معضلة الضمان الاجتماعي الفلسطيني

عدم الثقة بمؤسسة الضمان الاجتماعي، وعدم القناعة بالحكومة باعتبارها ضامناً، وغياب اللوائح التفسيرية والأنظمة الأخرى التي كان يجب أن تتوفّر قبل البدء بتطبيق القانون، كلّها عوامل أدّت إلى توسيع الفجوة بين القانون ومعارضيه.
2018-11-10

مسيف جميل

باحث في الاقتصاد الفلسطيني


شارك
أمجد غنام - فلسطين

بعد حوار امتدّ لما يقارب ستّة أعوام بين حكومة السلطة الفلسطينيّة وممثّلي النقابات والقطاع الخاص، صدر نهاية شهر أيلول/ سبتمبر الأخير قانون الضمان الاجتماعي. وقد استحث القانون معارضةً تمثّلت في حراكٍ اجتماعيّ قويّ، وبرزت تساؤلات وانتقادات تتعلّق بآليّة تطبيق القانون وتفسير مواده، خاصةً في ظل عدم وجود لوائح وأنظمة تفسّر آليات تنفيذه.

خلفيّة تاريخيّة عامة

يعود تاريخ الضمان الاجتماعيّ إلى نهايات القرن التاسع عشر (1883-1889) حين أسس مستشار الدولة الألمانيّة، أوتو فون بسمارك، أوّل ضمان اجتماعي إجباري في التاريخ. وكان ذلك تماشياً مع المطالب المجتمعيّة للحدّ من مظالم النظام الرأسمالي، ولحماية ذوي الدخل المحدود من العوز. ثم راجت هذه الفكرة في كل من النمسا والمجر ودول أخرى. شهدت هذه الحقبة تغيّرات كبيرة، منها النمو الكبير في التعداد السكّاني والتغيّر في وسائل الانتاج، وزيادة المبادلات التجاريّة التي أدّت إلى تغيّير في السلوك البشري، إضافةً للثورات الصناعية والفكرية والاجتماعية، وبروز المفاهيم الحقوقيّة مثل الحق بالملكيّة وحرية مزاولة المهنة، والحق بالمساواة القانونية والاجتماعية. وجاء الضمان الاجتماعي ضمن مجمل الحقوق الاجتماعية التي تضمن سدّ الحاجة للمحتاجين بسبب العجز أو البطالة أو الإصابة.

77 في المئة من العاملين في مناطق السلطة الفلسطينية لا يتوفّر لديهم الضمان الاجتماعي، وهم أكثر من مليون مستخدم.

بحسب الدراسات، فإن الدول التي اتّبعت أنظمة ضمان اجتماعي شاملة لم تواجه مشاكل اقتصادية ملموسة في مجالات الفقر والبطالة. وقد ثبت في القرن العشرين أن تطبيق أنظمة الضمان الاجتماعي في العديد من الدول المتقدمة أدّى إلى خفض نسبة الفقر وعدم المساواة إلى أكثر من النصف. كذلك ساهم الضمان الاجتماعي بتخفيض نسبة الفقر في البلدان النامية بقدرٍ لا بأس فيه وإن كان متفاوتاً بين الدول.

قبل القانون: ما شكل الضمان في فلسطين؟

لفهم حقيقة الوضع في فلسطين لا بد من عرض بعض المعطيات حول واقع الضمان الاجتماعي كما هو حالياً وقبل سنّ القانون. تتعلّق هذه الوقائع بجانبين: جانب الضمان للفلسطينيين العاملين في الأراضي المحتلّة عام 1967، أي مناطق السلطة الفلسطينيّة، وجانب آخر يتعلّق بالفلسطينيين العاملين داخل الأراضي المحتلّة عام 1948 – أي الخاضعين لسلطة إسرائيل وقوانينها. أكثر من 50 بالمئة من المجتمع الفلسطيني داخل مناطق السلطة الفلسطينيّة لا يحظى بأي نوع من أنواع الضمان أو الحماية الاجتماعيّة - والحد الأقصى هو التأمين الصحي الذي يغطّي 55 في المئة من المجتمع فقط، وهو تأمين مجاني لـ27 في المئة من السكّان، بينما البقية تدفع لقاء هذا التأمين. 23 في المئة من العاملين فقط يحظون بالضمان بالاجتماعي من خلال نظام التقاعد الحكومي، بينما 38.8 في المئة من العاملين يتقاضون أقل من الحد الأدنى للأجور البالغ ما يقارب 390 دولاراً. كذلك، فإن 25 في المئة فقط من المنشآت في مناطق السلطة تلتزم بدفع مخصصات نهاية الخدمة. هذا كلّه يفضي إلى نتيجة أنّ 77 في المئة من العاملين في مناطق السلطة الفلسطينية لا يتوفر لديهم الضمان الاجتماعي – وهم أكثر من مليون مستخدم.

