النجف بوابة الدخول إلى مدن الفرات الأوسط في العراق ومطارها المصمم على شكل ساحة كبيرة ومفتوحة، انما مسقوفة ومحاطة بجدران، لا شيء فيها يشير الى المرونة المعمارية، لا انثناءات، لا انحناءات؛ ولا حتى زوايا حادة تصدمك بصرياً، انه فقط مكان لأداء وظائف روتينية ولا يرتقي الى مستوى المعمار النجفي. حين تدخل الى هذا المكان تشعر بالتيه للحظة، وتعود لترى بأن الجميع يبحث عن الجميع، وتدرك بأن عليك البحث عن رجل المخابرات للحصول على استمارة الدخول، وتكتشف بعد تعبئتها ان خاتم الجوازات لا ينظر اليها ألبتة، مُكتفياً بأسئلة لا تختلف كثيراً عن تلك التي يسألها القائمون على نقاط التفتيش البرّية بين المدن العراقية.
حين خرجنا من المطار استقبلتنا برك المياه على أطراف الشوارع، الوحل في كل مكان، لا شيء يشير الى ان النجف الأشرف مدينة للسياحة الدينية. كان الوقت ليلاً، واكتفيت بالنظر الى انعكاس أضواء أعمدة الكهرباء على المياه الجارية في طرفي شارع، كان يقاوم الغرق في الوحل. نترك النجف الأشرف، ونتوجه الى الديوانية التي أحتفظ بصورة عنها أرسلها لي صديق قبل سنوات. صورة تبدو صالحة لكل الأزمان. السماء تمطر، والساعة تقترب من منتصف الليل، المدينة غارقة في مياه شوارعها، ندخلها ونكتشف الملاح الأولى من عالم موحل أمام بوابة مدرسة ابتدائية، هي مدرسة الفرات الابتدائية للبنات.
في العراق، باستثناء إقليم كُردستان، يتم فصل البنات والصبيان في المدارس الحكومية منذ الصفوف الابتدائية الأولى، مدارس الريف استثناء ايضاً. تقع البوابة في وسط سوق شعبي، لا تهدأ فيها أصوات الباعة والزبائن إلّا في مثل هذه الأوقات المتأخرة من الليل. السوق خالية سوى من باعة محدودين، تُبين أوضاعهم بأنهم يعدون العدة ليوم ممطر ثان، فيما تشير بوابة المدرسة الى نهار آخر من ضجيج السوق. البوابة غارقة في تلوث بصري غريب من نوعه، حيث تحيطها مصطبات الباعة من كل الجوانب. يقول لي صديقي وزميلي تحسين الزركاني، "هذا التلوث البصري لا يعني شيئاً أمام التلوث السمعي". أفهم من كلام صديقي بان التلاميذ في هذه المدرسة يشبعون من صراخ الباعة قبل ان يشبعوا من أصوات المعلمين والمعلمات.
أتيت لمدينة الديوانية، بهدف الكتابة عن تأثير الجفاف على حياة الناس، وواقع التنوع الإحيائي في الأهوار العراقية، انما الأمطار الغزيرة التي هطلت على مدن الفرات الأوسط في تلك الأيام (الأسبوع الأول من شهر تشرين الثاني 2018) غيرت جميع الأفكار المعدة والمسبقة. أصبح الوصول إلى هور الدلمج أمراً صعباً، الطريق ليس معبداً بعد؛ طرق المواصلات في جنوبي العراق، لا تشير إلى ان البلد يحتل موقع رابع أكبر احتياطي للنفط في العالم. تالياً، أصبح ارتجال أفكار جديدة وقصص صحفية جديدة ضرورة اللحظة. في هذه الحال، لا يختلف الصحفي عن الممثل على خشبة المسرح إذ يلجأ للارتجال حين ينسى الحوار أو يسقط أحد الممثلين على الخشبة. لقد اقتضت الأمطار والسيول والسقوط في وحل الفرات الأوسط الارتجال: نذهب إلى السماوة للكتابة عن بحيرة ساوة، ونكتب عن كارثة نفوق الأسماك.. تم الاتفاق مع زميلي وانطلقنا في صباح اليوم التالي، نحو عوالم موحلة، بدءاً من بوابة مجلس المحافظة مروراً بمدينة السماوة ووصولاً الى بحيرة ساوة.
