ضحوية أو الضرير يلوم كبار القوم الذين تقاعسوا عن دخول المعارك والغارات:
وحدين في الفريق مكبرين عمامهم
قطعوا الحركة والزول ابوعوارض لامهم