جوهر التأزم في ليبيا يتجلى على جميع المستويات. فما تعاني منه البلاد ليس مجرد انقسام على المستويين السياسي والأمني، بل هو بالإضافة إلى ذلك انقسام وتدهور على المستويات الدستورية والنُظُمية والهوياتية والاجتماعية والاقتصادية والإدارية والجهوية والثقافية والقيمية في آن واحد. إن تعدد مستويات التأزم يستلزم مقاربة كلية holistic ولا تنفع معه مبادرات تعتمد مقاربات أحادية.
هناك قصور في إدراك مفهوم الشعور الجمعي بالانتماء للوطن، ومفهوم بناء الدولة وفي تطبيق هذه المفاهيم. مفهوم "الوطنية" هو تصور تشترك في حمله جماعة من الناس قد يكونون متعددي الأعراق والثقافات، ولكنها ترتبط بوطن ويشترك أبناؤها وبناتها في شخصية مشتركة ذات خصائص فريدة، ويتذكرون سرديات مشتركة، ولهم هموم مشتركة. وقد ظهر القصور في فهم الفكرة في الانقسامات والإقصاء على أساس دوائر الانتماء، وفي صعود هويات جزئية (قبلية /جهوية /عرقية) على حساب الهوية الوطنية الجامعة. كما يظهر القصور في سوء إدارة الخلاف الحاصل بشأن قضايا الهوية.. في ضعف التصدي لظواهر خطيرة كالتطرف وانتشار ايدولوجيات دينية (1). ولعله من المفيد لفهم طبيعة الخلل لدى شرائح من الليبيين في إدراك فكرة "الوطنية" استحضار نهج وسياسات حكم الفرد المطلق في تمزيق نسيج البلاد وإهدار رأس المال الاجتماعي وتشويش الذاكرة التاريخية لمدة 42 سنة.
ظهر القصور في فهم فكرة الانتماء للوطن وبناء الدولة وتطبيق هذه المفاهيم في الانقسامات والإقصاء على أساس دوائر الانتماء، وفي صعود هويات جزئية (قبلية/ جهوية/ عرقية) على حساب الهوية الوطنية الجامعة.
تعاني المنطقة برمتها، لا ليبيا فحسب، من إرث ثقيل فيما يتصل بمفهوم الدولة الوطنية. فكما يشير نزيه أيوبي في كتابه "تضخيم الدولة" إلى أن الدولة تعاني عجزاً وتفتقد إلى شرعية إنجاز تنمية وتحقيق ترشيد مؤسسي، ولكنها تعتمد في بقاءها على ركيزتين أساسيتين، وهما احتكار الثروة في نموذج الاقتصاد الريعي واحتكار العنف في نموذج الهيمنة العسكرية (2). ويضيف عبد الإله بلقزيز إلى هذه الإشكالية "ضعف فكرة الدولة في المخيال العام"، ويوضح ذلك بأنه لم تنشأ في المنطقة تاريخياً دول وطنية كما نشأت في الحالة الأوروبية بعد نزاع ثم بعد بناء توافق. كما يرى أن الدولة في منطقتنا لا تملك رؤية ومشروعاً، ولذلك لم تُصغ حضوراً لها في الوعي الجمعي. كما أنها تعاني من ضعف التمثيل المجتمعي (3)، وهو ما يذكرنا بالإشكالية التي أشار لها جويل ميغدال في كتابه "الدولة الضعيفة والمجتمع القوي" (4) وإلى ضرورة فهم السياقات الثقافية المختلفة التي تنشأ فيها الدول، وأنه هناك مجتمعات كمجتمعاتنا التي تمتاز بوجود كيانات اجتماعية كالقبائل أو الطوائف، تمتاز فيها طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع بالدينامية. فالدولة تساهم في صياغة المجتمع تماماً كما يساهم المجتمع في صياغة الدولة، لا يهيمن أحدهما على الآخر. وأي إغفال لتلك الطبيعة من شأنه أن يكرس فشل مشروع الدولة.
