يخرج السوريون من دُغلِ الصمت، من فمِ الحرب الذي سكت قليلاً، بقاماتٍ تبحث عن تصحيحٍ جديدٍ لقانون الجاذبية. يغريهم العيد في دمشق. يصلون الى شارع مدحت باشا المقبّب وهم يعلمون بأن اسمه القديم هو "السوق الطويل". تستريح عيونهم فوق أوراقٍ تحمل أوصافاً بالأسعار، ولكنهم لا يتمهّلون في سيرهم أمامها ولا يرسمون ابتساماتٍ طريّة في الهواء المعلّب، كأنهم يتجاهلون تاريخ انتهاءِ صلاحيّة ابتساماتهم المقامرة، وكأنهم أيضاً يتودّدون لكلِّ ما هو غيرُ مرئيٍّ، صور أحفادهم حديثي الولادة في ألمانيا وهي تملأ هواتفهم المحمولة، وحوالة المئة دولار يقبضون على عنقها في أحد مكاتب "ويسترن يونيون" المنتشرة كنوافذٍ مفتوحة على جيوب الغائبين وعلى عناوين إقاماتهم الجديدة.
العيد نافذة على دمشق
هذا العام لم تأسر قذائف الهاون خطوات الناس وتقيّدها إلى شرفاتِ منازلهم، خرجوا يبحثون عن فسحةٍ إضافيّة من الحياة قبل العيد، تقودهم أصوات الباعة الملوّنة إلى محلاتٍ جانبيّة في ساحة الحريقة أو باب الجابية، وتلمع بشرتهم بحياءٍ تحت أضواء شوارع الحمرا والشعلان. يظهرون كما لو أنّهم مجرّد عابرين، فيما ينشغل الإعلام الرسميّ بترصّد ارتفاع أسعار الملابس، وعرض وصفاتٍ مبتكرة لإعداد المعمول الدمشقيّ، ويواصل هوايةَ التحديق بمرتادي مطاعم دمشق القديمة، وسؤالهم: "شو رأيكم بالعيد؟".
لكن العيد ليس غلاءً يُفحم الجيوب فحسب. هو تركةُ الغائبين أيضاً، من النازحين والمهاجرين والميّتين، حيث الخواء الفسيح الذي تركوه ممدّداً حول موائد أهلهم، وهو المعتقلون في سجون السلطة، من مات منهم ومن بقي حيّاً يلعب النرد كل صباح.
العيد بهذا المعنى هو حزام الدمار الذي يلتف حول رقبة العاصمة، بعدما هجعت قذائف المدفعيّة عن الهطول فوقها، وتخلّصت السماء من كلّ براميل البارود المخبّأة في طبقاتها السبع، وصار معظم محيط العاصمة اسمنتاً متصدّعاً يكسوه صمتٌ غير مألوف، فلا آذان يرتفع من مساجده المهجورة، ولا بشر يقيمون صلاة العيد هناك.
مظهر العيد الدمشقيّ هذا العام اقتصر بصورةٍ أساسيّة على المدينة فقط، وتراوحت هواجسه بين الامتعاض من ارتفاع أسعار الثياب والتشكك بنوع السمن الحيوانيّ المستخدم في صناعة الحلويات التي اختفى العديد منها عن موائد الدمشقيين بعدما لحق بركب الغلاء الفاحش.
ثمّة ظلال أشخاصٍ رحلوا، وذكرياتٌ تمارس فضيلة العيد بمفردها، تقترب من الأضاحي التي كانت تُنحر في دوما قبل العيد بيوم، ومن كباب الجمل الذي كانت تبيعه محلات الشواء الكثيرة، ثم تستلقي إلى جوار رائحة الحلويات المعدّة داخل أفرانٍ منزلية مؤلفة من طبقتين حين كانت تتسلّق بكسلٍ هواء ريف دمشق في ليلة "وقفة عرفة"، وتزيّن مخيلة الأطفال بالدهشة، وهم ينتظرون الأراجيح تتسكّع في ساحات بلداتهم وتقيم فيها أربعة أيّام.
ذاك الريف ببلداته، وقد صار أغلبها الآن مجرّد أطلالٍ تشجّر العاصمة، كان بمعظمه ريفاً حِرَفيّاً وزراعيّاً. هناك ازدهرت ورشات صناعة الأثاث المنزلي، وورشات الخياطة والتطريز، وكان قاطنوه يحرّكون السوق التجاري في باب الجابية والحريقة ومدحت باشا في عيديّ الفطر والأضحى. غير أن مظهر العيد الدمشقيّ هذا العام اقتصر بصورةٍ أساسيّة على المدينة فقط، وتراوحت هواجسه المعلنة بين الامتعاض من ارتفاع أسعار الثياب في محلات الحمرا، والتشكك بنوع السمن الحيوانيّ المستخدم في صناعة حلويات "زنود الست" و"البقلاوة"، والعديد منها اختفى عن موائد الدمشقيين خلال العيد، بعدما لحق بركب الغلاء الفاحش.
