تتمهّل السلطة السورية في استدراجِ توصيفٍ سياسي يشرح فيه تودّد الأنظمة العربية إليه مؤخراً، ويطلَّ من خلاله أيضاً على المجتمع المنقسم بين مؤيّدٍ ورافضٍ لسلطته. هذا الانقسام يصعب نفيه أو التعافي منه باستخدام أدوات العمل السياسي التي اعتادها النظام طيلة نصف قرنٍ من وجوده. فالسوريون لم يعودوا اليوم اختصاراً متماثل الدلالة لمجتمعِ السكون والخيبة. منهم من ينتقد فساد النظام القائم، لكنهم لا يجدون في المعارضة البائسة بديلاً له، وبعضهم الآخر يرفضه بكلّيته، ويريد تغيره بصرف النظر عن البدائل المتاحة، وآخرون يتعاملون معه كإرثٍ سياسي مقدّس لا ينبغي استبداله أو التطاول عليه وانتقاده. وهو أيضاً انقسامٌ ضروري لاستيلاد شرطٍ سياسي اجتماعي جديد، ذلك أنّ النظام القائم، إن استمر باحتكار السلطة كما في السابق فإنّ الانقسام المجتمعي حوله سيظل قائماً، ويصير البحث عن المشتركات مع مرور الزمن مسألةً بالغة الصعوبة.
شتاء للسفارات العربية في دمشق
يحافظ الخطاب السياسي السوري على الطابع الفئوي منذ العام 2011، إذ يخاطب النظام مؤيّديه وحدهم متجاهلاً من يعارضه، وكذلك تفعل المعارضة حينما تخاطب جمهورها فقط. كلا الطرفين يبحث في خطابه عن معانٍ إضافيّة للافتراق والانقسام المجتمعي. وبهذا تصير الخصومة السياسيّة خصومة اجتماعيّة أيضاً، مع أنّ صانعي الموت والاعتقال والدمار هم قلّة داخل معسكر الموالاة، ومثلهم فإن المرتبطين بأجندات تكفيرية متطرفة، أو بأجنداتٍ تمويليّة غربية لدولٍ باعتهم في مزاد السياسة الكبير، هم قّلةٌ أيضاً داخل معسكر المعارضة. لكن التعميم هنا أنتج مأزقاً سياسياً - اجتماعياً، حيث بات السوري الذي ينتقد النظام معارِضاً، والمعارض مرتبط بالضرورة بأجنداتٍ خارجية هدفها هدم الدولة. كما أن السوري الذي لا يدين النظام هو موالٍ له، والموالي شريك بعمليات القتل والاعتقال وتدمير المدن وتهجير الناس.. وهذه ورطةٌ معرفيّة تزيد مساحة الانقسام الاجتماعي، وتعزّز مكوّناته أيضاً، لاسيما إنْ استثمر النظام نتائج الانفتاح العربي عليه لترويج فرضية المؤامرة الكونيّة مجدداً، وانتصاره عليها، واعتبار المعارضين له مجرّد إرهابيين أو مندسّين. لكنه الآن ينتظر مزيداً من الانفتاح على عاصمته المصابة بداء العزلة منذ سنوات، بعدما أعادت الإمارات فتح سفارتها في دمشق أواخر شهر كانون الأول/ ديسمبر الماضي، ومثلها فعلت البحرين، وقبل ذلك زار الرئيس السوداني سوريا زيارةَ دولة، ومن المنتظر أن يحذوا الرئيس الموريتاني حذوه في القريب، كما أوعز الرئيس ترامب في إحدى تغريداته على "تويتر" ببدء بازار المصالحة السعودية - السورية حين قال بأن السعودية وافقت على إنفاق الأموال اللازمة للمساعدة في إعادة إعمار سوريا بدلاً من الولايات المتحدة. وقد سارعت السعوديّة بترجمة ذلك حين طلبت إزالة أعلام الثورة السورية التي يرفعها المعارضون السوريون داخل أراضيها، واستبدالها بأعلام الدولة السورية تحت طائلة المسؤوليّة والملاحقة.
