يكاد لا يمر أسبوع دون تجدد "الاشتباك" بين الاتحاد العام التونسي للشغل" وحزب "حركة النهضة" الذي يشكل حالياً العمود الفقري للسلطة الحاكمة في تونس. آخر الحوادث وقع مطلع شهر حزيران/يونيو. قبلها، وفي حادثة جرت نهاية شباط/فبراير الفائت، ندد المتظاهرون الذين أتوا بدعوة من المنظمة النقابية برمي النفايات على مقرات الاتحاد، متهمين "حركة النهضة" الإسلامية بالوقوف وراءها. وللمفارقة، حصلت هذه "الهجمات" بعد إضراب "نقابة المستخدمين" لتسوية وضع عمال البلديات، وهم إحدى الطبقات الاجتماعية الأكثر حرماناً في تونس، وكانوا من بين الذين شاركوا في إطلاق الثورة.
"إنهم يريدون خنق صوتنا للاستئثار بالقرارات المصيرية التي تخصنا. يريدون ترهيبنا ليمنعونا من الدفاع عن قضايانا وحقوقنا، لكننا لن نستسلم ولن نخضع"، يقول الأمين العام للاتحاد، حسين العباسي، في حين يعتبر القيادي في "النهضة"، نور الدين عرباوي، أن قوات النظام القديم تتلاعب بـ"الاتحاد" بهدف عرقلة عمل الحكومة. وقد بلغ الاصطدام بين الجهتين أوجه في الاول من أيار/مايو، عيد العمال، حيث تقابلت جموعهما، واحدة تهتف "بالروح بالدم نفديك يا حكومة" (!)، بينما انصار الهيئة النقابية يهتفون "تسقط حكومة العار".
لماذا يُهاجَم الاتحاد العام التونسي للشغل؟
يضم الاتحاد خمسمئة ألف عضو في بلد لا يتجاوز عدد مواطنيه العشرة ملايين. وهو يعد المنظمة الوطنية الأولى بعد الجيش. بالإضافة إلى ذلك، فالاتحاد هو الهيئة الوحيدة التي يجتمع في صفوفها منتسبون ينتمون الى اتجاهات سياسية مختلفة، تمتد على كافة المناطق، كما أن أعضاءها يتحدرون من طبقات اجتماعية متنوعة.
ويعد الاتحاد كذلك حجراً أساسياً في الحراك الوطني التونسي ضد الاستعمار، وقد قام دائماً بدور رئيسي في الحياة السياسية التونسية. وهو ليس مجرد منظمة نقابية، بل أقرب إلى التنظيم السياسي، وقد وُصف في فترات معينة بـ"القوة الضاربة" في يد الحزب الحاكم، أو أنه قوة سياسية معارضة.
وتضاف إلى الالتباسات التاريخية للعلاقة بين الاتحاد والحزب الحاكم، مفارقة بنيوية في أداء تلك المنظمة المؤلفة من نقابات قاعدية مستقلة بمقدار ما، وممثلة على نطاق المحافظات عبر اتحادات عامة يتفاوت مبلغ تفاهمها مع القيادة الوطنية. وبالرغم من الالتباس الذي رعته البيروقراطية النقابية في علاقتها مع الحزب الحاكم سابقاً، فهي مثلت البنية الوسيطة الوحيدة التي منحت تعبيراً سياسيا للتحركات الاجتماعية العفوية المندلعة في فترات مختلفة من التاريخ التونسي. فبفضل أقسامها الفدرالية والجهوية - التي بقيت غالبية الوقت بعيدة عن هيمنة السلطات – فقد استطاعت أن تقوم بدور حاسم في الإضرابات والتجمعات والتظاهرات التي أدت إلى إسقاط الدكتاتورية وتشكيل الجمعية التأسيسية.
وقد نتجت عن هذا التاريخ علاقات معقدة بين الاتحاد العام التونسي للشغل والسلطة. ويقع هذا التعقيد اليوم في قلب المواجهة مع حزب "النهضة". وما حصل مؤخراً من نزاع حول تسوية وضع موظفي البلديات خير دليل على ذلك. فليست القضية مجرد مطالب اجتماعية واقتصادية، وإنما تلك المواجهة هي معركة سياسية مباشرة. إذ، من جهة، تحاول "النهضة" تمكين موقعها في المشهد السياسي، ويسعى من جهة ثانية المكتب التنفيذي الجديد للاتحاد (الذي تم انتخابه في كانون الثاني/يناير الماضي، حيث انتصرت لائحة اليسار التوافقية)، إلى تأكيد استقلاليته السياسية.
إنه أمر معتاد: فعندما يكون الحزب حاكماً، يرمي الاتحاد بحجة رئيسية تتناول "قيادته الفاسدة التي تتلاعب بها الاحزاب السياسية". ومن جهة المؤيدين للاتحاد، تكون الحجة أنه "يجب أن يكون الاتحاد مستقلا عن السلطة السياسية"، ويجب أن يبقى سلطة مضادة.