لم تكن ليبيا استثناء في هذا المشهد القائم على هشاشة الدولة وقيامها على ركيزتي احتكار الثروة واحتكار العنف، وبالتالي هي سلطة أكثر من كونها دولة. بل كانت التجربة الليبية أقل هشاشة نظراً لحداثة تجربة الدولة الوطنية بها حيث استمرت دولة الاستقلال 19 عاماً فقط، وبعد ذلك تحولت ليبيا إلى نظام حكم فردي مطلق عمل على هدم ممنهج لمؤسسات الدولة الوليدة. ولذلك من المهم استحضار أن غالبية الأزمات التي تواجه الليبيين اليوم على مستوى الدولة هي نتاج لنهج وسياسات حكم الفرد المطلق التي دأبت على توظيف مفاهيم "الزحف الجماهيري" لاهدار قيم التداول السلمي للسلطة وسيادة القانون، كما هي نتاج انقطاع استمر 42 سنة للحياة الدستورية. وهذا لا ينفي اعتبار سوء تعاطي معظم الفاعلين السياسيين الراهنين خلال المرحلة الانتقالية.
• ظهرت أولى أعراض القصور في إدراك مفهوم الدولة الوطنية وبناء الدولة، في سوء إدارة الخلاف المتصل بالشرعية الدستورية ومسألة التداول السلمي للسلطة وكيفية معالجة مسألة الانقطاع الدستوري وإقدام المجلس الانتقالي على إصدار إعلان دستوري جديد (بناء على شرعية ثورية جديدة) إيغالاً في انتهاك الشرعية الدستورية (5).
• ظهر القصور في طريقة بناء الأجسام الرسمية خلال المرحلة الانتقالية، وتحديد اختصاصاتها، التي انطوت على عشوائية وتكريس لروح المغالبة والغنيمة وإهدار لمبادئ دستورية بديهية كمبدأ الفصل بين السلطات الثلاث ومبدأ عدم تركيز السلطة. وقد ظهر ذلك جلياً في تداخل الاختصاصات التشريعية والتنفيذية.
• كما ظهر أيضاً في غياب التوازن بما يتصل بتوزيع الثروات والتوازن الاقتصادي بين الأقاليم الثلاثة.
• كما ظهر في سوء إدارة الخلاف الذي برز بشأن تصور الحل النظمي الأمثل، وما إذا كان الأفضل تبني النظام الفيدرالي أم الموحد.
• .. وفي استمرار إصرار قطاعات واسعة من المجموعات غير النظامية على حمل السلاح وعدم تسليمه تسليماً طوعياً للدولة والانخراط في مؤسساتها.
• لكن الاهم هو القصور في إدراك ضرورة تلازم جهود إعادة بناء البلاد مع جهود إعادة بناء الدولة عبر بناء "التمثيل السياسي". فأغلب القوى السياسية المتصارعة، الحزبية وغيرها كما قياداتها، لم تأتِ من قواعد اجتماعية أرضية وليست لها جذور في تربة مجتمعية، وليست ممثلة لشرائح ليبية. هي قيادات فوقية أقحمت نفسها في المشهد وادعت أنها ممثلة لكتل مجتمعية. وهناك قوى سياسية أخرى تمثيلها ضعيف. أي أنها لا تمثل كتلا مجتمعية ذات ثقل معتبر. هذا في الوقت الذي تدعي فيه هذه القوى بأنها ممثلة لقطاعات واسعة من المجتمع الليبي.
احتكرت نخبة ليست لديها جذور مجتمعية إدارة المرحلة الانتقالية وطرح الحلول والتفاوض حول مصير البلاد. وقد أرخى هذا الخلل الجوهري بظلاله على المرحلة الانتقالية والحوار السياسي والمفاوضات مُخلفاً تهميشاً وإقصاءً للقوى المجتمعية. والنتيجة هي أنه قد استقر في وعي المجتمع قناعةٌ بغياب الملكية الوطنية لإدارة المرحلة الانتقالية وغياب الملكية الوطنية لأي دستور سيخرج من رحمها مما تترتب عليه صعوبة تطبيقه.
أغلب القوى السياسية المتصارعة، الحزبية وغيرها، كما قياداتها، لم تأتِ من قواعد اجتماعية أرضية وليست لها جذور في تربة مجتمعية، وليست ممثلة لشرائح ليبية. هي قيادات فوقية أقحمت نفسها في المشهد وادعت أنها ممثلة لكتل مجتمعية.
