أثبت مؤتمر هلسنكي حقائق سياسية جديدة تحكم مسار الاحداث في الكون، من بينها:
1- أن العالم لم يعد برأس واحد (اميركا) يقرر فيكون.. لقد سقط الاتحاد السوفياتي منذ ثلاثين سنة.. وسقط معه معسكره الاشتراكي، وذابت أوروبا الغربية كما الشرقية في جلباب الهيمنة الاميركية.. ولكن إلى حين!
2- أن الاتحاد السوفياتي الذي إنهار وتمزقت وحدته وانفضت عنه الدول التي كان قد استولدها ورعاها لتكون "المعسكر الاشتراكي"، قد وجد من يعيد ترميمه بعنوانه القديم، "روسيا"، ولو من دون القيصر والدول التابعة والتي استتبعتها القوة.
3- ثم كان أن وصل إلى السلطة في موسكو الرجل الذي اعد نفسه، عبر مسيرته الطويلة في كا. جي. بي والعمل السري، فلاديمير بوتين، الذي جاء معه بنائبه الذي تبادل معه رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة مرات عديدة.. حتى اضجرته اللعبة فقدم نفسه للعالم كقيصر جديد لإمبراطورية روسيا المقدسة.
4- أعد بوتين نفسه بشكل ممتاز، فهو لاعب شطرنج، ولاعب كارتيه، ورياضي متفوق، بذاكرة حديدية لا تخطئ، وبطموح مفتوح، وبوعي سياسي مميز يقرأ به خريطة العالم والتوازنات بين اقطابه وقواه المختلفة.
5- وكان من حظ بوتين أن جاء إلى سدة الرئاسة في واشنطن مضارب في البورصة، لا يعرف من التاريخ الا يومه، مغرور بجهله، لا يحترم حلفاءه الاوروبيين، و"يحتقر" الملوك والرؤساء والامراء العرب، ولا يرى منهم الا ثرواتهم الخرافية التي جاءتهم بغير جهد، وهو يرى انه الأولى بها طالما انه هو من يحميهم.. لاسيما بعد اندفاع بعضهم إلى مغامرات عسكرية بائسة (حرب السعودية والامارات ضد اليمن)، أو مغامرات سياسية طائشة (أحلام قطر في التوسع وشراء مناطق نفوذ في دول عربية بعيدة، أو في افريقيا، مع السعي لشراء موقع تأثير في واشنطن بسلاح الغاز و"الصداقة" مع العدو الاسرائيلي، والتدخل الفظ في سوريا ومناكفة السعودية في كل مواقع نفوذها..)
6- يوما بعد يوم، صارت موسكو "عاصمة عربية" ثم عادت عاصمة دولية بارزة بشهادة المونديال الذي نجحت في الإعداد له ورعايته واستضافة وفوده الرسمية، والترحيب باللاعبين الذين جاءوا من أربع رياح الارض، وإدارة الجماهير الهائلة التي تدفقت من الشرق والشمال والغرب والجنوب، وحفظ الأمن بطريقة حضارية ومن دون فظاظة أو تعاظم امبراطوري.. حتى انها تقبلت خسارة فريقها وخروجه من ساحة المبارزة بكبر، حماية لنجاح المونديال وسمعة روسيا كمضيف ومنظم وراعٍ لهذا الحدث الاستثنائي الذي يشهده العالم مرة كل اربع سنوات.
7- لا يمر يوم الا وفي ضيافة القيصر ضيوف من مختلف انحاء العالم: عرب الأميركان من السعودية إلى قطر ومن الامارات إلى مصر، ومن سوريا (التي تَشارَك في تحريرها من "داعش" وحماتها، وبينهم قطر والسعودية)، إلى الجزائر... فلأهل الغاز مكان، ولأهل البترول مكان، وللدول الفقيرة الباحثة عن قروض ميسرة مكان.
8- كذلك فإن لأوروبا الجديدة التي يهينها ترامب كل يوم ويحقِّر تاريخها ويشتم قادتها حق الرعاية الكاملة في موسكو، فهي تقاربها حتى تكاد تصادقها، وان لم تصل إلى حد محالفتها.
إن برنامج "القيصر" حافل يومياً، لا يكاد يخرج ضيف من الكرملين حتى يدخل ضيوف آخرون، كثير منهم من الشرق، وكثير من الغرب، معظم العرب والعدو الاسرائيلي الذي لا يكاد رئيس حكومته نتنياهو يغادر موسكو حتى يعود اليها.. وها هو يلتقي الرئيس الاميركي دونالد ترامب الذي يختلط فيه المهرج بالمضارب في البورصة بقوال الزجل، على الطريقة اللبنانية، الذي يشغل خصومه وحلفاءه بتغريداته اليومية التي "ينظمها" فجراً ويطلقها في ساعات الصباح الأولى فتفرض على الآخرين برنامجه هو وتصدر عنهم ردود فعلهم المستنكرة او الشاجبة او الراضية، فيبتهج بأنه قد غدا فعلاً مركز الكون بشهادة موقعه الالكتروني..
القيصر يواصل تدريبه على الكاراتيه والملاكمة والسباحة، يومياً، ويجد وقتاً لاستعراض قوة بلاده امام ضيوفه الذين يستقبلهم في قصور القياصرة المذهبة في الكرملين. وترامب يواصل رياضته المفضلة بإطلاق الشتائم والنعوت المهينة على حلفائه وبعض موظفي ادارته، فيسهر الخلق جراها.. بينما يذهب هو إلى النوم في احضان زوجته الثالثة أو الرابعة.. أما حرب الابادة التي ترتكبها السعودية ومعها الامارات العظمى في اليمن، فتستمر بلا رادع، ويتواصل تهديم العمران في الدولة ــ الأم للتاريخ الإنساني.. وأما الفوضى السياسية التي تجتاح العراق وتكاد تدمر ما تبقى من دولته ووحدة شعبه فلا علاج لها ولا مخرج منها الا بوعي هذا الشعب العظيم لخطورة أوضاعه وإجتهاده في استعادة وحدته الوطنية والتغلب على الطائفية والمذهبية والعنصرية، لعودة أرض الرافدين إلى وحدتها ودورها الذي لا بديل منه، عربيا.
..في انتظار نهاية الحرب ــ الدهر التي دمرت سوريا وخربت عمرانها، والتي تشهد الآن، حسب التقديرات العربية والدولية، جولاتها الأخيرة، وان كان المستقبل ما زال رهناً بالتفاف السوريين حول دولتهم والاجتهاد في اعادة بنائها. ومن المؤشرات المطمئنة أن بوتين وترامب قد توافقا، على ما يبدو، على "عودة الدولة" اليها.. بعد طمأنة اسرائيل على مستقبلها. فقط لو كانت مصر موجودة اذاً لاختلف الحال وأمكن استيلاد الاحلام والرهان على غدٍ أفضل.