مع دخول الإحتجاجات الشعبية في السودان شهرها الثاني، تصاعدت حالة الإحتقان العام في ظل استمرار حالة الشد والجذب بين الحكومة والمعارضة الداعمة للإحتجاجات، والتي أعلنت صراحة إستمرار تصعيد المواجهة.
وشهدت أيام من الاسبوع الماضي عدداً من الأحداث المتلاحقة توضح قراءة معطيات المشهد العام في السودان. فقد حبست العاصمة الخرطوم أنفاسها بعد أن دعت القوى المنظمة للحراك في الشارع للخروج في عدة مسيرات متزامنة بعدد من مدن السودان، ما أثار القلق من أن تؤدي هذه المسيرات إلى مواجهات مع القوات الأمنية وسقوط المزيد من القتلى.. وهو ما حدث بالفعل، إذ وقعت مواجهات عنيفة ومطاردات بين المحتجين والأجهزة الأمنية في أحياء متفرقة من العاصمة، كانت حصيلتها سقوط قتيلين وعشرات الجرحى (ليتجاوز العدد الكلي للقتلى منذ بدء التظاهرات في 19 كانون الاول/ ديسمبر العشرين بحسب الرواية الرسمية والأربعين حسب ما ذكره الناشطون).
جولة أفق عامة
أثار مقتل طبيب شاب خلال مشاركته في إحتجاجات الخميس في 17 الشهر الجاري، وهو كان يوم الذروة، حالة غضب شعبي عارمة. فاندفع مئات المحتجين للإحتشاد في ساحة المشفى تعبيراً عن سخطهم وهم يرددون الهتافات التي تدعو لإسقاط النظام. فيما دعت قيادات بالمعارضة الى جعل الساحة مكاناً للإعتصام الذي فرقته القوات الأمنية بإستخدام الغاز المسيل للدموع قبيل فجر الجمعة.
وما صاعد من الغضب الشعبي اقتحام عدد من المنازل بالأحياء عنوة لملاحقة المحتجين والقبض عليهم دون مراعاة لحرمتها.
وبالرجوع إلى صباح ذلك اليوم، نجد أن الصحف السودانية نشرت أخباراً تعكس المحاولات الرسمية المبذولة لإمتصاص حالة الإحتقان في الشارع وإتجاهات التعامل الحكومي مع الازمة الإقتصادية في البلاد، وهي الأزمة التي تعتبرها الحكومة السبب في خروج الإحتجاجات السلمية. لكنها بالمقابل تتهم "المخربين" و"المندسين" من بعض قوى المعارضة والحركات المتمردة بإستغلالها وتحويلها إلى أعمال حرق ونهب، شمل المؤسسات العامة والخاصة، مما أحدث خسائر واسعة بعدد من الولايات.
وأفردت الصحف عناوينها لخبر أداء لجنة تقصي الحقائق حول الأحداث التي صاحبت الاحتجاجات للقسم أمام الرئيس البشير، ومن ضمن مهامها حصر الخسائر وتحديد حجم الأضرار وبحث إمكانية جبرها ورد المظالم، وتحديد المسؤولية الجنائية. وهنا، لا تبدو مهمة اللجنة (الرسمية) سهلة بعد أن حمّلت المعارضة مسؤولية قتل المتظاهرين "لكتائب الحزب الحاكم" التي ألمح عدد من قياداته لوجودها.
فقد صرح النائب السابق للبشير على عثمان طه في لقاء تلفزيوني أن "هناك كتائب ظِلّ كاملة موجودة تدافع عن النظام إذا احتاج الأمر لتسيير دولاب العمل أو القيام بالعمل المدني، وتدافع عنه، حتى إذا اقتضى الأمر التضحية بالروح". تبع ذلك تصريحات للقيادي بالحزب الحاكم الفاتح عز الدين في لقاء لنصرة الرئيس البشير توعد فيها بحسم كل من يخرج ضد الحكومة خلال أسبوع واحد وقطع رأس كل من يخرج حاملاً سلاحاً، مستدركاً بالقول إن هذا الحديث موجه للشيوعيين والبعثيين والمارقين وليس للسودانيين.