إن إقصاء القوى المجتمعية عن الإسهام في إدارة المرحلة الانتقالية والاستماع لرأيها فيما يتصل بالحلول المطروحة، يمثل انتهاكاً صارخاً لجوهر فكرة الحياة الدستورية الذي مفاده أن الحياة الدستور القويمة ثمرة لتعاقد بين "جميع" أصحاب المصالح وإن المراد من الحلول المطروحة والوثائق تنظيم الاجتماع السياسي للمجتمع بأسره، لا تنظيم علاقات القوى المتصارعة صاحبة النفوذ فقط. وقد نتج عن ذلك الابتعاد عن مقاربة الانطلاق من "الإرادة المجتمعية" إلى مقاربة الانطلاق من "إرادة القوى السياسية وحلفائهم الخارجيين"، أي مقاربة المحاصصة. إن الهم الأكبر الذي يشغل "الإرادة المجتمعية" منذ بدء انتفاضة شباط/ فبراير 2011 هو إزالة العوار الجوهري الذي أصاب الحياة الدستورية في ليبيا، وإنهاء حالة غياب الدستور التي سادت أربعة عقود ونيف والتي كان جوهرها مصادرة "الإرادة المجتمعية". إصلاح العوار الدستوري الجوهري لم يكن مجرد همّ راهن أو طارئ بالنسبة لليبيين، بل إن جذوره قد ضربت عميقاً في تربة الاجتماع السياسي الليبي منذ بدء نضوج فكرة الدولة الوطنية في مرحلة الاستقلال. وأخطر ما يكتنفه تعامل القوى المتصارعة وتعامل البعثة الأممية مع التفاوض الجاري هو تكريس الخلافات بين الأطراف المتصارعة في الدستور - وهو ما يعرف باسم "دسترة الخلافات" - وذلك من خلال استحداث مواد دستورية تكتفي بتنظيم هذه الخلافات والحيلولة دون تفاقمها. إن هذا الأمر يمثل انتهاكاً صارخاً لجوهر فكرة الدستور التي مفادها أنه إطار لتكريس التوافق والتوحد لا لتكريس الخصومة والانقسام.
تجاهل الموروث الدستوري في ليبيا
26-04-2018
إن ضعف بنية القوى السياسية التي يُرجى منها أن تقود عملية التسوية وبناء السلام هو قصور إضافي في هذا المجال. فهناك غياب للخبرات السياسية والاجتماعية والثقافية والنفسية والاقتصادية والتنموية في بنية كل فريق يمثل طرفاً من الأطراف الليبية المتصارعة، ومن ثَمّ فهي عاجزة عن بلورة رؤى واستراتيجيات طويلة المدى للحل. وكان يمكن لهذه الخبرات الاجتماعية والنفسية والاقتصادية والتنموية، والخبرات عابرة التخصصات إذا ما وجدت، أن تُسهم في تشخيص الشروخ التي أصابت جدار الوعي الجمعي على المستوى السياسي والأمني والهوياتي والاقتصادي. وكان بإمكانها أن تسهم في تصميم حوار علمي يعالج أسئلة جوهرية جادة وأن تسهم إسهاماً حقيقياً في ترميم بعض الشروخ.
وقد ظهر القصور ايضاً لدى القوى الدولية المؤثرة التي فرضت منذ بدء المرحلة الانتقالية مقاربة "الوصفة الديمقراطية الجاهزة" (blue print) التي تُقدم لغالبية البلدان التي تمر بمرحلة انتقالية. أبرز عناصر هذه الوصفة الجاهزة "إجراء انتخابات - تشكيل أحزاب سياسية - كتابة دستور جديد - إجراء استفتاء على الدستور الجديد". وعندما لم تحقق الوصفة الجاهزة النتيجة المرجوة، إضطرت القوى الدولية أن تجري حواراً سياسياً بين الأطراف. لكن الحوار السياسي نفسه لم يكن سوى وصفة جاهزة بديلة. أي أن القوى الدولية المؤثرة لم تخرج عن التفكير النمطي ضمن القوالب المعهودة.
أخطر ما يكتنفه تعامل القوى المتصارعة، وكذلك تعامل البعثة الأممية مع التفاوض الجاري هو تكريس الخلافات بين الأطراف المتصارعة في الدستور - وهو ما يُعرف باسم "دسترة الخلافات" - وذلك من خلال استحداث مواد دستورية تكتفي بتنظيم هذه الخلافات والحيلولة دون تفاقمها.
