تونس من أكثر الدول العربية والافريقية جذبا للسياح، فهي تستقبل ما بين ستة وسبعة ملايين سائح كل سنة. بعد الثورة، عرف عدد السياح تذبذباً وحتى تراجعاً، خصوصا في سنتي 2011 و2015، لكن يبدو أن الأمر في طريقه للاستقرار منذ 2017. وزيرة السياحة التونسية قدمت في تصريح صحافي (أواخر آب/ أغسطس 2018) أرقاما تبدو جيدة وتبعث على التفاؤل: أكثر من خمسة ملايين سائح زاروا تونس خلال الأشهر الثمانية الأولى من سنة 2018، ما قد درّ عائدات تقدر بأكثر من 2300 مليون دينار تونسي (قرابة المليار دولار). تقدم الدولة منذ عقود أرقاماً عن عدد السياح والليالي المقضاة في النزل والعائدات من العملة الصعبة والمحلية، وتؤكد دائماً على تطور القطاع السياحي في تونس ومساهمته الكبيرة في التشغيل وخلق الثروة.. لكنها لا تنشر معلومات ودراسات عن الأزمات الهيكلية للقطاع ولا عن تأثيراته على البيئة والبنى الاجتماعية - الاقتصادية ولا تقوم بمراجعات للسياسات الحكومية القديمة..
خيارات صِيغت منذ نصف قرن..
تعود نشأة قطاع السياحة في تونس إلى أواخر ستينيات/ بداية سبعينيات القرن الماضي. في تلك الفترة، شهد الاقتصاد التونسي تحولات جذرية، فبعد سنوات من السياسات شبه الاشتراكية القائمة على الإصلاح الزراعي والإنتاج التشاركي وتركيز نواة صناعات تونسية ثقيلة، قررت السلطات التونسية تبني المنهج الليبرالي. أصبح الاقتصاد يقوم على مصانع النسيج والصناعات الخفيفة (المملوكة في أغلبها لأجانب) والإنتاج الفلاحي المعد للتصدير، وأيضا السياحة. اختارت الدولة الحل الأسهل: استغلال المناخ المتوسطي المعتدل وامتداد السواحل التونسية وجمالها لجلب أعداد كبيرة من السياح الأوروبيين الذين يبحثون عن وجهات مشمسة ومنخفضة الكلفة. هذا الاختيار جعل المستثمرين يركزون الأغلبية الساحقة من الوحدات الفندقية بالقرب من الشواطئ وفي أربع أو خمس محافظات فقط: نابل، سوسة، منستير، المهدية، مدنين (جربة وجرجيس). كما ركزت السلطات جهودها التسويقية على البلدان الأوروبية القريبة من تونس جغرافياً واقتصادياً: فرنسا، إيطاليا، ألمانيا، اسبانيا، بريطانيا، الخ..
اللامركزية: علاجٌ معجزة لتونس متأزمة؟
01-02-2018
ولضمان مداخيل ثابتة وحصة مستقرة من السوق السياحية العالمية، عقد المسؤولون اتفاقيات مع وكالات أسفار وشركات سياحية عالمية كبيرة تروج للوجهة التونسية مقابل تخفيضات وامتيازات هامة. سياحة شاطئية بالأساس على الرغم من الثراء الثقافي والطبيعي لتونس: واحات وصحراء في الجنوب، جبال وثلوج وغابات وبحيرات في الوسط والشمال الغربيين، آثار لحضارات وثقافات مختلفة في كامل أرجاء البلاد.
السياحة شاطئية بالأساس تتجاهل الثراء الثقافي والطبيعي لتونس: واحات وصحراء في الجنوب، جبال وثلوج وغابات وبحيرات في الوسط والشمال الغربيين، آثار لحضارات وثقافات مختلفة في كامل أرجاء البلاد.
صحيح ان الفاعلين في القطاع يحاولون منذ قرابة العقدين تنويع المنتج السياحي واستغلال إمكانات مناطق غير ساحلية (السياحة الصحراوية في أقصى الجنوب، سياحة الصيد والغابات في الشمال الغربي) والتوجه لأسواق جديدة (روسيا والصين والدول الإسكندنافية)، لكن الخيارات القديمة ما زالت هي المهيمنة على توجهات الدولة والمستثمرين. هذا "الثبات" على السياسات القديمة يعطل نمو القطاع وتطوره خصوصاً مع اشتداد المنافسة مع دول متوسطية أخرى، كما انه يظلم مناطق لها إمكانات سياحية هائلة: مثلاً القيروان أقدم العواصم الإسلامية في شمال افريقيا، والقصرين التي يتوفر فيها الجزء الأكبر من مخزون الآثار الرومانية في تونس هي من أفقر المحافظات التونسية.
ما تقوله الأرقام وما تسكت عنه..