بالمقابل، تلمح الحكومة إلى وجود مندسين داخل الإحتجاجات يقومون بعمليات قنص منظّمة لمجموعة من المتظاهرين بهدف تحميل السلطة مسؤولية قتلهم وتحقيق هدف المعارضة بإشعال غضب الشارع و"اسقاط النظام". كما أشارت الصحف لتفاصيل إجتماع المكتب القيادي لحزب "المؤتمر الوطني" الحاكم برئاسة البشير، الذي أعلن لأول مرة نيته إدارة حوار مع الشباب والتعرف على همومهم وقضاياهم.
ولاحقاً تناول الصحافيون وكتّاب الأعمدة هذه الدعوة بالتحليل، متساءلين عمن هم "الشباب" المعنيين بالحوار في ظل عدم وجود قيادة معلومة منهم تقود الإحتجاجات، كما أن الحكومة تعتبر الجهات المعلومة التي تتبنى الدعوة للإحتجاجات وتسيير المواكب، وأبرزها "تجمع المهنيين السودانيين"، جسماً غير شرعي وواجهة للأحزاب اليسارية.
حامت الشكوك حول هوية الذين يقتلون بعد تصريح علي عثمان طه، النائب السابق للبشير، الذي قال "هناك كتائب ظِلّ كاملة موجودة تدافع عن النظام إذا احتاج الأمر لتسيير دولاب العمل أو القيام بالعمل المدني، وتدافع عنه حتى إذا اقتضى الأمر التضحية بالروح".
وتناولت الصحف بعض الأخبار التطمينية للمواطنين ومنها تسريبات بصدور قرارات وشيكة بإعفاء مسؤولين وولاة تسببوا في الأزمات المتصلة بتوفير دقيق الخبز والمحروقات والنقود بالعاصمة الخرطوم والولايات. كما أشارت لمواصلة محاكمة عدد من مدراء الشركات والمصرفيين المتهمين بالتلاعب في الأموال التي خصصها البنك المركزي لإستيراد الأدوية، وذلك في إطار حملة ا أطلقتها الحكومة لمكافحة الفساد وملاحقة كبار الفاسدين الذين أطلقت عليهم "القطط السمان".
كما التقى البشير برئيس إتحاد الصحفيين مؤكدا على دعم حرية العمل الإعلامي، وهو ما يبدو رداً على الإنتقادات الواسعة للحكومة لإعادة الرقابة المسبقة على الصحف ومنع بعضها من الصدور بسبب الأخبار والمقالات المتعلقة بالإحتجاجات.
هل السودان بلد فقير حقاً؟
04-01-2019
غير أن أكثر الأخبار التي اهتمت بها الصحف ووسائل الإعلام كانت تتعلق بعلاقة السودان بالمحيط العربي على ضوء الإحتجاجات الأخيرة، والتي شابها سوء ظن حكومي - إن جاز التعبير - تجاه مواقف هذه الدول من الإحتجاجات بعد أن أصدرت بيانات تحذر رعاياها من السفر للسودان.. فأشارت الصحف لإعلان السفراء العرب بالخرطوم مساندة دولهم الصريحة للسودان خلال لقاء جمعهم مع مساعد الرئيس السوداني. وكان من اللافت إدلاء السفيرين السعودي والمصري بالخرطوم بتصريحات تؤكد الوقوف إلى جانب الحكومة السودانية، ودعم تحقيق الإستقرار في السودان للخروج من أزمته الإقتصادية. أما سفير سوريا التي زارها البشير مؤخراً، فقد قال "إن ما يجري في السودان فيه الكثير من التضليل الإعلامي والمعلومات المغلوطة التي تم استغلالها سياسياً"!
وتبعاً لهذا الدعم السياسي العربي الذي قد تكون الحكومة السودانية في حاجة شديدة إليه في هذه المرحلة، أشارت صحيفة "الإنتباهة" السودانية نقلاً عن مصادر لم تسمها عن مد دولة الإمارات للسودان بـ26 باخرة نفطية في عملية دعم إقتصادي عربي هي الأكبر من نوعها لحل أزمة الوقود التي تعاني منها البلاد منذ أشهر.
