في ما وراء الأكمة: حول التحالفات السياسية الجديدة في تونس

إعلان نهاية الصراع الأيديولوجي والاحتكام إلى الدستور هو قاعدة الاتفاق بين حزب محسن مرزوق وحزب الغنوشي في تونس... عبارة شديدة الغرابة ومضمون مموه وزائف. لماذا؟
2018-11-03

توفيق السالمي

باحث من تونس


شارك
كريم ريسان - العراق

لن ينتهي الصراع الأيديولوجي إلا بالوقوف في مكان محدد للمتصارعيَن، فإما يميناً وإما يساراً. هذا نظرياً. أما واقعياً فإن الصراع الأيديولوجي يحدث داخل ذات الإنسان نفسها، في محاولاتها ضبط مواقفها الفكرية والسياسية، فضلاً عن الصراع في ما بين الواقفين يميناً وأولئك الواقفين يساراً.

العدمية

الصراع الأيديولوجي، بما هو صراع بين نظرتين للوجود والمجتمع والإنسان، وبما هو التفكير وضبط نتائج التفكير تشخيصاً ورسماً لآفاق الفعل الإنساني في مسارات وجوده ذاتاً ومجموعة، هو سرّ الوجود الإنساني. فلا يمكن تصور الوجود الإنساني خارج نطاق الفكر والتفكير. التفكير هوية الإنسان لأنه نتاج العقل. والعقل ميزة الإنسان والفاصل بينه وبين عدمه، وبينه وبين الوجود غير الواعي للطبيعة. إن العقل هو الإنسان، وبالنتيجة فالفكر والتفكير هو الإنسان. ولأن الأيديولوجيا هي شبكة المفاهيم ومجموع العلاقات بينها وبين واقع الناس المادي، فهي التجلي الحيني للفكر الإنساني في المكان المحدد. وإذا كانت الأيديولوجيا هي الفكر والتفكير المتجلي في الزمان وفي المكان فهي الإنسان، ولا شيء غيرها يمكنه أن يمثّل الإنسان. ولا شيء غير الأيديولوجيا يمكنه أن يمنح الإنسان هويته المخصوصة في هذا الوجود. ولا يعادلها في تقديرنا سوى العمل. فالعمل هو التجلي المادي للفكر البشري، أي أنه الأيديولوجيا البشرية وقد اتخذت أشكالها المادية. فالعمل هو النشاط الواعي والهادف الذي يختلف كليا عن الأنشطة الغريزية التي تقوم بها الحيوانات. هذا أولاً.

وثانياً، لأن نهاية الصراع الأيديولوجي معناه نهاية التفكير، ونهاية التفكير معناه نهاية الإنسان. فكل إنهاء للصراع الأيديولوجي وللأيديولوجيا نفسها هو إلغاء لما لا يكون الإنسان إنساناً إلا به. فمن دون أيديولوجيا يضحي الإنسان بلا خصوصية في هذا الوجود.

ثالثاً، لأن المجتمع الإنساني عموماً، والسياسي خصوصاً هو نتاج للأيديولوجيا الإنسانية، بل هو العقل الإنساني في تجلياته الواقعية والمادية. فالاجتماع البشري هو نتاج حركة العقل الإنساني الأولى التي لم تتوقف عن التطور والتكرار حتى راكمت الكمّ الكبير من المنجزات التي نسميها الحضارة الإنسانية.

ورابعاً، لأن الاحتكام إلى الدستور هو إعلان مضاد لنهاية الصراع الأيديولوجي. فالاحتكام يفترض الاختلاف، والاختلاف يفترض الصراع. ولذلك فالعجز ينفي ما يقوله الصدر. إن الدستور، وهو قانون القوانين، هو الاختزال الظرفي زماناً ومكاناً لواقع الصراع الاجتماعي. والصراع الاجتماعي هو "مورفولوجيا" التفاعل العنيف بين تمثلات مختلفة للوجود الإنساني ولأدواره في هذا الوجود. بمعنى أن الدستور يستبطن الصراع الأيديولوجي ويقننه حتى يمنع تحوله إلى احتراب وقتل. فكيف نوقف الصراع الأيديولوجي ونحتكم لقانون يضبط الصراع الأيديولوجي في جوهره؟ فهذا القول شبيه بالقول إننا لن نختصم بعد اليوم وسيكون القاضي هو الفيصل بيننا. فالقاضي وظيفته الأصلية حلّ الخصومات والنزاعات.

.. وهكذا، يمكننا أن نقول إن هذين الحزبين قد بلغا من ضعف التفكير وخواء الزاد ما جعلهما يتفقان على طرح عدمي.