هذا على الرغم من أن تجارب كثيرة خلال نصف القرن الماضي أسفرت عن أنه ليست هناك "وصفة انتقال جاهزة " تصلح لجميع البلدان وتتوافق مع جميع النزاعات. فأنماط التنظيم السياسي في مراحل الانتقال تختلف من بلد لآخر. كما أن طبائع النزاعات وإمكانات حلها تختلف من بلد لآخر. ولعله من المهم الإشارة هنا إلى بعض تلك الدراسات التي توضح أن ثمة إشكالية كبرى في مقاربة المجتمع الدولي (لاسيما مقاربة المدرسة النيوليبرالية) لإعادة بناء "الدول الفاشلة" حيث تجنح معالجتها للمقاربة المؤسساتية فقط التي تركز على ما يُعرف ب"الحوكمة الرشيدة" وادراج سياسات إصلاحية اقتصادية، دون الالتفاف للحاجة الماسة لمعالجة مسألة الشرعية وأهمية معالجة التماسك والتجانس السياسي الاجتماعي للمجتمعات (6).
وعلى الرغم من كل ما سبق، فإن هذا التأزم يظل محدوداً كيفاً وكماً بالمنظار النسبي. فالتأزم والخلل المفهومي والسلوكي منتشر بين بعض الشرائح وليس بين جميع الليبيين. ولعله جدير بالملاحظة أن الجهود المحلية التي تصب في العبور نحو مرحلة الاستقرار حالت دون حصول ما يعرف بالانتكاس. كما حالت دون انزلاق البلاد في هاوية الحرب الأهلية بمداها الكامل.
ويظل العامل الخارجي حاكماً في إذكاء هذه الصراعات الداخلية والاختناقات، وهو مما لا يمكن اغفاله لأهميته الكبيرة. وإن كان التأزم في المراحل الانتقالية التي تشهد تدخلات خارجية كثيفة هو أمر طبيعي لأن القوى الدولية التي ترى أن لها مصالح تبذل كل ما في وسعها للتأثير في المرحلة الانتقالية لكي تؤسس لنفسها ركائز لتلك المصالح ولكي تحافظ عليها خلال مرحلة الاستقرار.
______________
1- For more on Libya’s religious sector during the transition and how it was one of the major factors feuding the conflict in Libya and what needs to be done to restore wasati Islam and establish peace in Libya, read: Libya’s Religious Sector. Efforts of Peace Building. Palwasha L. Kakar and Zahra Langhi. (March 2017) United States Institute of Peace.
2- نزيه أيوبي. تضخيم الدولة العربية: السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط. ترجمة: أمجد حسن. مركز دراسات الوحدة العربية، آذار/ مارس 2011.
3- عبدالإله بلقزيز. الدولة والمجتمع: جدليات التوحيد والانقسام في الاجتماع العربي المعاصر. بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر،.2008
4- Joel S. Migdal “Strong Societies and Weak States State-Society Relations and State Capabilities in the Third World”, Princeton University Press, 1988.
5- صحيح القانون والمشروعية الدستورية يفرض أن يكون فيه أول إجراء يتخذه أي بلد واجه انقطاعا دستوريا نتج عن تعطيل دستور بلا مسوغ من القانون بغية استعادة الحياة الدستورية هو تفعيل الدستور الذي جرى تجميده قبل اتخاذ أي إجراء آخر.. على أن يجري عقب تفعيله، اللجوء لواحد من البدائل الدستورية السليمة التي هي إبقاء ذلك الدستور على حاله، أو تعديله، أو التوافق توافقا دستوريا - استنادا للدستور المذكور نفسه - على إجراء عملية دستورية تتمخض عن دستور جديد، وأخذاً في الاعتبار أن أي إجراء آخر خلاف تفعيل آخر دستور هو إجراء منعدم قانوناً لا ينتج أثراً قانونياً.
6- Nicolas Lemay-Hébert, “Statebuilding without Nation-building? Legitimacy, State Failure and the Limits of the Institutionalist Approach”, Journal of Intervention and Statebuilding (2009), Vol. 3- Issue1.