أكثر من ثمانمئة وحدة فندقية ومئتي ألف سرير، ملايين السياح كل سنة، مئات ملايين الدولارات من العائدات، قرابة نصف مليون فرصة عمل توفرها السياحة بشكل مباشر وغير مباشر، ثاني أو ثالث مصدر للعملة الصعبة (حسب السنة والظرف)، مساهمة في الناتج الداخلي الخام بحدود 5 في المئة، الخ... هذه أهم الأرقام التي تحضر باستمرار في اغلب الخطابات الرسمية للتدليل على أهمية السياحة للاقتصاد التونسي ولتبرير الحظوة التي يتمتع بها لدى الدولة وطبعاً لإبراز "إنجازات" المسؤولين والفاعلين في القطاع.
مسألة المداخيل تمثل لوحدها معضلة. فلا أحد يعرف بالضبط أين تذهب العائدات خصوصاً التي تكون بالعملة الصعبة. هذا الكلام لا مبالغة فيه، حتى محافظ البنك المركزي لا يعرف!
الأرقام تبدو مشجعة ويمكن اعتبارها دليلاً على نجاح سياسات الدولة في مجال السياحة، لكن هناك الكثير من المسكوت عنه. مثلا لا نجد أرقاماً واضحة عن قيمة القروض التي تحصل عليها المستثمرون من القروض العمومية ولا عن حجم التعثر في السداد. كما لا توجد ارقام دقيقة عن مساهمة السياحة في العائدات الجبائية للدولة وفي التنمية الاقتصادية في المناطق غير الساحلية. أما بالنسبة لدور السياحة في خلق فرص العمل، وعلى أهميته، فيبقى محدوداً ويندر أن نجد مسؤولاً يوضح الأمر فيقول أن عدد الوظائف المباشرة والمستقرة التي يوفرها القطاع لا يتجاوز 80 أو 90 ألف وظيفة، وان مئات آلاف فرص العمل الأخرى هي أساسا موسمية غير دائمة وغير مستقرة: فترات تدريبية، عقود قصيرة المدى، وظائف غير مصرح بها وأجور بخسة، تنشيط موسمي أو ظرفي لقطاعات إقتصادية أخرى، مهن صغرى لا تتطلب معارف أو خبرات، الخ..
مسألة المداخيل تمثل لوحدها معضلة، فلا أحد يعرف بالضبط أين تذهب العائدات، خصوصاً التي تكون بالعملة الصعبة. هذا الكلام لا مبالغة فيه، حتى محافظ البنك المركزي لا يعرف: في أيار/مايو 2017 وخلال جلسة برلمانية تساءل المحافظ السابق للبنك المركزي عن مصير عائدات الحجوزات وقال بالحرف الواحد "وينهم فلوس السياحة، وين مشاو؟" (أين هي عائدات السياحة، أين ذهبت؟). لا يتحدث المسؤولون أيضاً عن معدل النفقات اليومية للسائح الأجنبي في تونس وهل يرقى إلى المعدلات العالمية.
مكاسب هامة لكن "الضريبة" مرتفعة..
تتركز المنشآت السياحية في المحافظات التي تحتكر أصلاً أغلب المنشآت الاقتصادية والتعليمية والثقافية والرياضية. هذا التركز يساهم في تكثيف نسق نزوح سكان المناطق الداخلية والأرياف نحو المدن الكبرى المكتظة أصلاً، مما يعني مزيداً من القرى والبلدات شبه المهجورة ومزيداً من الضغط على البنى التحتية وتردي الخدمات في المدن الكبرى. أي أن السياحة على أهميتها هي أحد عناصر تعميق الفوارق بين الواجهة البحرية ودواخل البلاد بدلاً من ان تكون قاطرة للتنمية وسبيلاً لتعديل الكفة. صحيح ان السياحة تنشِّط عدة قطاعات اقتصادية خصوصاً في ذروة الموسم، لكنها تصبح أحياناً مضرة بقطاعات أخرى. سهولة العمل النسبية في مجال السياحة وعدم اشتراط توفر مهارات ومؤهلات عالية في أغلب الوظائف تدفع بالعديد من الشباب وحتى الكهول إلى هجر مجالات الصناعة والفلاحة والحرف للبحث عن عمل في منشأة سياحية. كما ان إمكانية الاقتراب من السائحات الأجنبيات لإقامة علاقات عابرة أو دائمة هي عامل جذب مهم.
تتركز المنشآت السياحية في المحافظات التي تحتكر أصلاً أغلب المؤسسات الاقتصادية والتعليمية والثقافية والرياضية، مما يساهم في تكثيف نزوح سكان المناطق الداخلية والأرياف نحو المدن الكبرى المكتظة.
يبقى قطاع الفلاحة والصيد البحري هو الأكثر تضرراً من السياسات السياحية التونسية. عدد كبير من أبرز المجمعات السياحية الحالية كانت إلى حدود ستينات وسبعينات القرن الماضي مناطق يسكنها أساساً فلاحون صغار وصيادون وبحارة. مع تطور السياحة إرتفع سعر الأراضي من جهة وتزايدت حاجة المنشآت السياحية للعمال من جهة أخرى. كل هذا شجع العديد من الأهالي على بيع أراضيهم للمستثمرين والتخلي عن الأنشطة الفلاحية ذات الطابع العائلي.