حدثت صديقي قبل الانطلاق الي السماوة عن الصورة التي وصلتني قبل سنوات من الآن، تختلط فيها المياه الخارجة من شبكات الصرف الصحي بمياه فرع من فروع نهر الفرات في وسط المدينة، "لم تتغير الأحوال" أجابني. أي ان مياه الصرف الصحي تلوث النهر يومياً منذ سنوات. أما المناطق السكنية التي لا توجد فيها شبكات الصرف الصحي، فتبقى المياه السوداء الثقيلة أمام البيوت والأبنية، في الأزقة والشوارع، وتُشكّل طينا أسود لزجا تفوح منه روائح كريهة وتجذب جميع أنواع الذباب. لا تختلف الأحوال في السماوة، عما تراه في الديوانية والنجف، فهي أيضاً غارقة في الوحل. انها مدن تعيش فوق ما تم تأسيسه من بنى تحتية في سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم، بنى تحتية لم يبق منها سوى التهالك.
بحيرة ساوة، جوهرة صحراء محافظة المثنى التي تنبع مياهها من جوف الأرض، "لا تتنفس الصعداء"، ذلك ان الاحترار ظفر بها أكثر من غيرها وقلت مياهها ما يقارب المترين كما يقول أهالي المنطقة. هي بحيرة مغلقة مالحة تقع 23 كلم غرب مدينة السماوة، تعلو ما يقارب أربعة أمتار عن الأراضي المجاورة، وتعلو نهر الفرات بما يقرب من سبعة أمتار. تحل منحوتات فنية طبيعية تُشكلها الترسبات الملحية على طول شاطئها، محل الخضار، ذاك ان ارضها مالحة، ولا تنمو النباتات فيها وحولها. تعيش في البحيرة أسماك صغيرة والطحالب، إضافة إلى نوع من الحلزون في قعرها، كما انها تستقطب نحو 25 نوعا من الطيور مثل البط، غر أوراسي، غطاس صغير، الهدهد العراقي، خناق رمادي، والدرّاج العراقي، ناهيك عن حيوانات برّية مثل الثعالب، الضباع وغرير العسل. ما يمكن تسجيله وملاحظته هو اهمال كامل لهذه البحيرة الجميلة، لا مرفق سياحي، لا حماية للطيور والحيوانات ولا حتى مركز للاستعلام.
يتحدث الصديق السماوي محمد الحجابي عن مشاريع استثمارية وسياحية كثيرة تقدمت بها شركات عربية حول بحيرة ساوة، انما شروط الاستثمار في العراق تخضع لأصحاب النفوذ السياسي قبل مؤسسات الدولة. صادف وجودي وزملائي، وجود شابين من المنطقة، اصطادا ثلاثة من طيور الدرّاج العراقي في وقت واحد. دار بيننا حوار حول أهمية بقاء هذه الطيور في المنطقة، بدا الأمر غريباً بالنسبة لهما؛ كيف يمكن رؤية طير أو حيوان دون اصطياده؟ قال واحد منهما، بدا لي انه ينهي النقاش حول حديث لا يستسيغه ألبتة: نحن لا نصطاد سوي أعداد قليلة. قلة الوعي بالتنوع الحيوي وأهمية وجود الطيور والحيوانات، ليست الّا غياباً للدولة والقانون.
ولا يتجسد غياب الدولة في جنوب العراق بعدم حماية الحياة البرّية فقط، بل في بؤس الحياة اليومية للناس، البنى التحتية، الأسواق، إدارة المياه؛ وفي صورة لا تجدها سوى بالعراق: في مفرق من مفارق مدينة الديوانية القريبة من المركز، تطوف المياه من أنابيب شبكة الصرف الصحي المتهالكة، والتي لم تتم صيانتها منذ الثمانينيات. للتخلص من المياه الطافية، تقوم إدارة بلدية المدينة بوضع مضخة كبيرة لتفريغ مياه المجاري، ونقلها الى النهر من خلال خراطيم طويلة. انه الحل السحري للتخلص من مياه الصرف الصحي، ومنع حصول سيول داخل المدنية. على بعد أمتار من هذه الصورة، سوق الديوانية معبدة بوحل أسود لزج أيضاً، ذاك ان مياه المجاري السوداء تطوف وتجري بين الباعة والمحلات، وقد تحتاج لمضخة أخرى لسحبها وتفريغها في نهر الفرات. الذباب يغزو السوق أيضاً.
