الفرنسية في تونس: غنيمة حرب أم تركة ثقيلة؟

لم يتوقف الجدل منذ استقلال البلاد: هل الفرنسية "غنيمة حرب" كما كان يعتبرها المثقف الجزائري كاتب ياسين، أم هي تكريس لتبعية تونس لفرنسا وعامل يؤخر نهوضها وتقدمها؟
2019-01-16

شارك
غرافيتي لـ"السيد" على حائط في حي شعبي في تونس

اختتمت أعمال قمة "المنظمة الدولية للفرنكوفونية" - التي عقدت يومي 11 و12 تشرين الأول/ أكتوبر في العاصمة الأرمينية يريفان - باختيار تونس لاحتضان القمة القادمة التي ستنعقد سنة 2020 بالتزامن مع الذكرى الخمسين لتأسيس المنظمة. الرئيس التونسي لم يتخلف عن حضور القمة، على الرغم من ان تحركاته داخل وخارج البلاد أصبحت شحيحة جدا في السنتين الأخيرتين. أثنى "ملك" القمة، أي الرئيس الفرنسي، على نظيره التونسي، وقال "انه يأتي من بلد كان مثلاً يُحتذى به في الفضاء الفرنكوفوني (...) بلد جعلنا ويجعلنا فخورين". هذا الثناء والفخر أثار حفيظة الكثير من التونسيين الذين اعتبروه بمثابة شهادة تقدير للخدمات الجليلة التي يقدمها "تلميذ نجيب" لسيده، وليس مجرد تعبير عن الاعجاب. قمة الفرنكوفونية هذه تذكّر بجدل قديم متجدد في تونس: مسألة المكانة المميزة للغة الفرنسية في البلاد. صحيح ان حضور لغة المستعمر القديم في تونس اقل مما هو عليه في دول مغاربية وافريقية أخرى، وان الصراع بين أنصار التعريب الشامل والفرنكوفونيين اقل حدة، لكن الجدل لم يتوقف منذ استقلال البلاد: هل ان الفرنسية "غنيمة حرب" كما كان يعتبرها المثقف الجزائري كاتب ياسين ام هي تكريس لتبعية تونس لفرنسا وعامل يؤخر نهوضها وتقدمها؟

قرابة القرنين من الحضور..

من الأفكار الشائعة حول استعمال اللغة الفرنسية في تونس انه بدأ مع الاحتلال الفرنسي. والحال انه سابق له بقرابة نصف القرن. خلال الثلث الأول من القرن التاسع عشر كانت المدن التونسية الكبرى، كالعاصمة وصفاقس وسوسة.. تعج بالأوروبيين الذين كانت اعدادهم تقدر بالآلاف، وأغلبهم من الايطاليين والمالطيين وبدرجة أقل من الفرنسيين. وبالإضافة إلى العربية والعبرية، أي لغات أهل البلد، كانت هناك عدة ألسن حاضرة في تونس، كالتركية والإيطالية والفرنسية.

تأسست أول مدرسة فرنسية في تونس العاصمة سنة 1840 قبل ان تبعث عشر مدارس أخرى قبل بداية الاستعمار الفرنسي. هذه المدارس، التي كانت تديرها مؤسسات دينية كاثوليكية، لم تكن تتبع الدولة الفرنسية رسمياً لكنها كانت تحظى بدعمها، الذي كانت له منطلقات قومية / لغوية تتعلق بالتصدي للحضور القوي للإيطاليين ولغتهم في تونس، وأسباب سياسية / اقتصادية تتعلق بالرغبات التوسعية الفرنسية بعد احتلال الجزائر سنة 1830.

في الفترة نفسها تقريباً، أي أواسط القرن التاسع عشر، ظهر ما سمي ب"الحركة الإصلاحية التونسية" التي ضمت مثقفين (أبرزهم خير الدين باشا) اعتبروا ان أساس تخلف المسلمين هو عدم إطلاعهم على العلوم الحديثة، وجمود منظومتهم التعليمية التقليدية التلقينية. لذا اقترحوا انشاء مدارس عصرية تدرس اللغات الأجنبية والعلوم الصحيحة. وتطبيقاً لهذه الأفكار تأسس "مكتب المهندسين" أو المدرسة الحربية بمنطقة "باردو" سنة 1840، ثم المدرسة الصادقية سنة 1875. في كلتا المؤسستين كان هناك حضور كبير للغة الفرنسية والمدرسين الفرنسيين. ويمكن اعتبار أن ظهور الفرنسية في تونس كان نتاجاً لإرادتين متضادتين: إرادة توسع وإخضاع من قبل الفرنسيين وإرادة إنفتاح ونهوض من قبل التونسيين.