أعلن البشير لأول مرة نيته إدارة حوار مع الشباب و"التعرف على همومهم وقضاياهم." وتناول الصحافيون وكتّاب الأعمدة هذه الدعوة بالتحليل، متساءلين عمن هم "الشباب" المعنيين بالحوار في ظل عدم وجود قيادة معلومة منهم تقود الإحتجاجات، بينما تعتبر الحكومة الجهات المعلومة التي تتبنى الدعوة للإحتجاجات وتسيير المواكب، وأبرزها "تجمع المهنيين السودانيين"، جسماً غير شرعي وواجهة للأحزاب اليسارية.
على جانب آخر حظيت الحكومة السودانية بدعم سياسي نوعي من روسيا، منع عنها التدخل الدولي على خلفية الإحتجاجات التي أثارت قلق عدد من المنظمات والدول الأوروبية فدعت الحكومة للتوقف عن إستخدام العنف المفرط تجاه المحتجين والإستجابة لمطالبهم المشروعة. فخلال جلسة مجلس الأمن الدولي حول عمل اللجنة الخاصة بالعقوبات على السودان، أكدت روسيا على أن الاحتجاجات شأن داخلي للبلاد، وأنه لا يوجد لمجلس الأمن تفويض لمناقشة هذا الموضوع في سياق بحث نظام العقوبات ضد الخرطوم.
وقال نائب المندوب الروسي الدائم لدى الأمم المتحدة دميتري بوليانسكي، إن طرح مسألة الاحتجاجات المناوئة للحكومة في السودان يعتبر بحد ذاته "تدخلاً سافراً في الشؤون الداخلية لدولة ذات سيادة"، مشيرا إلى أنه "يأتي في سياق الهندسة الجيوسياسية والنهج الغربي المعروف للأنظمة غير المرغوب فيها".
ولم تكتف روسيا بذلك بل دعت مع الصين إلى وضع خارطة طريق واضحة لرفع العقوبات الإقتصادية المفروضة على السودان، بعد تحسن الأوضاع فيه وفي إقليم دارفور بصفة خاصة.
المواقف السياسية في الداخل
فيما يتعلق بموقف المعارضة في الداخل، فإن بعضها كقوى "نداء السودان" و"التجمع الوطني الديمقراطي" لا تخفي دعمها الاحتجاجات وصولاً إلى تحقيق هدفها وهو إسقاط نظام الرئيس البشير والدخول في مرحلة إنتقالية تفضي إلى قيام إنتخابات ديمقراطية. وترى هذه القوى أنه لا بد من دعم الحراك في الشارع السوداني بتنظيم الإعتصامات والإضراب عن العمل في المرافق الخدمية، وصولاً لمرحلة العصيان المدني الشامل الذي سيكون بمثابة رصاصة الرحمة للنظام.
غير أن أحزاباً وقيادات سياسية مناوئة للنظام، وعلى رأسها الصادق المهدي رئيس "حزب الأمة" القومي، الذي عاد للسودان في اليوم نفسه الذي شهد بداية الإحتجاجات بعد غياب استمر زهاء العام، إختار طريقاً مغايراً عندما طرح عقب عودته ما أطلق عليه "وثيقة عقد اجتماعي" كوصفة للخروج من أزمات السودان، مقترحاً توقيع كل القوى السياسية والكيانات عليها لتسلم لرئاسة الجمهورية.
وتقوم الوثيقة على وقف العداء في مناطق النزاع، والسماح بمرور الإغاثات، وإطلاق سراح الأسرى والمحكومين، وتشكيل حكومة وطنية، وعقد مؤتمر دستوري، وتنظيم انتخابات حرة ونزيهة.