أما الجانب الآخر فيتعلّق بحقوق فلسطينيي الضفة الغربية العاملين في داخل أراضي 1948، وعددهم حوالي 150 ألف عامل، وهم يستفيدون من ثلاثة أنواعٍ من الامتيازات فقط: إجازة الأمومة، إصابات العمل، أو تعويض نهاية الخدمة. أما أشكال الضمان الأخرى فهي غير متاحة لهم، إذ أنها مشروطة بالحصول على إقامة إسرائيلية. وتُقدّر قيمة الحقوق العمالية لعمال الضفة والقطاع العاملين في إسرائيل بأكثر من 16 مليار دولار منذ العام 1967 وحتى اليوم.

بحسب الاتفاقيات الموقعة بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، وتحديداً الملحق الاقتصادي لاتفاقية أوسلو المعروف بإسم "بروتوكول باريس"، ستقوم إسرائيل بتحويل كافة مستحقات العمال إلى السلطة الفلسطينية فقط في حال انشاء مؤسسة ضمان اجتماعي فلسطينية مستقلة. وهذا هو سبب سن قانون الضمان الاجتماعي الفلسطيني بالإضافة إلى الأهداف الاجتماعية والاقتصادية الأخرى المعهودة.

القانون الجديد

يرى المدافعون عن القانون الجديد بأنّه يقدم حقوقاً لم تكن متوفّرة في السابق للجزء الأكبر من المجتمع الفلسطيني. ويُضاف إلى ذلك الايجابيات الاقتصادية والاجتماعية التي قد تتحقّق، من خلال استثمار الصندوق في مشاريع مدرّة للدخل وتعود بالفائدة على المشتركين، حيث يتوقّع أن يتم تحصيل أكثر من 350 مليون دولار سنوياً من هذه الاشتراكات. وهي، إذا ما أعيد استثمارها بطريقةٍ فعّالة، فسيكون لها آثار اقتصادية واجتماعية وتنموية كبيرة. ومع هذا، لم تكن بنود القانون مقنعةً للمجتمع المدني وللقطاع الخاص تحديداً ولم تبدد شعورهم بالاجحاف. كما ظهر انعدام الثقة بمؤسسة الضمان الاجتماعي لسببين: الأول عدم نشر الأنظمة الداخليّة على الملأ، أو عدم صدورها عن مجلس الوزراء، وعدم أخذ رأي المجتمع المدني قبل تقديمها للمصادقة. السبب الثاني يرتبط بالتخوّف من السلطة كضامن، خاصةً أنها تعاني باستمرار من عجزٍ مالي، وكذلك كون رئيس مجلس إدارة الضمان الاجتماعي هو وزير العمل في السلطة الفلسطينية، كما أنّ هذه الوزارة عاجزة عن تطبيق قانون العمل، كما هي عاجزة عن تطبيق قانون الحد الأدنى للأجور. دفعت هذه الأسباب إلى تكثيف الجهود المجتمعيّة ضد القانون. الاحتجاج على القانون لم يكن شاملاً ولم يكن معارضاً لمفهوم الضمان الاجتماعي، إذ هناك إجماع على ضرورة وجود الضمان الاجتماعي في الضفة وغزة.

بحسب الاتفاقيات الموقعة بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، وتحديداً الملحق الاقتصادي لاتفاقية أوسلو المعروف بإسم "بروتوكول باريس"، ستقوم إسرائيل بتحويل كافة مستحقات العمال إلى السلطة الفلسطينية فقط في حال انشاء مؤسسة ضمان اجتماعي فلسطينية مستقلة. وهذا هو سبب سن قانون الضمان الاجتماعي الفلسطيني، بالإضافة إلى الأهداف الاجتماعية والاقتصادية المعهودة الأخرى.

