اليمن: رحلة التيه والدوران الأعمى

السياسة هنا كنشرة الطقس تماماً، حالة يومية تتجدد وتتبدل وفقاً لمتغيرات المشهد ومناخ الكوكب السياسي الدولي الحاكم لأبراجها الصغيرة في بلدان الصراع.
2018-07-13

عبد الرزاق الحطامي

كاتب من اليمن


شارك
حليم كربيبان - تونس

تتحول السياسة إلى حالة "تثاقفية" تعمل على إزاحة كل ما هو ثقافي أصلاً، وتخلق وعياً ضبابياً، تتكرس فيه الأسماء والأحداث القادمة من صعيد سياسي بحت، يبسط تأثيراته على الوعي الجمعي وكل الاهتمامات والتفاصيل الصغيرة في حياة اليمني.

تكون النتائج كارثية في المجتمعات التي تشتغل على السياسة، وتتحكم فيها السياسة بكل مفاصل الحياة، إذ يصبح الوعي حالة طارئة ترتبط بمتغيرات الدوامة السياسية التي لا ثابت فيها، وهي في بلدنا دوران لا يتوقف.. حول نقطة الصفر.

ينجم عن هذا حياة هشة، ورحلة تيه تشبه تماماً جَمل المعصرة (أو حمارها في أماكن أخرى) الذي يدور بعينين مغمضتين حول طاحونة زيت السمسم / الجلجلان. وإلى هذه الطاحونة والدوران الأعمى، يغدو العقل والاقتصاد والفعل الأدبي والثقافي والفني والصحافي.. خادماً مخلصاً في بلاط السياسة التي تسخر كل شيء لها.

تمثل مقائل القات، والباصات والمراكب العامة، وكذلك ساحة الجامعة والكافتيريا ومنبر المسجد ومنتدى الفكر ومقر الصحيفة أمكنة سياسية بامتياز. كما تتحكم السياسة بتفرعاتها الحزبية ومُتاحها الديمقراطي بكل ما يتعلق بالحياة الاجتماعية، من علاقات ومفاهيم وقناعات. والحق أن اليمن أكثر بلد يتحدث عن السياسة وأكثر بلد فاشل سياسياً.

مع مطلع تسعينيات القرن الماضي، دخلت اليمن - بفعل متغيرات سياسية استلزمتها وحدة 22 أيار/ مايو 1990 الاندماجية بين شطريها - بوابة الديمقراطية والتعددية السياسية. وكبلد نامٍ، حديث عهد بهذه التجربة، ارتدت اليمن ثوب الديمقراطية الفضفاض بحماس أفضى إلى قدر كبير من التشكيلات الحزبية والصحف متعددة الاتجاهات. ثم بدأ الثوب الفضفاض يتقلص على الجسد النحيل لدرجة ظهور سوءة بلد قادته ديمقراطيته الطارئة إلى مهالك شتى، ما زال يدفع ثمنها دماً.

ومع ما أتاحته التجربة الديمقراطية كتحوّل سياسي، من الحرية الى تعدّد الرأي، ظلت هذه المساحة حصريّة على التعددية السياسية، فيما تلاشت في الحالة اليمنية فرص التعدّد في الفعل الثقافي، لتشهد البلاد مرحلة من الانكماش الثقافي على مختلف مستوياته الإبداعية. وظل الإعلام السياسي - مجسداً بالصحف الرسمية والأهلية والمعارِضة - هو المستفرد بالمشهد كله، حتى اجتاح الحوثيون صنعاء في أيلول/ سبتمبر 2014 وأغلقوا المشهد على مصراعيه.

على ضوء ما سبق.. إن كان ثمة ضوء، تمّ تغييب الوعي الثقافي بقصد سياسي، وتمّ تسييس الثقافة، كما عملت السياسة على جذب المثقف اليمني إلى بلاطها، فاحترقت أجنحة الفراشات المحلقة في نار الإرتهانات الضيقة وزواج المتعة بين المثقف كحالة إبداعية، والسلطة كمفهوم نقيض لها.

وقد كشفت الحرب الحالية في اليمن عن سوءة أخرى، تتمثل في تكاهل الحالة السياسية وعجز السياسيين عن فعل شئ من أجل بلدهم، في وقت تحضر فيه السياسة كعامل مهم في حسم الحرب، أو على الأقل في إدارة مجرياتها وتوازناتها بديناميات تنتصر لقضية الدولة وشرعية سلطتها الدستورية المعترف بها دولياً.. ما يعني أن "ممثلي الدولة" الذين يتموضعون في أعلى مراكز القرار والفعل السياسي يمارسون السياسة كحديث وليس كحدث، كحالة تثاقف لا أكثر. وهي لم تتحول بعد، في أياديهم الناعمة، إلى أداء يُنجز تأثيراً ملموساً.

السياسة كنشرة الطقس تماماً، حالة يومية، تتجدد وتتبدل وفقاً لمتغيرات المشهد ومناخ الكوكب السياسي الدولي الحاكم لأبراجها الصغيرة في بلدان الصراع. وفي ظل تشبث كلٌ من طرفي الصراع في اليمن بخيارات لا تتغير وتفتقر الى المرونة، التي هي ثيمة الأداء السياسي، تصبح عملية التعويل على السياسة في حسم الحرب حلماً يصعب تجسيده، كما أن التعويل على الفعل العسكري لا يخرج عن هذا السياق، كون الحرب في اليمن إحدى الأدوات الخادمة في بلاط السياسة، والسياسة ببعدها الدولي هي من يتحكم بحرب الوكلاء المخلصين في اليمن.

يبقى المثقف الذي ما زال خارج بلاط القصر، ولايريد أن يدخل. المثقف بمعنى المثقف، الذي يمثل له الوطن قيمة إنسانية عليا يستحيل تنازله عنها حتى وهو يحلم بثمن كوب من الشاي الأحمر على رصيف بلد، تطحنه الحرب ويدور حول ذاته كجمل المعصرة.
ما هو دوره وأين هو؟

مقالات من اليمن

للكاتب نفسه

تزوير وتكفير الآثار اليمنية!

في منتصف آذار/ مارس الماضي 2021، وبالتزامن مع الذكرى السنوية السابعة لـ"عاصفة الحزم"، دعا محافظ ذمار إلى فتح باب المنافسة أمام المصممين الفنيين والنحاتين لتشييد نصب تذكاري وسط المدينة للملك...