خلال الثلث الأول من القرن التاسع عشر كانت المدن التونسية الكبرى تعج بآلاف الأوروبيين، وأغلبهم من الايطاليين والمالطيين، وبدرجة أقل من الفرنسيين. وبالإضافة إلى العربية والعبرية، أي لغات أهل البلد، كانت هناك عدة ألسن حاضرة في تونس، كالتركية والإيطالية والفرنسية.

مع احتلال فرنسا لتونس سنة 1881، تغيرت الأمور وأصبحت الفرنسية هي اللغة الأعظم شأنا في البلاد، فهي لسان الحاكم الحقيقي (لم يترك نظام "الحماية" صلاحيات كبيرة للبايات، حكام تونس). أرست فرنسا ما سمي بالتعليم الفرانكو - أراب (موجه للتونسيين) حيث تدرس اللغة الفرنسية ومعها العلوم واغلب المواد بالفرنسية مع تخصيص حيز صغير للغة العربية: قواعدها وآدابها والتاريخ العربي - الإسلامي والخط ودراسة المخطوطات القديمة. نظّرت الدولة الفرنسية للمدرسة كوسيلة لاستمالة التونسيين و"فرنستهم" تدريجياً، وكضرورة لتكوين عمال يشتغلون في مصانع ومزارع المستوطنين الفرنسيين وموظفين صغار يلعبون دور همزة الوصل بين الإدارة الاستعمارية والمحليين، لكن دون ان تسمح لهم بالوصول إلى الوظائف السامية.

إثر نيل تونس استقلالها "الكامل" سنة 1956، تغير وضع اللغة الفرنسية في البلاد ولكن ليس بشكل سلبي بالنسبة للفرنسيين. فقد حافظت الفرنسية على مكانة مميزة في البرامج التعليمية التونسية. فضلا عن ذلك، بنت فرنسا شبكة من المؤسسات التربوية التي تتبعها مباشرة، والتي يبلغ عددها اليوم اكثر من 10 مدارس ومعاهد بالإضافة إلى 12 مركز لتدريس اللغة الفرنسية موزعة على اغلب المدن التونسية الكبرى.

الفرنسية في تونس المستقلة..

أقر دستور 1959 في فصله الأول العربية لغة رسمية ووحيدة للجمهورية التونسية. هذا على المستوى النظري. لكن في الواقع هناك ازدواجية لغوية في تونس كرسها بناة دولة الاستقلال وما زالت مستمرة إلى اليوم، ولو بشكل أخف. فمنذ أواخر سنوات 1950 إلى أواسط سنوات 1970، لم يكن وضع اللغة العربية في التعليم يختلف كثيراً عما كانت عليه الأمور زمن الاستعمار. حركة التعريب بدأت في أواسط السبعينيات من القرن الماضي عبر تدريس بعض العلوم الإنسانية بالعربية، لكنها تعثرت كثيراً ولم تستأنف إلا في سنوات 1990 مع تعريب العلوم الصحيحة في المرحلة الإعدادية. وإذا ما استثنينا شعبة الآداب، فإن اللغة الفرنسية هي، وإلى اليوم، اللغة الأولى في التعليم الثانوي والجامعة.

ازدواجية اللغة في المؤسسات الرسمية العمومية لا تتوقف عند التعليم بل هي حاضرة في الجريدة الرسمية والمناشير والوثائق الإدارية والفواتير وحتى مواقع الانترنيت. في القطاع الخاص تكون الفرنسية هي اللغة الأولى في المعاملات الورقية: طلبيات، فواتير، شهادات خلاص الأجور، معاملات جمركية وتصاريح ضريبية وغيرها. الإعلانات ولافتات المحلات وأغلفة السلع هي أيضا مزدوجة اللغة مع أفضلية للفرنسية.

نظّرت الدولة الفرنسية للمدرسة كوسيلة لاستمالة التونسيين و"فرنستهم" تدريجياً، وكضرورة لتكوين عمال يشتغلون في مصانع ومزارع المستوطنين الفرنسيين وموظفين صغار يلعبون دور همزة الوصل بين الإدارة الاستعمارية والمحليين، لكن دون ان تسمح لهم بالوصول إلى الوظائف السامية.