أهم النقاط الخلافية تتعلّق بأتعاب نهاية الخدمة. فالقانون لم يوضّح نسبة هذه الأتعاب إلا بعد قرار المحكمة الدستورية خلال الشهر الماضي بأن يتم دفع راتب شهر عن كل سنة. لم يرق هذا الوضع بالطبع لأرباب العمل، لأنّ قانون العمل ينص على أتعاب تعادل ثلث الراتب الشهري عن كل سنة في أول خمس سنوات في العمل، وثلثي الراتب الشهري عن كل سنة لغاية عشر سنوات. دفع هذه المبالغ يؤدّي إلى ضغط مالي على أرباب العمل، كما يتحتّم عليهم حسب قانون الضمان الاجتماعي الالتزام بالحد الأدنى للاجور، وهذا ما حذر من خطورته بعض الاقتصاديين، إذ أن دفع هذه المستحقّات سيؤدّي إلى إفلاس الكثير من الأعمال أو تعثّرها مالياً. خاصةً وأن أكثر من 90 في المئة من المنشآت في الضفة الغربية وقطاع غزة تعتبر منشآت صغيرة وفردية وعائلية، وجزء منها يدفع للعمال أقل من الحدّ الأدنى للأجور، ولا يحصل 75 في المئة من عاملي القطاع الخاص على أتعاب نهاية الخدمة. من هنا، ارتأى أصحاب هذه المنشآت بأن لهم الحق بالدفاع عن مصالحهم، ومعارضتهم للقانون.

استكمالاً لوجهة النظر هذه، فقد تبنّى التحرك المناهض للقانون كما مؤسسات المجتمع المدني شعار تغيير وتعديل القانون باتجاه العدالة والانصاف وعدم الانتقاص من المنافع الحالية والمستقبلية. اعتبروا أن النسبة المقتطعة من راتب العامل بحسب القانون (وهي 7 في المئة) مرتفعة، بينما نسبة مساهمة رب العمل (9 في المئة) منخفضة، وطالبوا بأن تكون النسبة المقتطعة من العمال 6.5 في المئة فقط، وذلك أسوةً بالقانون الأردني. كذلك اعتبروا أن احتساب معامل راتب التقاعد 2 في المئة عن كلّ سنة منخفض. يُضاف إلى ذلك أن القانون ينص على أن الحد الأدنى لراتب التقاعد هو 75 في المئة من الحد الأدنى للأجور، وهو ما اعتُبِر قليل جداً ولا يكفي لسداد فواتير الكهرباء والمياه والهاتف. ومن ضمن النقاط الخلافيّة ما يخص تأمين المرض والبطالة التي تمّ تأجيل البتّ بها ورهنها لقرارات مجلس الوزراء. وكذلك فإن من شروط الحصول على راتب التقاعد أن تُدفع مساهمات 180 شهراً (15 سنة)، وفي حال لم يستوف العامل هذه الدفعات، يتحوّل إلى نظام الدفعة الواحدة، ولا يحصل عليها إلى بعد تجاوزه سن الستين. ويُضاف الى ذلك أن القانون، بحسب رأي المعارضين، ينتقص من حقوق الورثة.

عدم الثقة بمؤسسة الضمان الاجتماعي، وعدم القناعة بالحكومة باعتبارها ضامناً، وغياب اللوائح التفسيرية، والأنظمة الأخرى التي كان يجب أن تتوفّر في متناول الجميع قبل البدء بتطبيق القانون، كلّها عوامل أدّت إلى توسيع الفجوة بين القانون ومعارضيه. وقد فرض هذا القانون على سكان مدينة القدس المحتلّة ممن يحملون الإقامة الإسرائيلية ويعملون في الأراضي الفلسطينية، رغم أنهم مجبرون أيضاً على نظام التأمين الإسرائيلي.

مقالات من فلسطين

اقتصاد البَقاء: الدّلالةُ والمفهوم في ظلّ حرب الإبادة

مسيف جميل 2024-11-17

لا توجد جدوى للصمود، ما لم يرتبط بالتصدي للاحتلال. استخدم المانحون "الصمود" كإطار جديد، يتماشى مع المرحلة الفلسطينية، ويراعي المشاعر الفلسطينية والحس الوطني السياسي، وكأن التنمية تحدث بتسمية وتبنِّي مصطلحات...

كلّ ما يتحدّى اكتمال الإبادة..

صباح جلّول 2024-11-10

شبعت أعين العالم أكلاً في مأساة غزّة. لن تغيِّر صور الموت ما لم يغيّره الموت نفسه. لذلك، فهذه هنا صور لقلبٍ ما زال ينبض، لملمناها من صور شاركها الصحافي يوسف...

للكاتب نفسه

اقتصاد البَقاء: الدّلالةُ والمفهوم في ظلّ حرب الإبادة

مسيف جميل 2024-11-17

لا توجد جدوى للصمود، ما لم يرتبط بالتصدي للاحتلال. استخدم المانحون "الصمود" كإطار جديد، يتماشى مع المرحلة الفلسطينية، ويراعي المشاعر الفلسطينية والحس الوطني السياسي، وكأن التنمية تحدث بتسمية وتبنِّي مصطلحات...