"كشف موقع "بلومبيرغ" الاقتصادي الشهير، عن صدارة البحرين للبلدان الأفضل لمعيشة للأجانب على مستوى العالم، للعام الثاني على التوالي، لافتة إلى أن صدارتها "تفوقت على مستوى المعيشة للأجانب المقيمين في الولايات المتحدة". وعلى الرغم مما فيه من مبالغة واضحة، اهتمت بنشر الخبر في 6/9/2018 مختلف وسائل الإعلام في البحرين. وبقيَ لعدة أيام سبباً لتبادل التهاني: ليس للتفوق على سنغافورة وغيرها من دول العالم الثالث فحسب، بل لأن البحرين "تفوقت" أيضأ على الولايات المتحدة الأمريكية نفسها!
جنة المهاجرين وجحيمهم
لم ينظر المسئولون في الإعلام البحريني من خلف زجاج شبابيك مكاتبهم إلى العمال المهاجرين في مختلف مواقع العمل بدون وسائل حماية من لهيب شمس يرفع الحرارة إلى ما فوق الخمسين درجة مئوية. فهؤلاء، وهم أكثر من نصف مليون عامل، لم يهتم أحدٌ بسؤالهم عما إذا كانوا حقاً يفضلون المعيشة في البحرين على المعيشة في سنغافورة أو أمريكا. على أية حال، كان الذين يشير إليهم الخبر المنقول عن موقع "بلومبيرغ" هم المشاركين في إستفتاء نظمته إحدى الهيئات الترويجية. إقتصر الإشتراك على فئة محدودة من المشتركين في تلك الهيئة التي تتوجه لذوي الوظائف العليا في الشركات متعددة الجنسيات وإدارات الشركات المالية والمصارف والفنادق وغيرها. وأغلب هؤلاء، الذين يُطلق اسم "Expat" أي موفدون للعمل، يعرفون بحريناً أخرى لا يعرفها أغلب سكان الجزيرة وبخاصة المهاجرون الفقراء.
في البحرين كغيرها من بلدان الخليج العربي، ثمة تراتبية هرمية للمهاجرين تتداخل فيها عوامل كثيرة، على رأسها الوضع الطبقي، لكنها تشمل أيضاً الخلفية إلإثنية والعرقية. في قمة تلك التراتبية يقف القادمون من الغرب ــ وخاصة البريطانيون والأمريكيون ــ للعمل في إدارات الشركات المالية والمصارف، وفي الأجهزة الأمنية. وفي قاع تلك التراتبية، وأحيانا خارجها، نجد فقراء المهاجرين، وخاصة الإناث القادمات من البلدان الفقيرة مثل إثيوبيا وبنغلاديش.
لا تنحصر الإمتيازات التي تمتع بها فئة "الإكسبات" في الرواتب المرتفعة والميزات الوظيفية الأخرى، ولا فيما توفره لهم وظائفهم من مركزٍ إجتماعي و"حصانة" من عسف أجهزة الأمن، بل وأيضاً في حركيتهم الجغرافية. فهم بحكم المهن التي يمارسونها، وضمن تسهيلات العولمة، يستطيعون الإنتقال بسهولة من بلدٍ إلى آخر دون تغيير سلبي على مداخيلهم أو أساليب معيشتهم ومستوياتها. أما فقراء المهاجرين فخياراتهم معدومة.
تنعكس آثار التراتبية الهرمية بوضوح في الأجورالمتدنية التي يتقاضاها العمال وفي إجحاف ظروف عملهم. وإلى بعض هذا، تشير الكاتبة البحرينية هنا بوحجي إلى إن ما تتعرض له العاملة المنزلية يقترب من ممارسات الاستعباد من قبيل "العمل لساعات عمل طويلة، والحرمان من الإجازة الأسبوعية والسنوية، بالإضافة إلى ممارسات العنف اللفظي والجسدي الذي يصل في بعض الاحيان إلى مراحل الاغتصاب والتحكم التام في مصائر هذه العمالة، باحتجاز الوثائق الشخصية وجواز السفر". وتسهم الأعراف السائدة، وهشاشة وضعها الاجتماعي، بالإضافة إلى تخلف الأطر القانونية وكثرة الثغرات فيها في إبقاء العاملة المنزلية عرضة لمختلف أشكال إنتهاك إنسانيتها. ونظراً لتخلف الأطر القانونية وضعف مؤسسات المجتمع المدني المعنية بحقوق الإنسان، لا تجد بعض ضحايا الإستعباد في المنازل مخرجاً سوى الهروب من المنازل التي يعملن فيها. وحينها يلتحقن بعشرات الألاف من المهاجرين "غير الشرعيين" (أو من يسموْن محلياً بالعمالة السائبة أو "فري فيزا") الذين يتعرضون لإبتزاز عناصر الأمن ولملاحقتهم وفي الوقت نفسه لإستغلال عصابات الإتجار بالبشر.
