الزفزافي الخارج من رواية مأساوية

بورتريه لشاب بسيط، عاطل عن العمل، قاد أكبر حركة احتجاجية في عهد الملك محمد السادس، مصدِّراً الأزمة إلى مربع الحكم، معيداً كل الأسئلة الكبرى إلى الواجهة، الأسئلة القاسية المعلَّقة..
2018-05-03

عماد استيتو

كاتب وإعلامي من المغرب


شارك

بمثول ناصر الزفزافي، قائد الحركة الاحتجاجية في ريف المغرب المعتقل هو ورفاقه منذ حوالي السنة، بداية الأسبوع الحالي أمام الغرفة السابعة لمحكمة الاستئناف بمدينة الدار البيضاء تكون "محاكمة القرن" في المغرب قد دخلت فصولها الأخيرة. التوصيف بـ"محاكمة القرن" ليس فيه مبالغة ولا استجلاباً للإثارة، بل لأن هذه المحاكمة أريد لها ــ عن وعي أو غير وعي ــ أن تحمل كل مقومات الأسطرة، أولاً للتهم الثقيلة التي يُحاكم بها المئات ممن اعتبرتهم نتائج التحقيقات متورطين في الإعداد لمؤامرة تستهدف زعزعة استقرار الدولة، و ثانياً لما تخللت هذه المحاكمات الماراتونية التي تستمر لأربعة أيام أسبوعياً، من مواقف ولحظات جمعت بين الدراما والهزل والتراجيديا. وأخيرا للطبيعة الملحمية للشخوص الماثلين أمام هذه المحكمة، الذين حولوا استنطاقهم إلى محاكمة شاملة لعيوب الدولة ببناء محاجج متماسك ومرتب، غير آبهين بالمصير الذي أصبح تحصيلا حاصلا، والحكم الذي يقول معظمهم أنه جاهز.. شخوص من طينة خاصة وفريدة وكأنهم خارجون من رواية.

وفي مقدمة هذه الشخوص المأساوية، ناصر الزفزافي، الذي وجد نفسه فجأة مسؤولاً عن هذه المؤامرة الكبيرة، مجرماً في حق الوطن مع سبق الإصرار والترصد، بل متهماً بمحاولة "تحويل المغرب إلى سوريا جديدة". قبل أن يساق إلى السجن باسم هذه المؤامرة، وجد ناصر أيضاً نفسه قائداً بالصدفة وربما بالخطأ، بطلاً جماهيرياً رغماً عنه، تلتف حوله الجموع كأنه هدية بعثتها السماء لتخلصهم من كل الآلام والعذاب، ناطقاً رسمياً باسم جرح جماعي غائر وضارب في التاريخ، محامياً دون بزة محامين.

قائد بالصدفة لقضية فعلية

لم يكن ظهور الزفزافي زعيماً مخطَّطاً له لا من قبل التاريخ ولا من الجغرافيا. جاء معاكساً لسيرورة المنطق القائلة بنهاية زمن الأبطال العصاة على التصنيف، الذين يسددون رماحهم يمنة ويسرة. فلم تستعد له لا المعارضة ولا النظام. فكان ما كان. كان أن وُلد الزفزافي كما يعرفه الإعلام وكما يحاكمه اليوم النظام ويكرهه الاستئصاليون الجدد باسم حداثة مبتكرة و"وطنية فاشية"، كما يحار في شأنه المحايدون أصحاب المواقف الرمادية. كان أن قاد هذا الشاب البسيط، العاطل عن العمل، أكبر حركة احتجاجية في عهد الملك محمد السادس، مصدِّراً الأزمة إلى مربع الحكم معيداً كل الأسئلة الكبرى إلى الواجهة، تلك الأسئلة القاسية المعلَّقة التي لم يجب عنها العهد الجديد الذي نقترب من عقده الثاني.

خرج من العدم كأنه خطأ في السيناريو، فكان ناطقا باسم الشارع الذي لا خطوط حمراء له ولا تابوهات، ولا يؤطره تنظيم سياسي أو جماعة عقائدية، ولا يصطبغ بهذا اللون أو ذاك..