لم يعد السوريون اليوم مجرد اختصار متماثل الدلالة لمجتمعِ السكون والخيبة. فمنهم من ينتقد فساد النظام القائم لكنهم لا يجدون في المعارضة البائسة بديلاً له. وبعضهم الآخر يرفضه بكلّيته ويريد تغيره بصرف النظر عن البدائل المتاحة. وآخرون يتعاملون معه كإرثٍ سياسي مقدّس لا ينبغي استبداله أو التطاول عليه وانتقاده.
التعميم أنتج مأزقاً سياسياً - اجتماعياً، حيث بات السوري الذي ينتقد النظام معارِضاً، والمعارض مرتبط بالضرورة بأجنداتٍ خارجية هدفها هدم الدولة. كما أن السوري الذي لا يدين النظام هو موالٍ له، والموالي شريك بعمليات القتل والاعتقال وتدمير المدن وتهجير الناس.. وهذه ورطةٌ معرفيّة تزيد مساحة الانقسام الاجتماعي، وتعزّز مكوّناته أيضاً.
حتى أنّ السيارة التي ظهرت في ساحة المرجة بدمشق وتحمل لوحة دولة الكويت، وعليها صورة للرئيس السوري وأمير الكويت صارت مادةً دعائيّةً دسمة تخاطفتها وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي تحت عناوين عديدة فيها مقاربات لعودة العرب إلى سوريا. وهذا يزيد المخاوف من إعادة استنساخ العنجهيّة في خطاب السلطة خلال تعاملها مع احتجاجات عام 2011، وهي التي فتحت الباب أمام تدخّل الدول في تمويل خراب سوريا، قبل أن تعود اليوم لتمويل إعمارها.
الكرة بدلاً من الوطن
تعتقد السلطة بأن كرة القدم قد تجمع كلّ السوريين حولها، وقد أنفقت على إثبات هذه الفرضيّة جهداً واضحاً وهي تروّج لمشاركة المنتخب السوري في نهائيّات كأس آسيا الحالية. وهي ترى المنتخب ممثّلاً عن كل السوريين، بدليل أنه يضم في تشكيلته الأساسيّة اللاعب عمر السومة الذي كان معارضاً فيما مضى. كما موّلت السلطة تأسيس رابطة لتشجيع المنتخب في دولة الإمارات زوّدتها بالملابس الموحّدة والأعلام الكثيرة والهتافات الجديدة. حتى أنها استرضت اللاعب فراس الخطيب الذي غاب عن صفوف المنتخب الحالي بسبب إصابته وتقدّمه في العمر (مواليد عام 1983)، وجعلت قناة "لنا" الفضائيّة تستضيفه في برنامج "قصة حلم" (تقدّمه رابعة الزيّات) بوصفه اللاعب الثاني المحسوب سابقاً على المعارضة السوريّة، والذي من المتوقع أن يكون المدرّب القادم للمنتخب السوري.
غير أنّ قناة "سوريا" المعارضة استقبلت فرضيّة المنتخب الجامع لكل السوريين بكثير من الاستخفاف، وردّت على هاشتاغ "#كأس_آسيا_لنا" الذي رفعته قناة "لنا" الموالية، بآخر حمل اسم "#منتخب__البراميل" كنايةً عن الذاكرة الملتصقة بالبراميل المتفجّرة التي كان يستخدمها النظام في تدمير البلدات والمدن الخارجة عن سيطرته. وأظهرت الكثير من التعليقات أن المنتخب السوري ليس سوى منتخب النظام، ولا يحظى بأي تعاطفٍ أو تشجيع من قبل جمهور المعارضة السوريّة.
سوريا صارت شعبين على أرضٍ عديدة
20-04-2017
على ماذا سيجتمع السوريون إذاً؟ كرة القدم ليست قاسماً مشتركاً فيما بينهم، ولا الدولةُ الأمنيّة، ولا منظومةُ الفساد القائمة. كذلك ليس التطبيع مع اسرائيل وأميركا قاسماً مشتركاً، ولا وجودَ لشخصيّة سياسيّة قد يجتمع حولها السوريون. بقيت فكرة وطنٍ يقع في منتصف المسافة بين الفريقين، ينبغي التنازل والسير باتجاهه. وهذا يستنهض إلغاء فرضيات إزالة الآخر/ المختلف من الوجود السياسي، فالنظام السوري بقي بقرارٍ دولي، والمعارضة بقيت معطوبةً بقرارٍ دوليٍّ أيضاً، لا تستطيعُ أن تحاجج من يطعمها، ويأويها.