سوق الظل
طبقاً لتقديرات تضمنها "تقرير لجنة التحقيق البرلمانية حول العمالة السائبة" (2017) بلغت أعداد هذه الاخيرة حوالي 60 ألف شخص (وهو تقدير متحفظ). وحسب دراسة نشرتها غرفة تجارة البحرين (2015) تتشكل العمالة السائبة من مصادر عدة، بما فيها أن يهرب العامل من كفيله بسبب عدم حصوله على الأجر المتفق عليه أو بسبب ما يتعرض له من إساءات. وقد تأتي نتيجة لدخول العامل بتأشيرة سياحية ولكنه يبدأ في العمل دون الحصول على ترخيص بذلك. إلا إن السبب الأكثر شيوعاً لوجود "العمالة السائبة" حسب تلك الدراسة هو جرائم الإحتيال التي تقوم بها عصابات تحت غطاء مكاتب توريد العمال وبالتعاون مع مؤسسات ذات سجلات وهمية لتوفير التأشيرات اللازمة. وعند وصول العامل أو العاملة إلى البلاد، يتمّ استبدال تأشيرة العمل مع شركة أخرى تقوم بتوظيفه بشكل غير قانوني، أو يتمّ إطلاق سراح العامل ليقوم بكسب رزقه في "سوق الظل".
يتخلص العامل في السوق الموازية من إستغلال كفيله له ولكنه في أغلب الحالات يصبح تحت رحمة العصابة التي تسيطر على منطقة السوق التي يعمل فيها. كما يبقى مهدداً بخطر القبض عليه وتسفيره ما لم يدفع ما يكفي لحمايته. لا تشير دراسة غرفة التجارة إلى ما يتردد، دون توثيق، عن قيام وزارة العمل سابقاً وهيئة تنظيم العمل حالياً بتسهيل حصول أفراد من العائلة الحاكمة مباشرة أو عبر شركاء على تصاريح جلب آلاف من العمال الأجانب ثم "بيعهم" بعد وصولهم إلى البلاد.
المستفيدون من "سوق الظل" يرون أن استمرار "العمالة السائبة" واتساعها مفيدان للاقتصاد البحريني. فوجود عشرات الألوف منهم (60 ألفاً في بلد تعداد سكانه أقل من مليون ونصف نسمة) يسهم في لجم ارتفاع الأجور وربما يؤدي إلى خفضها، كما يعطي سوق العمل مرونة عبر توفير جيش احتياطي من اليد العاملة لمواجهة أي طلب طارئ أو مؤقت.
تُسبب "العمالة السائبة" وإتساع سوق الظل مصاعب لعددٍ من أصحاب الأعمال الملتزمين بالقوانين السارية التي تفرض عليهم إشتراطات محددة وخاصة فيما يتعلق بظروف العمل وشروط السلامة. ولكن المستفيدين يرون أن إستمرار سوق الظل وإتساعها مفيدان للاقتصاد البحريني. فوجود عشرات الألوف من "العمالة السائبة" يُسهم في لجم ارتفاع الأجور وربما يؤدي إلى تخفيضها، كما يعطي سوق العمل مرونة عبر توفير جيش إحتياطي من اليد العاملة لمواجهة أي طلب طارئ أو مؤقت.
لوجود "العمالة السائبة"، بمختلف تسمياتها، تداعيات أخرى إجتماعية وثقافية وأمنية وسياسية في بلدٍ ينعدم فيه التخطيط وتتضارب فيه الإجراءات. فمن جهة تعتبرها السلطة فئة خارجة عن القانون، كما لا تعترف رسمياً بوجود سوق الظل. ومع ذلك لا تقوم السلطة تلك بمسئولياتها خشية إغضاب المستفيدين من هذا السوق. ومن بين أولئك المستفيدين أركان السلطة نفسها. ولهذا تتفاقم المشاكل الناجمة عن مفارقة إن بلداً صغيراً كالبحرين فيه أكثر من 60 ألفاً من المهاجرين الفقراء المحرومين من الحقوق يعيشون خارج القانون ولكن في كنف السلطة وفي خدمتها.