حقيقة الأمر

الحقيقة أن هذا الالتقاء هو صياغة لاتفاق عام بين الحزبين يتخفّى وراء اختلافات لا تبررها غير عدم الألفة الشخصية. فالقائمون على حزب محسن مرزوق وحزب النهضة متفقون في الأيديولوجيا وفي البرامج السياسية من دون أن يكونوا في حزب واحد. ولم يمنع التقاءهم في حزب واحد سوى تباعد التجارب السياسية مكاناً وزماناً واختلاف الصفات والميول الشخصية. فما بين الحزبين من اختلاف لا يمس طبيعة التصور السياسي للمجتمع في كلا الحزبين. فكون أحدهما يصلي مثلاً والآخر يشرب الخمر، ليس له من تأثير على التصور السياسي الذي يجمع بينهما. فالحزبان يمينيان لا يؤمنان بأحقية المنتجين في ما ينتجونه، وأحقيتهم في إدارة العالم الذي يصنعونه. فالمنتجون هم الذين يصنعون العالم ومن حقهم أن يديروه سياسياً. والحزبان المعنيان يسندان هذا الحق لغير المنتجين. يؤمن الحزبان بدور رأس المال في تحقيق ما يسمونه "التنمية". ولذلك يدعمون أصحاب الأموال الضخمة ويتلقون منهم الدعم لقاء الاستمرار في تزييف وعي المنتجين حتى لا يطالبوا بحقهم الطبيعي. يؤدي الحزبان موضوعياً، الدور الاجتماعي والسياسي نفسه في بنية المجتمع التونسي القائمة على حفظ مصالح رأس المال. والحزبان لا يختلفان عن حزب "نداء تونس" مثلا في شيء جوهري. والصراع بينهم هو صراع بين المتفقين على مواقع تقل عن عددهم، وحول مصالح لا يمكن أن تستوعب الجميع. والدليل على عدم الاختلاف أن حزب مرزوق هو سليل حزب النداء، بل إن أمينه العام كان في يوم من الأيام أميناً عاماً لحزب النداء. كما أن حزب النهضة كان حليفاً لحزب النداء على مدى أربع سنوات خلت.

النتيجة مما تقدّم أن نهاية الأيديولوجيا كقاعدة الالتقاء بين الحزبين هي مضغة ملقاة إلى البسطاء من المنتمين للحزبين يبتلعون بواسطتها الاختلاف غير الموجود والاتفاق المخفي بين هذه الأحزاب التي لا دور لها غير تزييف وعي المنتسبين لها والسطو على إرادة بقية أفراد الشعب عبرهم.

الأفق

لقد فشل التحالف السابق بين النهضة والنداء في الاستمرار بعد أن حقق كل طرف مغانمه منه. غير أن كل طرف قد خسر من قوّته الشيء الكثير. فالنداء خسر نفسه إذ تلاشى بين شظاياه المختلفة. والأمر من طبيعة الأشياء. فالجيوش في المعارك، وإن ربحت المعركة، تخرج أضعف مما كانت عليه قبل الحرب. أما النهضة فقد تقلصت شعبيتها وخفُت بريقها الذي ارتبط بأمرين كان يجلبان لها التعاطف، وهما الدين والفقراء. فقد لغَط النهضويون كثيراً بالإسلام ونصرة الفقراء، ولكنهم واقعياً تركوا الإسلام تركاً بائناً. ومن معالم هذا الترك تلك النكتة التي تداولتها وسائل الإعلام عندما صوّت النهضويون على خفض رسوم توريد الخمر المعتّق ثم قاموا لصلاة المغرب. أما الفقراء فقد اكتووا بنار خياراتهم. بل صار النظام السابق، الذي اتهم بالسرقة والفساد، كحلم بعيد المنال بنظر الفقراء.

"الاحتكام إلى الدستور" هو إعلان مضاد لنهاية الصراع الأيديولوجي. فالاحتكام يفترض الاختلاف، والاختلاف يفترض الصراع. ولذلك فالعجز ينفي ما يقوله الصدر. إن الدستور، وهو قانون القوانين، هو الاختزال الظرفي زمانا ومكانا لواقع الصراع الاجتماعي.

ومثلما فشل التحالف السابق، الذي كان من هندسة الشيوخ، على أساس تقاسم النفوذ على طريقة التفاهمات القبلية، سيفشل التحالف الحالي الذي يبدو أنه من هندسة الشباب (محسن مرزوق وعبد الكريم الهاروني)، الذي أقحمت فيه عبارات توحي بالمعرفة المعاصرة.. من أيديولوجيا ودستور وغيرهما. فهذا التحالف هو من جهة النهضة مجرد وسيلة للبقاء في السلطة، وهو من جهة مرزوق مجرّد قفز على مواقع سيتركها النداء في تصوّره الساذج.. التقاء مصالح لا مصلحة للشعب فيه.

خاتمة

كان شعار نهاية الصراع الأيديولوجي مدخلاً صغيراً لحزبين ضعيفين. وكان الاحتكام إلى الدستور مسوغاً تافهاً لنهاية أمرٍ وُضع هذا الدستور من أجل ضبطه. وقد كشف كل ذلك عن خواء زاد الحزبين المعرفي والسياسي وضيق أفق قياداتهما وسطحية تفكيرهم وتسرعهم. ولذلك فإن هذا التحالف سائر نحو الفشل بأسرع من التحالفات السابقة وسيفضي إلى إنتاج قوة تدميرية للحزبين أشدّ مما لحق بالنداء وبالنهضة خلال الأعوام السابقة.

مقالات من تونس