لكن وعلى الرغم من أنّ محلات البالة (الألبسة المستعملة)، أو التي تبيع ملابساً محلّية الصنع بجودةٍ متدنّية، قد أمّنت تكيّفاً معقولاً مع المظهر الاجتماعيّ للعيد، غير أن تبعات الحرب ارتدت ثيابها هي الأخرى قبل أن يرتدي الناس ثياب العيد، لتذكّرهم بعدد الميّتين والمفقودين واللاجئين والمهاجرين والمعتقلين من ذويّهم، وهنا يُضاف معنى اجتماعي جديد للعيد حيث استحضار صورة الغائب، والتحسّر على دلالات الغياب كفعلٍ اجتماعي مارسته الحرب بقسوة على جميع زوّارها.
نافذة على الساحل والجنوب
قبل خراب حلب وابتلاء أحيائها الشرقية بآفة الدمار، كان عيد الأضحى نافذةً يطلّ من خلالها الحلبيّون الميسورون على البحر، يصرفون فيه عطلة العيد وهم يتلذّذون بمذاقه، ويختبرون خفّته المتبدّلة عليهم عاماً بعد عام، يستأجرون شاليهات متوسطة الجودة في رأس البسيط، أو في محيط الكورنيش الغربي، فيزداد الطلب على السكن السياحي وترتفع معه بدلات الإيجار.
حلب: ليل يحيل إلى ليل
03-07-2017
غير أنّ عدد المصطافين على الساحل السوري هذا العام لم يتجاوز النسبة المعهودة لهذا النوع من السياحة الداخليّة خلال سنوات الحرب السابقة، على الرغم من استعادة السلطة سيطرتها على مفاصلٍ أساسية على طول الطريق الدوليّة التي تربط اللاذقيّة وطرطوس مع باقي المحافظات، والتي كانت فيما سبق نقاطاً ساخنة للتنازع المستمر.. بين الفصائل الإسلامية فيما بينها تارةً، ومع الجيش النظامي تارةً أخرى.
واللافت أيضاً تراجع نموذج السياحة البحريّة المناسبة لمتوسطي الدخل، ومعه تراجعت أيضاً خدمات السياحة الشعبية على حساب تمدد نفوذ نموذج السياحة الفارهة من فئة الخمس نجوم، وبذلك تتبدل طبيعة العلاقة الإنفاقيّة بين العيد باعتباره الإجازة السنويّة الأطول لدى السوريين وارتياد البحر باعتباره سوقاً إنفاقياً، لكنه بات يبيع أو يؤجر سلعهُ الخدميّة بأسعارٍ تفوق بكثير إمكانية الإنفاق المحتملة.
يلحظ تراجع نموذج السياحة البحريّة المناسبة لمتوسطي الدخل على حساب تمدد نموذج السياحة الفارهة من فئة الخمس نجوم.. وبذلك تتبدل طبيعة العلاقة الإنفاقيّة بين العيد وارتياد البحر الذي بات يبيع أو يؤجر سلعه الخدميّة بأسعارٍ تفوق بكثير إمكانية الإنفاق المحتملة.
وفي جنوب سوريا لم يستطع العيد تجاوز عقدة "الأربعاء الأسود" الذي عاشه الدروز بعد عملية تفجيرٍ مزدوجة نفذها انتحاريين من "داعش" داخل سوق المدينة، إضافةً إلى اشتباكاتٍ عنيفة استرسلت على أطراف القرى الشرقية للمحافظة، بين المليشيات المحليّة المسلحّة وتنظيم داعش. ولعل عيد الأضحى الأخير هو العيد الأكثر ألماً لدى طائفة مرتبطة بعلاقات نسب ومصاهرة متداخلة جداً، بحيث يمكن بسهولة تعميم الحزن لديهم بمعناه الاجتماعي، واستنتاج أسباب عدم إيلائهم لعيد الأضحى الهالة الاحتفاليّة التي اعتادوا إسباغها عليه كلّ عام، وهم على أي حال يعيشون في أقل المناطق تضرراً من الحرب، ويوالون بمعظمهم النظام القائم، ولديهم واحد من أكثر الأسواق الاستهلاكية نشاطاً وغلاءً في سوريا مقارنةً بعدد المستهلكين.
تتبدّل إذاً صورة عيد الأضحى في سوريا تبعاً لتبدّل المعطى الاجتماعي، وهو الطرف المتحوّل في هذه العلاقة، إنْ اعتبرنا أن المعطى الدينيّ هو الثابت فيها. وبهذا يصحُّ أن يكون العيد أداةَ قياس لمستوى الإنفاق العام، وقراءة لمستوى الاستقرار الاجتماعي، وطبيعة علاقة المجتمع بالسلطة القائمة. وحدهم اللاجئون السوريون في مخيمات دول الجوار من يستطيع أن يقدم ثباتاً نسبياً في الصفقة السنويّة لقدوم العيد، إذ لا يزالون يستقبلونه داخل خيامهم التي لم تتبدل، ولم تتبدّل معها ملامح الخذلان الذي أقام بينهم، منذ صار وطنهم خيمة، وصار عيدهم خيمةً أيضاً.