وفي الجانب الآخر، فإن هناك حوالي 22 حزباً، معظمها محسوب على تيار الحكومة ويشارك فيها عقب توافقها على "الوثيقة الوطنية" (في 16 تشرين الاول /اكتوبر 2016) التي شكلت خلاصة "الحوار الوطني السوداني" الذي دعا له البشير، أبرزها "حزب الإصلاح الآن" رفعت في التاسع من كانون الثاني / يناير مذكرة للرئيس البشير تطالب بحل الحكومة والبرلمان، وتشكيل مجلس انتقالي يتولى قيادة البلاد، إضافة إلى تشكيل حكومة انتقالية تجمع بين الكفاءات والتمثيل السياسي. وعلى الرغم من تقليل الحزب الحاكم لخروج هذه الأحزاب والقول أنها لا قيمة لها، إلا أنه فقد حلفاء مهمين لطالما كان يباهي بهم الأحزاب المعارِضة.
عن السودان وأهلها وبؤسها وخيرها
18-01-2019
المتابع للأوضاع في السودان يلحظ إتساع وتيرة الإحتجاجات في الشارع وكسبها لمناطق وأنصاراً جدد في كل مرة، في مقابل محاولات حكومية متصلة لإنهاء هذه الإحتجاجات بأقل تكلفة ممكنة، دون خروج الأوضاع عن السيطرة، مع إستمرار محاولاتها تهدئة المواطنين المحتجين بزيادتها لرواتب العاملين بالدولة وبذل الوعود بقرب إنتهاء الأزمة الإقتصادية. لكنها في المقابل مستمرة في إطلاق رسائل التحذير والوعيد للقوى المعارضة من مغبة إستمرارها في التحريض عليها.
وهذا بسمح بتوقع أن تستمر الإحتجاجات المناوئة للحكومة خاصة بعد أن أعلنت القوى الموقعة على "إعلان الحرية والتغيير" إستمرار تسيير المواكب الإحتجاجية طيلة أيام الاسبوع، لتنتهي بمواكب متزامنة في كافة مدن السودان يوم الخميس في 24-01 تطالب بتنحي الرئيس عمر البشير عن السلطة.
وقد برزت دعوات ونصائح من سياسيين ورجال دين وكتاب صحافيين (من بينهم موالون للحكومة)، لإتخاذ إجراءات تخرج البلاد من أزمتها الحالية، فقد نصح رئيس تحرير صحيفة "المجهر السياسي"، في عموده اليومي بإتخاذ مبادرة سياسية كبرى وإصدار قرارات جمهورية بحل الحكومة الحالية، والتشاور مع تحالف المعارضة (نداء السودان، قوى الإجماع الوطني، تجمع المهنيين) لاختيار شخصية وطنية مؤهلة لرئاسة الحكومة خلال فترة انتقالية لمدة عامين، تكون مسؤولة عن معالجة الأزمة الاقتصادية وتهيئة الأجواء للانتخابات، وصولاً لتسليم السلطة لحكومة ديمقراطية منتخبة تشارك فيها كل القوى السياسية بما فيها الحزب الحاكم والحركات المسلحة بعد تحولها لأحزاب.
السودان: قصة فشل معلَن
31-10-2012
واهتم السودانيون بحديث الشيخ عبد الحي يوسف، أحد أبرز رجال الدين الذين يمتلكون مكانة رمزية في البلاد خلال خطبة الجمعة الماضية بعد الخميس الدامي، حيث أشار إلى أنه التقى الرئيس البشير ضمن مجموعة من العلماء لاثارة عدة نقاط، أولها أن الدين أبقى من الأشخاص، فإذا تعارضت مصلحة الدين ومصلحة الأشخاص، فليذهب الأشخاص. ثانيها أن هذا الشعب محب للدين، معظِّم لحرمته، وما أخرج الناس إلا المسغبة والجوع، وأن الدولة مسؤولة عن إقامة العدل بينهم. وعدّد ما نصح به الرئيس السوداني، ومنها محاسبة المسؤولين المقصرين الذين أفضوا بالناس إلى هذا المآل، ومحاربة الفساد وكف اليد عن المال العام، وتطييب خواطر الناس بالوعد الصادق والكلام الطيب، وعدم إستفزاز مشاعرهم.