في ناحية سومر جنوب شرقي مركز الديوانية، أمام دائرة الزراعة، يبتلع الوحل اللزج أقدام الزائرين.. مشهد يمزج بين حداثة العمارة والتلفونات الذكية وبين صورة لا يعلو فيها أي شيء سلطة الوحل.. في هذا المكان، حيث يقع خارج الزمن بالمعني التاريخي، لا يشير مشهد القرويين البسطاء القادمين إلى الدائرة، إلى ان العراق يعيش في القرن الواحد والعشرين، انه مشهد نراه في الأفلام التاريخية الأمريكية، حيث يمتزج روث الخيل بالوحل والمياه الراكدة في الشوارع الطينية. كانت كارثة نفوق الأسماك تشغل الجميع، انما بدا تأثيرها على سوق "السمّاكة" أكثر وضوحاً؛ رزق بائع سمك وعائلته، تحدده أقفاص معبأة بأطماع السياسيين قبل أسماك صالحة للأكل. الى جانب هذا البؤس اليومي، هناك يافطات وصور وشعارات وطنية وسياسية على لوحات طويلة وعريضة في الشوارع، يظهر فيها العراق قوي وحديث ومعافي، انها مفارقة لا يحتمل ثقلها سوى العراقيون.
حين عدت الى النجف بعد أيام من الأمطار الغزيرة، كانت الطرقات بينها وبين الديوانية تكتظ النجف بالزوار والمواكب. أطفال ونساء ورجال لا تربك المسافات البعيدة خطاهم، واثقون في السير، لا ملامح الاستعجال على وجوههم، وكأن الوصول الى المكان المقصود شيء يكتمل به الإيمان في أي وقت خلال الأربعينية. بدت مئذنة مسجد الإمام علي شيئاً مختلفاً عن مئذنة أخرى عملاقة تجانبها وتفوقها في الضخامة، للمئذنة القديمة جمالية معمارية خاصة بها، ولا تشبه تلك الأشكال التي أراد الاسماعيليون الهنود فرضها على المسجد نهاية القرن الماضي، وبداية القرن الحالي. لقد أراد الاسماعيليون حسب الصحفي النجفي حيدر الجنابي فرض رؤية عباسية ومحو ما يمكن تسميته بالمعمار النجفي المتجسد في مسجد الإمام علي ومسجد عقبة بن نافع ومراكز دينية وروحية أخرى. لقد بقيت من المسجد المئذنة والسور الخارجي، أما في الداخل، فتم تغيير الكثير من معالمه المعمارية.
هناك نجفان، نجف داخل المسجد، تفوح منها الروائح الزكية، تتحدث معالمها وجمالها، يشعر المرء بأنه عاد ودخل قلب التاريخ. ونجف خارج المسجد، تفتقد للأوكسجين رغم انها محاطة بالخضار والمياه. النفايات تملأ أطراف شوارعها، ولا نقول أرصفتها. وفي هذه الثانية، لا يستثنيني وجودي بين أصدقاء وزملاء نجفيين وجنوبيين من أخطاء يمكن وصفها بأخطاء الاختلاف الثقافي. نحن في أربعينية الحسين، المدينة تقدم ما يحتاجه الزائر من الغذاء والشرب والراحة، وهذا تقرّب الى الله وتبرك، ولا وجود تالياً، لكلمة الشكر حين تتناول القهوة، الشاي، الحلويات أو الغذاء في الخيم الكبيرة المنصوبة داخل وخارج المدينة.
بعد الخروج من مسجد الإمام علي، توقفت مع زملائي عند خيمة لتناول الشاي مع بعض الكعك. كان الرجل يسكب الشاي للجميع ولا تغادره الابتسامة، حال انتهائي من تناول القدح الثاني، شكرت الرجل وتابعت سيري مع أصدقائي. قال لي تحسين، "على الرغم من أن كلمة الشكر لا تحل محل كلمة المأجورين، إنما لم تربكنا كثيراً"، لقد كان خائفاً من أن أبادر الى دفع حق أقداح الشاي التي تناولناها، "ماذا كنا نعمل في هذه الحال؟" يضيف تحسين، الذي أحرجته في موقف آخر في الديوانية، بسبب الاختلاف الثقافي أيضاً. فقد قدم لنا صاحب المطعم بعد تناول الغداء في مركز المدينة القهوة العربية "الحلوة" بنفسه، وحين جاء دوري ومددت يدي، تجاهلني الرجل دون ان يتفوه بكلمة؛ لأن القهوة في التقاليد العربية لا تُؤخذ باليسرى.
النص الأصلي على موقع "العالم الجديد"