لذلك كان لا بد أن يحاط هذا الظهور الجديد للزفزافي أمام المحكمة بهالة من الاهتمام، فهي المرة الأولى التي يمثل فيها إبن الحسيمة أمام هذه المحكمة ليتحدث مطولاً عن كل شيء، هذه المرة غير المرات السابقة التي كان ينتزع فيها الكلمة بالقوة دون إذن من القاضي ليبدأ في الصراخ منتقداً ظروف المعاملة في السجن أو ليلقي محاضرة طويلة بعربية أنيقة يرد فيها على سير هذه المحاكمة أو على ادعاءات ممثل النيابة العامة.

تحدث الزفزافي بتلقائية وتفصيل عن رعب لحظات الاعتقال التي تذكّرنا بالحقبة السوداء القديمة ــ الجديدة. سرد حقيقته بقسوة ودون خجل على الرغم من وقعها الفظيع، بملامح تتوزع بين الابتسامة وبين الحزن المقموع. وطرح كل الأسئلة والاستنتاجات عن الغاية من الإمعان في إذلال وإهانة وتعذيب رجل أعزل مخاطبا ضمير الدولة. تارة يحاكمها ويجلدها وتارة يتمنى لو أنه يفهمها، وفي أحيان أخرى يرجو أن تعود إلى رشدها.

ظهر الرجل على الرغم من كل شيء متماسكا غير مكسور، يتحدث بالصلابة ذاتها وكأنه في جولة جديدة من جولات التواصل المباشر على "اللايف" التي كان يحشد فيها الجماهير للخروج إلى الشارع قبل شهور طويلة. يرتجل كأنه يكتب خطابه منذ أشهر، يحتكر الكلام باسترسال كأنه في حلقة نضالية وليس في محاكمة. يبني مرافعة دفاعه بالحجج والبراهين ذاتها التي كان يستعملها للتأكيد على شرعية مطالب منطقة "الريف" ولدحض اتهامات الانفصال والعمالة للأجنبي، يغرف من القاموس الذي صنع الشخصية الفريدة المركبة التي يمثلها الزفزافي. فحيناً يستعين بالنصوص الدينية وحيناً يستعير من ماركس وفرويد وإسبينوزا، وفي مرات أخرى يعود ليقتبس من أقوال عبد الكريم الخطابي معيداً سردية المظالم التاريخية والعلاقة المتوترة بين الدولة المركزية و"الريف" منذ تفاهمات "إيكس لوبان" (التي جرت في 1955 في هذه المنطقة الفرنسية للاتفاق على ترتيبات انهاء "الحماية الفرنسية". بعد فترة وجيزة، في مطلع 1956، أدانها من مكان اقامته في دمشق عبد الكريم الخطابي الملقب ب"بطل الريف"، باعتبارها مائعة المواقف بل وخيانية، داعياً الشعب المغربي الى مواصلة النضال). وفي الأخير يستند لخطابات رئيس الدولة التي تقدم تشريحاً للوضع القاتم، يتطابق مع سردية الزفزافي وصحبه.

الفرادة

هكذا هو الزفزافي إذاً، شخص لا تُحتمل صراحته. قاسٍ مع الجميع حتى أن جماعة من المعارضين وصفته بالجاهل والصبي لأنه وضع الجميع في سلة واحدة حينما رفع شعار "لا للدكاكين السياسية". فهو ليس مناضلاً كلاسيكياً يمكن موقعته يميناً أو يساراً، لا ينتمي إلى "المؤسسة النضالية" التي خبرتها السلطة واعتادت التعامل معها تفاوضاً بشكل مباشر أو غير مباشر.

