من البحرين التي أبعدها حاكمها، بعدما صير نفسه ملكا بلباس عسكري كما الضباط البريطانيين، وتجرأ على الخروج على ارادة الامة فأوفد "بعثة" إلى فلسطين بغرض ديني مزور، هو زيارة المسجد الاقصى، وبرئاسة رجل دين شيعي لتأجيج نار الفتنة في تلك الجزيرة الصغيرة التي تتسع الآن لبعض الاسطول الاميركي السادس اضافة إلى القاعدة العسكرية البريطانية.. والى "الرغبة" لتوطيد العلاقات مع العدو الاسرائيلي.
من البحرين التي سبقت جيرانها الى العلم، والتي نشأ فيها جيل من المناضلين القوميين اساسا والماركسيين من بعدهم، سرعان ما ارتد عليهم الحكم بعد وفاة الامير ــ الوالد، فسجن طلائعهم من شباب التغيير لمدد تراوحت بين عشر سنوات وخمس عشرة سنة، فلما خرجوا لم يعرفهم اهلهم ولم يعرفوا هم جزيرتهم الصغيرة.
من الجزيرة التي كانت واحدة بشعب واحد، انتقل الحكم الذي كان متواضعاً بحجم الجزيرة إلى أمير مغرور نصب نفسه ملكاً، مع الارتهان للسعودية.. وهو اتبع الخطأ بالخطيئة اذ عامل الشعب الواحد على انه شعبان، على قاعدة الانتماء المذهبي.
من البحرين جاءنا، بعد غياب، أحد أبرز المفكرين العرب، الدكتور علي فخرو، بدعوة من "مركز دراسات الوحدة العربية"، ليحاضر في بيروت حول "العرب بين تحديات الحاضر وآفاق المستقبل".
لم تكن القاعة عظيمة الاتساع لكن حشداً من المثقفين والمعنيين بالشأن العام، مع نخبة من اصدقاء الدكتور على فخرو ومتابعيه، قدموا للتلاقي معه والاستماع اليه يتحدث في موضوع سقط من الذاكرة وغرق في مستنقع الاقليميات المصفحة الآن بالطائفية.
***
تولت تقديم المحاضر ــ المحرض مديرة مركز دراسات الوحدة العربية لونا ابو سويرح القادمة لمحاولة انقاذ هذه المؤسسة العريقة التي لعبت دوراً مهما في حماية منتجات الفكر القومي وتنشيط دور الباحثين والكتّاب والمفكرين في حماية الذات من الذوبان في الآخرين.
تفجر الدكتور فخرو بالكلام كمن يصيح بالغافلين وينبه الذين انحرف بهم المسار او انحرفوا به عن غايته: كانت كلماته تنضح وجعاً وشيئاً من الخيبة والخوف من أن تسقط الدعوة مع الداعية.
بدأ حديثه بالخلاصات الموجعة: انه عصر التراجع عن ثوابت الامة جميعاً... لقد تخلينا عن دعوة الوحدة وانصرفنا إلى تجزئة المجزأ. لقد خسرنا حتى المؤسسات الرمزية التي كانت تقول بوحدة الأمة: جامعة الدول العربية، وهي على وهنها كان يمكنها أن تقول "لا" للخطايا. وهكذا فقدت حتى دورها الرمزي فعجزت عن رفض القرار المصنع ومدفوع الثمن بطرد سوريا منها، وترك مقعدها للفراغ. أكمل الدكتور فخرو بنبرة وجع، وسط صمت الجمهور الذي انحنت فيه الرؤوس تهيبا فقال:
انه عصر التراجع عن كل الثوابت القومية، من وحدة الامة إلى تجزئة المجزأ، والتراجع في الدور الاقليمي. حتى المجالس ما دون الوحدة تراجعت (الاتحاد المغاربي مثلا).. ومجلس التعاون الخليجي مهدد بالانقسام على نفسه. وقد سقطت محاولة بناء الاقتصاد الاشتراكي وحلت الخصخصة محل الدعوة إلى دولة الرعاية الاجتماعية.
زاد الصمت كثافة بينما ارتفعت نبرة الطبيب الذي كان (وما زال) داعية للعروبة واحترام كرامة الانسان: لقد انتقلنا من الخلافات السياسية، كيانية او قومية، إلى تحريك الخلاف بين الاديان، بل بين المذاهب الاسلامية ذاتها.. وسقط الالتزام القومي تجاه القضية الفلسطينية ووئدت ثورة الربيع العربي.