أكثر وسائل الإعلام شعبية هي التي تتواصل بالعربية، سواء الفصحى أو العامية، وهذا يشمل الإذاعات والقنوات التلفزية والصحف الورقية والمواقع الالكترونية. الإعلام الفرنكوفوني لا يلقى اقبالاً شعبياً كبيراً لكنه مؤثر وله "سلطة أدبية" عند النخب أكثر من وسائل الإعلام الناطقة بالعربية. بالنسبة للأدب، فهناك نوع من التوازن بين المنشورات العربية والفرنسية. اما في الإنتاج الفني فإن العربية العامية هي الأكثر حضوراً في الغناء والدراما والمسرح والسينما وغيرها من الفنون. بالنسبة للإنتاج الأكاديمي والبحث العلمي فإن الغلبة واضحة للغة الفرنسية.

على المستوى الشعبي هناك فصل ما بين لغة التواصل اليومي بين الناس ولغات التعامل مع المؤسسات العمومية والخاصة. العربية هي العمود الفقري للعامية التونسية مع حضور قوي لمفردات محرفة مأخوذة من الأمازيغية والتركية والفرنسية والإيطالية. يجب النظر إلى "فرنكوفونية" التونسيين بنسبية، فحجم استعمال اللغة الفرنسية ليس هو نفسه عند الذين تحصلوا على شهادات جامعية والذين لم يتجاوز تعليمهم المرحلة الابتدائية أو الإعدادية. حضور اللغة الفرنسية في الأرياف والأحياء الشعبية محدود جداً مقارنة بالأحياء والضواحي الفخمة في المدن الكبرى. نسبة الفرنكوفونية تختلف أيضاً حسب المنطقة الجغرافية، فالفرنسية منتشرة أكثر في الواجهة البحرية للبلاد حيث تتركز النخب والمؤسسات التربوية والاقتصادية والأقطاب السياحية وحتى المدارس والمراكز الثقافية الفرنسية في المدن الكبرى.

وهكذا فالفرنكوفونية في تونس هي اختيار رسمي تتبناه النخب أساساً. فرنكوفونية محدودة ولكنها محددة بشكل كبير للتموقع الاجتماعي والتأثير في الثقافة والحياة العامة والنفاذ إلى سوق الشغل، الخ.

فرنكوفونية وفرنكوفيليا

وإذا كان من الممكن إيجاد بعض الحسنات والإيجابيات للفرنكوفونية في طابعها اللغوي - التقني البحت، فإن المشكلة تكمن في الفرنكوفونية السياسية - الأيديولوجية. فعلى الرغم من كل الكلام الجميل الذي نجده في تقديم المنظمة الدولية للفرنكوفونية لنفسها، وكونها بُعثت لتقرِّب بين الشعوب وتشجع التبادل الثقافي بينها وتسهم في بناء الديمقراطية وإرساء السلم ودعم التعليم والتكوين وتنشيط الاقتصاد في الفضاء الفرنكوفوني.. على الرغم من كل هذا فإن هذا، فالمنظمة كانت وما تزال أداة للهيمنة الثقافية والسياسية الفرنسية في أفريقيا خاصّة. المنظمة التي تأسست سنة 1970 تحولت عبر الزمن إلى ما يشبه الاخطبوط ذي الأذرع الكثيرة والقوية، الثقافية والأكاديمية والسياسية. فبالإضافة للتظاهرات والبرامج والمبادرات الثقافية التعليمية، هناك قمة لرؤساء البلدان الفرنكوفونية وأخرى لوزرائها وثالثة لبرلمانييها ورابعة لرؤساء بلديتها.

الفرنكوفونية في تونس هي اختيار رسمي تتبناه النخب أساساً. فرنكوفونية محدودة، ولكنها محدِّدة بشكل كبير للتموقع الاجتماعي والتأثير في الثقافة والحياة العامة وفي الوصول إلى سوق الشغل..

الفرنكوفونية بشكلها المؤسساتي تخدم أهداف فرنسا بأشكال عدّة، فهي تضمن لها "رزمة" من الحلفاء / التابعين (عشرات الدول) الذين يقوون مركزها واشعاعها في العالم، ويشكلون قوة ضغط لا بأس بها في أي مفاوضات تجريها فرنسا في المنظمات الدولية. كما ان الفرنكوفونية التي تقودها باريس وتمولها تضمن لها اجتذاب جزء كبير من "أدمغة" الدول الفرنكوفونية وتمكّنها من صنع نخب ثقافية وسياسية محلية طيعة تعزز هيمنتها على مستعمراتها السابقة. وهذا هو المشكل في تونس، فلا يكفي ان الفرنسية لها الأفضلية على اللغة الوطنية وانها لا تقبل المزاحمة من لغات اجنبية أخرى، بل هي أيضا أداة لفرض فرنكوفونية سياسية يمكن أن نسميها فرنكوفيليا أي التعلق بفرنسا بشكل يشبه "متلازمة ستوكهولم".