مزاحمة السياحة للفلاحة لا تقتصر على الأرض والأيادي العاملة بل تشمل أيضاً الموارد الطبيعية، فالفنادق تستهلك كميات مهولة من المياه في بلد يعاني جزء كبير منه من نقص الماء الصالح للري والشرب وتدني جودته. هناك أيضاً الضريبة البيئية لتطور السياحة التونسية: تلوث الشواطئ بشكل مستدام نتيجة لتوافد ملايين السياح وتقاعس الدولة في تنظيفه وفي العناية بالشريط الساحلي. والبحر أيضا تضرر من جراء الفضلات والمياه المستعملة التي تصله من الشواطئ أو تلقى فيه مباشرة.
اليد التي تطعم والتي تؤلم أيضاً..
عندما تعول على قطاع "مزاجي" يتأثر كثيراً بالظروف الاقتصادية والأمنية في الداخل والخارج، وتجعل منه أحد أعمدة اقتصادك، وعندما تركز جهدك التسويقي على أسواق محدودة وتجعل الحجوزات رهينة رضا وكالات كبيرة، فأنت تحد من هامش حركتك وقدرتك على التفاوض. تتعرض الدولة لابتزاز المستثمرين السياحيين الذين لا يتوقفون عن طلب قروض من البنوك العمومية وامتيازات جبائية وإعادة جدولة الديون، وتخضع لهم. هم الأبناء المدللون للدولة التي تكاد لا ترفض لهم طلباً ولو على حساب قطاعات أخرى، على الرغم من علمها بممارسات التهرب الضريبي، وتغيير صبغة الأراضي المستغَلة، وظروف العمل والأجور التي لا تتطابق مع القانون، والتأخر في دفع المساهمات الاجتماعية، وفواتير الطاقة، واستغلال الإعفاءات الجبائية الممنوحة للقطاع في الاستثمار بمشاريع غير سياحية.
اعتماد القطاع على السياح من دول الاتحاد الأوروبي المؤثرة، أي "شركاء" تونس الاقتصاديين الذين يحتكرون الجزء الأكبر من صادراتها ووارداتها، يعني مزيداً من إخضاع اقتصاد البلد لشروطهم واضعافاً لموقف الدولة في ملفات أخرى.
ثم أن الدول التي يأتي منها أكبر عدد من السياح الغربيين هي الدول المؤثرة في الاتحاد الأوروبي، أي "شركاء" تونس الإقتصاديين الأساسيين الذين يحتكرون الجزء الأكبر من صادراتها ووارداتها. اعتماد السياحة في تونس عليهم يعني بكل بساطة مزيداً من إخضاع الاقتصاد التونسي لشروطهم واضعافاً لموقف الدولة في ملفات أخرى. وكالات الأسفار الدولية التي توفر النسبة الأكبر من حجوزات النزل التونسية تعلم مدى تأثيرها وتستغله جيداً للحصول على أسعار أرخص وعمولات أكبر، خصوصاً عندما تمر تونس بظرف صعب. حتى الجماعات الإرهابية تعلم جيداً ان السياحة هي إحدى أهم نقاط قوة وضعف الدولة في آن، وأن عملية إرهابية كبيرة كفيلة بضرب موسم سياحي والتسبب في خسائر كارثية للاقتصاد التونسي. خسائر يمكن أن تمتد على عدة مواسم. فمثلاً الضربات الإرهابية التي عرفتها تونس سنة 2015 (الهجوم على متحف باردو، عملية نزل الامبريال في سوسة، تفجير حافلة الأمن الرئاسي) سببت ازمة كبيرة للقطاع طيلة 3 سنوات، وهو لم يبدأ بالتعافي إلا في الموسم السياحي الحالي.
ختاماً
لا يمكن إنكار أهمية السياحة بالنسبة لتونس، سواء من ناحية المداخيل وتنشيط الدورة الاقتصادية أو خلق فرص عمل. لكن لا يمكن أيضاً إخفاء الحقائق المتعلقة بتراجع مردودية الخيارات القديمة، وبالآثار السلبية للسياحة بشكلها الحالي على البيئة وعلى عدة قطاعات إقتصادية أخرى. اعتماد الدولة المبالغ فيه على قطاع متقلب ويخضع لعدة تأثيرات يحشرها أحياناً في الزاوية ويدفعها لتقديم تنازلات وترضيات مكلفة. ويبدو من الملح أن تراجع الدولة سياساتها وتسعى لفرض معادلة جديدة تضمن نمو القطاع السياحي وتنوع عروضه، مع احترام البيئة والمحافظة على الثروات الطبيعية، وخصوصاً مع المساهمة في تنمية المناطق الداخلية التي تزخر بمخزون ثقافي وطبيعي هائل..