على الرغم من زيادة الجهود المبذولة في مكافحة ظاهرة العنف ضد المرأة، فإن اقتلاع جذورها نهائياً ما يزال يحتاج إلى المزيد من الجهود، سواء في البلدان العربية أو في العالم. هناك صورٌ كثيرة للعنف ضد المرأة، ولكل منها آثاره المدمرة. والمثير للقلق أنه، مع أن العنف ضد المرأة يحصل بمعدلات أعلى داخل المنزل، إلا أنه يُرتِّب أعباءً اقتصادية على عاتق النساء والأسر والمجتمع ككل، مما يجعله شاغلاً عاماً. وتشمل كلفة العنف ضد المرأة الكلفة المحتسبة على أساس الفرص البديلة، مثل الخسارة الناتجة عن انقطاع المرأة المعنَّفة عن العمل، وكلفة الخدمات الصحية والقانونية والاستشارية المقدمة لها، وأعباء الإيواء في مراكز الرعاية، والعوائد الضائعة بسبب الوفاة وفقدان الإنتاجية، وفقدان الوظائف، وخسارة الإيرادات الضريبية. وتشير الحسابات العالمية إلى أن كلفة العنف ضد المرأة تبلغ نحو 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وتعادل 1.5 تريليون دولار، ما يقترب من حجم اقتصاد كندا.
في المنطقة العربية، نفذ عددٌ محدود من البلدان آليات احتساب كلفة العنف ضد المرأة. كانت البداية في مصر بمبادرة من المجتمع المدني في العام 2012 ، أعقب ذلك قيام "المجلس القومي للمرأة" بذلك في عام 2015. قُدِّرت تكلفة العنف ضد النساء في مصر بنحو 2.17 مليار جنيه مصري. عقب ذلك، بدأت فلسطين ولبنان والسعودية والعراق في تنفيذ آلية الاحتساب على المستويات الوطنية بمساعدة "اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا" (الإسكوا).
وتعزيزاً لهذا التحول المهم المتمثل في الاعتراف بأن العنف ضد المرأة مشكلة عامة تضر بالاقتصاد القومي ضرراً جسيماً، اقتُرح اتخاذ المزيد من الخطوات على رأسها بناء سياساتٍ مستدامة لاحتساب كلفة العنف ضد المرأة في كل بلد. وهي تتمثل في مجموعة من الممارسات النموذجية التي تعكس حزمة من المبادئ الحاكمة والقيم، التي يجب أن تُصا بناءً على دراسات متكاملة اعتَمَدَت على معلومات كافية وبيانات صحيحة.
ومن أهم تلك المبادئ الاعتراف بأن الغاية من احتساب كلفة العنف ضد المرأة هو توضيح أن العنف لا يُلحق الضرر بالمرأة المُعنفة فحسب، بل بالمجتمع كله والأجيال اللاحقة، لما يُسببه من خسارةٍ تنموية، وهو ما يمثل جريمة عامة لا تقل في جسامتها عن الإضرار بالمال العام. والغريب أنه في عدد من البلدان، هناك من لا يزال يتصور أن العنف ضد المرأة قضية تقع ضمن الحيز الخاص وأنها ليست قضية عمومية. وعليه، فإن استخلاص بيانات تُبيِّن الكلفة التي تتحملها الموازنة العامة، والمجتمع المدني، والمرأة التي تعرضت للعنف وأسرتها، سيظهر يقيناً كيف أن العنف ضد المرأة شاغلٌ عام يهم الدولة والمجتمع وليس أمراً خاصاً أو يُدار في الحيز الخاص. ويترتب على ذلك أنه سيكون لزاماً على الدولة أن تسارع لصياغة خطط وقائية لتقليص كلفة هذا العنف إلى أقصى مدى ممكن وصولاً إلى إزالته.
الغاية من احتساب الكلفة الاقتصادية للعنف ضد النساء هي التوضيح اأنه لا يُلحق الضرر بالمرأة المُعنفة فحسب، بل بالمجتمع كله والأجيال اللاحقة، لما يُسببه من خسارة تنموية، وهو ما يمثل جريمة عامة لا تقل في جسامتها عن الإضرار بالمال العام.
المبدأ الثاني هو أنَّ ما يخضع للتقييم المادي والمالي في عملية الاحتساب هو "آثار" العنف ضد المرأة، وليس معاناة النساء نتيجة العنف. إن معاناة المرأة المعنفة أمرٌ لا يمحوه من وجدانها أو وجدان أبنائها مُضي السنوات. وعليه، فعند تنفيذ آلية الاحتساب، لابد أن يكون واضحاً أن الأعباء المالية والخسائر المتحققة لا تمثل بحال من الأحوال تقييماً لمعاناة النساء جراء العنف. كما لا يجب أن يتبادر إلى الذهن أن الجبر المادي لبعض الضرر الواقع على المرأة نتيجة العنف يزيل أثر العنف من وجدان المرأة، أو يبرئ ذمة من يمارس العنف ضدها.
المبدأ الثالث هو أن العنف ضد النساء ظاهرة اجتماعية ذات تداعيات اقتصادية، وعليه فإن احتساب كلفة العنف ضد المرأة هو موضوع ذو طبيعة اجتماعية واقتصادية، وهو ما يترتب عليه وجوب استمرار حضور البعد الإنساني والاجتماعي باعتباره قاعدة البعد الاقتصادي. كما يترتب على ذلك أن الجانب الاقتصادي ببعده الكلي والإحصائي والرقمي لا يطغى على الجانب الاجتماعي. إن لموضوع العنف ضد النساء أبعاد عديدة، منها الاجتماعي، والنفسي، والصحي، والاقتصادي، والقانوني. وكل بعدٍ من هذه الأبعاد له مستوى كلي أو عام ومستوى خاص أو فردي. وضمن البعد القانوني مثلاً، هناك ما هو متصل بالجانب الإجرامي والعقاب، وما هو متصل بالإجراءات الجنائية. وهكذا، فإن احتساب كلفة العنف ضد المرأة هو موضوعٌ مركب تَجمع بين أبعاده علاقةٌ تكاملية. والتركيز على معادلات احتساب القيمة أو الأرقام المالية نفسها لا ينبغي أن يؤدي إلى اختزال طبيعة الحقل نفسه، وإلى تراجع الأبعاد الأخرى، لأن ذلك سيُرتب أضراراً جسيمة على صعد عدة. فهو قد يؤدي إلى اختزال المعاناة الاجتماعية التي تتعرض لها النساء، أو الإيحاء بأن المال هو وسيلة محو أثر العنف.
والخلاصة أن بناء سياساتٍ مستدامة ترتكز على مبادئ رصينة وواقعية فيما يتصل باحتساب كلفة العنف ضد النساء محورٌ أساسي للقضاء على هذه الظاهرة. لكن بناء هذه السياسات يجب أن يكون جزءاً لا يتجزأ من حزمةٍ من الجهود الوطنية المتكاملة، مثل تنفيذ التعديلات الدستورية والقانونية اللازمة في هذا الصدد، وصياغة استراتيجيات وطنية وبرامج توعية. الأكيد هو أننا إذا كثفنا جهودنا في بناء سياسات متكاملة مستدامة فيما يتصل بالقضاء على العنف ضد المرأة على نحو يتضمن حساب تكلفتها الاقتصادية، فإن ذلك يمكن أن يُسهم في تقليص منسوب هذا العنف تقليصاً حقيقياً، وإن متدرجاً على المديين المتوسط والطويل.