الفرنسية في قلب الصراعات السياسية الداخلية ..

الفرنسية في تونس ليست مجرد لغة بل هي في كثير من الأحيان أداة سياسية. بعد الاستقلال، استعملها بورقيبة ورفاقه "الحداثيين" لإقصاء "الزيتونيين" أي خريجي جامع/جامعة الزيتونة الذين تلقوا تعليما تقليديا دينيا باللغة العربية. كان بورقيبة يعتبر هؤلاء عقبة أمام مشروعه "التحديثي" المستلهَم من قيم غربية كما لم ينسَ أن العديد من مشايخ الزيتونة وقفوا في صف خصمه صالح بن يوسف، فألغى التعليم الزيتوني في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي متعللاً بتوحيد التعليم في تونس. اعتماد الدولة المستقلة على الفرنسية، بصفة أساسية في التعليم والإدارة ونسبياً في المجالين الثقافي والإعلامي، أقصى العديد من المثقفين الذين لا يتقنون الفرنسية أو المتشبثين باللغة العربية. بورقيبة الذي قال ذات مرة "باريس أقرب إلينا من القاهرة وبغداد" كان يتوجس أيضاً من انتشار الأفكار العروبية الوحدوية، وربما كان يعتبر تعريب التعليم أرضية خصبة للتيارات القومية التي كانت تبادله العداء.

منذ أواخر ستينيات القرن الفائت، بدأ يبرز منافس جديد على الساحة، وهو اليسار بمختلف اتجاهاته. أغلب القيادات اليسارية الشابة درست في الجامعات الفرنسية واطّلعت على حركة الفكر واليسار في العالم ثم عادت إلى تونس تحمل احلاماً كبيرة تريد تحقيقها. صحيح انهم لم تنجح كثيراً في الالتحام بالعمال والفلاحين، لكنها أسست عدة تنظيمات واستطاعت ان تفرض حضوراً قوياً في ميادين التعليم والثقافة والفن. حاولت السلطة التصدي لهؤلاء اليسارين "الملاحدة" و"الفرنكوفونيين" في أواسط السبعينيات، عبر اللعب على وتر الهوية العربية - الإسلامية. تبنت من جهة سياسة التعريب الجزئي في التعليم (تعريب العلوم الإنسانية في المرحلة الثانوية والإنقاص من عدد ساعات الدرس بالفرنسية في المرحلة الابتدائية) ودعمت من جهة ثانية "الاتجاه الإسلامي" حتى يضرب اليسار في الجامعات والنقابات.

الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي كان اكثر توازناً من بورقيبة فيما يتعلق باللغة العربية. ففي عهده تمّ تعريب العلوم الصحيحة في المرحلة الإعدادية وبعض المواد في التعليم العالي. كما انه كان يستعمل العربية الفصحى في أغلب خطاباته. هذا "التوازن" النسبي يمكن ان يفسر برغبة بن علي في إظهار نفسه بمظهر المتشبث بالثقافة العربية - الإسلامية وسحب البساط من تحت أقدام تيارات الهوية من عروبيين واسلاميين.

بعد الثورة في 2011، ستجد الفرنسية نفسها في قلب صراع جديد بين الإسلاميين من جهة والحداثيين العلمانيين من جهة أخرى. أنصار الحركات الإسلامية كانوا يشتمون العلمانيين بعبارات مثل "حثالات فرنكوفونية" و"أيتام فرنسا". كما كانت هناك فئة قليلة من العلمانيين "الفرنكوفونيين" دفعها كرهها الشديد للحركات الإسلامية الى احتقار كل ما هو عربي بشرًا وثقافة وتاريخاً ولغة. بل أن هناك مثقفين اعتبروا ان التعريب التدريجي للتعليم في تونس كان من بين أسباب انتشار التطرف الديني وارتفاع عدد الإرهابيين التونسيين.

نعم، لكن..

من الصعب تقييم دور اللغة الفرنسية في تونس بإجابات مطلقة أو بكلمات بسيطة مثل "خير" أو "شر". اتقان جزء هام من التونسيين للفرنسية مكّنهم من تطوير معارفهم والاطلاع على الإنتاج الفكري والعلمي الإنساني سواء المكتوب بالفرنسية أو المترجم اليها، كما سهّل لهم الدراسة والتدريس في جامعات مرموقة في فرنسا وبلجيكا وكندا وغيرها. هذا دون ان ننسى فرص العمل في فرنسا ودول فرنكوفونية أوروبية وأفريقية.