وهو حتى ليس معارضاً للسلطة بالمعنى التقليدي للمعارضة الذي يحيل على رفض النظام القائم. فالزفزافي ملَكي يؤمن بشرعية النظام ويحترمه كما يؤكد على ذلك بنفسه، لكنه في الوقت نفسه ليس موالياً، فهو لا يتردد في تذكير هذا النظام بالأخطاء والاختلالات وينبهه إلى خطورة نهجه وسياساته ويسائل رجاله الأقوياء بشجاعة ويستنكر تغولهم وتسلطهم.

تقول رواية الصالونات النخبوية إنه كان يتصرف كما لو كان يملك سلطة، مبالِغاً في تقدير قوته، معتقداً في إستحالة هزيمته، موقناً بانتصاره.. ديكتاتور يقدس حقيقته وحده ويتعالى على البقية. وتزعم بقية الروايات أن خطابه شوفيني طائفي جهوي، وهلم جرا..

معتدل حينما ينبغي وراديكالي كلما اقتضت الضرورة، يستطيع بخطاب بسيط تفهمه كل الطبقات الاجتماعية أن يحرك الدواخل ويستثير العواطف وأن يُقنع. وهذه هي على ما يبدو جريمته الكبيرة، وفي ذلك رأوا خطورته: لأنه خرج من العدم كأنه خطأ في السيناريو، فكان ناطقا باسم الشارع الذي لا خطوط حمراء له ولا طابوهات، ولا يؤطره تنظيم سياسي أو جماعة عقائدية، ولا يصطبغ لا بهذا اللون أو ذاك.

تقول الرواية الرسمية إن الزفزافي استطاع أن يخرج مدينة كاملة عن سلطة الدولة، أنه بايع نفسه زعيماً خارج القانون كأنه مهدي منتظر في زمن القبائل، ثم صار يحرض ضد الدولة المركزية في الرباط، وصار له أتباع ومريدون وحتى حراس. يرفض المؤسسات والوساطات ويطلب حواراً مباشراً بين الشارع والسلطة، وهذا ابتزاز وتمرد لا يمكن أن تقبله الدولة الحديثة. وتقول رواية الصالونات النخبوية إنه كان يتصرف كما لو كان يملك سلطة، مبالِغاً في تقدير قوته، معتقداً في استحالة هزيمته، موقناً بانتصاره.. ديكتاتور يقدس حقيقته وحده ويتعالى على البقية. وتزعم بقية الروايات أن خطابه شوفيني طائفي جهوي، وهلم جرا من هذه القصص التي نسجت عن شخصيته.

لكن ناصر الزفزافي في نهاية المطاف، بغض النظر عن هذه الآراء المتضاربة حوله، ليس إلا هو نفسه. وإذا عُقدت المقارنات بينه وبين زعامات سابقة فإن النتيجة حتماً ستكون لصالحه. فهو من شاهد العالم كيف حاول عدد من سكان مدينته منع اعتقاله قبل أن يروا جزءا من البرازيليين يقاومون اعتقال رئيسهم السابق لولا. وها هو اليوم بظهوره في هذه المحاكمة المأساوية يفاجئنا أكثر فأكثر، يبهرنا حتى وهو يلاعب لاعبين أكثر ضراوة منه، حتى وهو يعرف أن نجاته معجزة.

وناصر شعبوي وشجاع، شعبي وصريح، فصيح وكاريزمي، بسيط ومعقد، عفوي وذكي، عاطفي وواقعي، جريح وصلب، فقير وشريف، مغربي وحر. وهو في الحساب الأخير شجاع ومغامر حتى سجن، دون كيشوت يدافع عن الآخرين ويدفع الثمن نيابة عن البقية، وهو في عيون الكثيرين بطل وزعيم إلى أن يثبت التاريخ العكس.

مقالات من المغرب

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...

الحرّية للصحافيين والسّجن للصحافة

الصّحافيون الثلاثة الأشهر الذين أُفرج عنهم، أُدخلوا السّجن بتهم جنسية، لا بتهم متعلقة بحرّية الصّحافة أو الرأي، كما هو الواقع. وهي استراتيجية مباشِرة إلى درجة تثير السخرية، لكنها أيضاً لئيمة...