أين المسألة الاجتماعية؟
إن البعد الحاضر/الغائب في هذا النقاش هو مكان المطالب الاجتماعية والاقتصادية. ويسلط عادة "الاتحاد العام التونسي للشغل" الضوء في خطابه على تلك المطالب، إلا أنها غالباً ما تخضع لسعي الاتحاد لتحصين استقلاله السياسي في وجه السلطة. وبالتالي، فليس مفاجئاً أن نجد أن ما يحدد تحالفات الأحزاب السياسية حول الاتحاد ليس مسألة البدائل الاجتماعية والاقتصادية التي ينبغي اقتراحها، بل كيفية التأثير في العلاقة بالسلطة من خلال الاتحاد. ومن هذا المنظور، تمتلك معناها التحالفات غير المسبوقة بين الليبراليين والتشكيلات اليسارية حول الاتحاد بغاية جبه "النهضة". وفي خطابها السياسي، غالباً ما تَتهم الأحزاب (سواء تلك الموجودة في الحكومة أو في المعارضة) الحركات الاجتماعية المختلفة، والاتحاد، بالوقوف وراء الجمود الاقتصادي في البلاد. يطرح ذلك إشكالية العلاقة التي تنسجها النخب السياسية، وخصوصا منها اليسارية، بالحركة الاجتماعية. فتكلس النقاش الإعلامي والسياسي الذي تم ادراجه منذ البداية في مسألة الخلاف بين الإسلاميين والحداثيين، دليل على غياب القدرة على ربط قضايا الانتماء (الهوية) والسياسة بالأسئلة الاقتصادية والاجتماعية.
إلى ذلك، فالأحزاب السياسية المعارضة، السابقة والحالية، التي يفترض بها أنها قوى بديلة، ما زالت في مرحلة إعادة التكوين بعد عقود من الديكتاتورية. إذا كان "الاتحاد العام التونسي للشغل" قد شكل خلال مرحلة الدكتاتورية ملجأً للمعارضين السياسيين، فإن السؤال الذي يطرح هو التالي: هل ستكون تلك الأحزاب السياسية قادرة على التواجد خارج نطاق الاتحاد، وكيفية ذلك. لذلك يبقى هذا الأخير في الوقت الحالي السد الوحيد ضد مخاطر الهيمنة الكاملة للنخبة الحاكمة اقتصادياً وسياسياً.
وأخيراً، إذا كان "الاتحاد العام التونسي للشغل" يشكل بنية وسيطة لتمثيل الفئات الاجتماعية المنظمة أصلاً، فمن يمثل المهمشين، مثل العاطلين عن العمل والمهملين، ممن لا صوت لهم؟ ففي مواجهة التدهور الاقتصادي الذي تشهده تونس اليوم، يتجدد الغضب الشعبي، وتتواصل التحركات الاجتماعية في قفصة، وسيدي بوزيد، وصفاقس، وتونس العاصمة ومدن أخرى. وتتوالى التظاهرات كل يوم تقريباً منددة بـ"التهميش" ومنتقدة بطء الحكومات المتلاحقة في تطبيق الإصلاحات اللازمة لحل مشاكل البطالة والتنمية المحلية.
-----------------------------------
بطاقة تعريف
تأسس الاتحاد في المؤتمر الذي انعقد بالمدرسة الخلدونية، في 20 كانون الثاني 1946.
وهو ورث خطوة سابقة لتأسيس منظمة نقابية وطنية باسم "جامعة عموم العملة التونسيين" في العام 1925، وقادها محمد علي الحامي، وشاركه فيها الطاهر حداد، الداعية الشهير لحقوق المرأة. وقد استُهدفت هذه المحاولة بشراسة من قبل الاستعمار الفرنسي والقوى المحلية المحافظة، ما اجهضها في المهد. وبعد محاولات للنضال من ضمن اطار الكونفدرالية العامة للشغيلة، المنظمة النقابية الفرنسية ( (CGT، قرر النقابيون التوانسة تأسيس اتحادهم الخاص، الذي انتخب الزعيم فرحات حشاد كأول أمين عام له، وهو اغتيل من قبل منظمة إرهابية فرنسية ("اليد الحمراء") في العام 1952، بعدما قاد النضال الوطني ضد الاستعمار إثر اعتقال بورقيبة. ومن وجوه الاتحاد التاريخية الحبيب عاشور وهو من رموز النضال ضد الاستعمار. ويضم الاتحاد منظمات نقابية مستقلة ذات جذور متينة في مختلف ارجاء البلاد، ويتجاوز حالياً عدد المنتسبين إليه النصف مليون إنسان.