في لحظة تفجر صوت الدكتور علي فخرو ليقول محذراَ: أن الجهاد الاسلامي قد تحول إلى مأساة وادخل هذه الامة في محنة، لقد ضلل وتسبب في انحراف عشرات بل مئات الالوف من الشباب العربي، لقد أدخلهم في نوبة من الجنون الاجرامي.
أما حين انتقل إلى الحديث عن الظاهرة الخليجية فقد طغى الالم على صوت الدكتور فخرو وهو يقول: أن ابتعاد اقطار الخليج بثروتها عن سائر جهات الوطن العربي، قد أسقط بشكل مذهل امكانات التنمية في مختلف اقطار الامة. كان يمكن لهذه الثروات الخرافية أن تكون اهم الرافعات للنهوض العربي. كان يكفي أن تستثمر هذه الثروات في الوطن العربي.. لكن بعض اقطار الخليج استخدمت بعض ثروتها في تدمير بعض الدول العربية.. وهذا بين اسباب القيام بحروب بالوكالة.
ثم دق الدكتور فخرو جرس الانذار قائلاً: إن عملية تضليل واسعة النطاق تجري لتصوير إيران اشد خطراً على العرب من الكيان الصهيوني. ونبه: أن هوية الخليج مهددة. أن الخليج مهدد في مستقبله. فالتعليم يخصص فيتراجع، والامية تسود، ونسبتها في العراق الآن 30 في المئة. أن الاصغر يطمح إلى قيادة الامة. ان بعض اقطار الخليج قد مولت اكثر من الف عنصر من "النصرة"..
ثم عاد الدكتور الآتي من البحرين إلى التنبيه: أن هناك خطراً حقيقيا على مجلس التعاون الخليجي.
كان الجمهور صامتاً، والحزن يرف على القاعة: أن الاسباب الداخلية مرتبطة مع الاسباب الخارجية، فالاستبداد والجهل والكيانية.. كل ذلك يتكامل مع التآمر الاميركي ــ الاسرائيلي وبعض اوروبا.
وختم الدكتور علي فخرو، ذو التاريخ النضالي الحافل بالتضحيات والسعي في ركب أهل التنوير لبث الوعي واللجوء الى وجدان الامة فقال: لا بد من حركة مدنية واسعة ذات منهاج معروف ومحدد. لا بد من مقاومة الصهيونية ومشروعها الاسرائيلي بمقاطعة المطبِّعين، ومقاومة الشركات المتعاملة مع اسرائيل.. كذلك لا بد من مراجعة الفقه الاسلامي وعلوم الاحاديث النبوية.. لا بد من مدرسة فقهية جديدة..
وختم الدكتور بصرخة موجعة: لا بد من التعامل مع العرب ككتلة تاريخية واحدة، ولا بد من مراجعة فكرية كاملة.. لا بد من التجديد الحضاري ولو استغرق سنوات.
ظل الجمهور صامتا، مأخوذا بخطورة الكلام لفترة، قبل أن تنفجر القاعة بالتصفيق وتبدأ الاسئلة العتيقة التي يعرف اصحابها الاجوبة، ولكنهم يتجاهلونها.
كان الجمهور بغالبيته العظمى ممن تجاوزوا سن الاربعين.. وكان بعض الجمهور من محترفي حضور الندوات والمحاضرات، لإغناء مساجلاتهم خلال السهرات. طبعاً كانت هناك قلة من الشباب، معظمهم ممن كان لأهلهم دور في بعض الاحزاب القومية والتقدمية.
.. وكان الدكتور علي فخرو الذي تجاوز الثمانين من عمره اكثرنا شباباً. إن الثبات على المبدأ، وتأكيد المؤكد في الهوية، واعتبار النضال سجلاً مفتوحاً لتاريخ جديد، كل ذلك يمنع الشيخوخة ويبقي الروح متأججة، ويزيد المؤمن بعقيدته اصراراً على تحدي الاستحالة بالإرادة والاعتماد على نبض الامة التي شهدت نكسات عديدة ولكنها كانت تنهض بعد كل نكسة أعظم ايماناً بأرضها وتاريخها وحقها في صنع غدها الافضل.