كان من المفهوم ان تتأنى الدولة قليلاً غداة الاستقلال وألاّ تطبق التعريب الشامل، فهي كانت تشكو من نقص كبير جداً في عدد المدرسين. فرض التعليم العمومي الإجباري والمجاني خلق حاجة متزايدة للمعلمين والأساتذة، مما جعل الدولة تستنجد بمتعاونين يأتون من فرنسا ودول فرنكوفونية أخرى. لو استمرت هذه المرحلة لعقد أو اثنين وتزامنت مع تحضير جدي لاستراتيجية تعريب وتكوين اطار تربوي مزدوج اللغة، لكان الأمر مقبولاً، لكن أن يستمر الوضع لأكثر من نصف قرن، فهذه مشكلة. الحضور القوي للفرنسية في البرامج التعليمية حرم العديد من التونسيين من مواصلة تعليمهم أو جعلهم يختارون مساراً لا يرغبون فيه. مجدداً، تتفاوت نسبة الفرنكوفونية في تونس مما يجعل منها عامل إضافي في إعادة انتاج الفرز الطبقي/ الجهوي القائم في البلاد.

الفرنسية في تونس ليست مجرد لغة بل هي في كثير من الأحيان أداة سياسية. بعد الاستقلال، استعملها بورقيبة ورفاقه "الحداثيين" لإقصاء "الزيتونيين"، أي خريجي جامع / جامعة الزيتونة الذين تلقوا تعليماً تقليدياً دينياً باللغة العربية.

حتى إذا ما وضعنا جانبا مسألة السيادة الوطنية، وتجاهلنا الآثار الاجتماعية - الثقافية لهيمنة لغة اجنبية على التعليم التونسي، فإن هناك أسباب عملية وبراغماتية تجعل مراجعة دور الفرنسية مسألة ملحة. لم يعد لهذه اللغة الإشعاع نفسه في العالم، فمكانة فرنسا وجامعاتها ومفكريها لم تعد كما كانت عليه قبل ثلاثة أو أربعة عقود. الفرنسيون أنفسهم يتوجهون أكثر فأكثر نحو الإنجليزية. الإصرار على ابقاء الفرنسية اللغة الأجنبية الأولى في تونس في حين ان عدد المتحدثين بالفرنسية في تراجع، يقلل فرص التونسيين في استكشاف فضاءات جغرافية ولغوية مختلفة، سواء للدراسة أو العمل. كما انه يؤثر في قدرتهم على التفاعل سريعاً مع مستجدات العلوم والتكنولوجيا ويحرمهم من الانخراط بفعالية في حركة البحث العلمي في العالم.

ختاماً

مسألة اللغات الأجنبية يجب ان تدرس بهدوء، بعيداً عن العنتريات أو احتقار الذات. تونس - ككل البلدان العربية – ما زالت بحاجة إلى لغة أجنبية ساندة للغة العربية لا مهيمنة عليها. بالنسبة للفرنسية، فهي ليست قدر، وقد حان الوقت لتقييم مدى فاعلية حضورها القوي في التعليم التونسي وتقرير مصيرها: هل نواصل الاعتماد عليها أم يجب ان نعطي القيمة نفسها للانجليزية أو..أو..أو . الخيارات عديدة لكن يجب الا تكون خاضعة لضغوط خارجية أو لحسابات سياسيوية شعبوية.

أكثر ما يؤلم في موضوع اللغات الأجنبية في تونس أن النقاش فيه بدأ منذ منتصف القرن التاسع عشر: لم يكن من المتوقع ان يستمر هذا النقاش إلى الربع الأول من القرن الواحد والعشرين وربما أبعد..

المراجع..

- نور الدين سريّب: "أيديولوجيا المدرسة في تونس المستعمرة (1881-1945)"، مقال نشر بالفرنسية في مجلة Revue des mondes musulmans et de la Méditerranée العدد 68-69، 1993، الصفحات 239-254.

- نور الدين سريّب: "مكانة ووظائف اللغة الفرنسية في تونس"، مقال نشر بالفرنسية في مجلة Documents pour l’histoire du français langue étrangère ou seconde، العدد 25، ديسمبر 2000.

مقالات من تونس

للكاتب نفسه