النضالات الاجتماعية في تونس: لعنة أم فرصة ثوريّة؟

غالباً ما تمّ التعاطي مع الثورة التونسية كما لو أنها حدث «صاف»، أو تطور «فريد»، حيث نجح «شعب تونسي» شبه أسطوري ومتجانس في التخلص من «ديكتاتوره». وتوحي الصورة المرسومة تلك أنه، بحركة أقرب إلى السحر، كان يكفي أن يصرخ الشعب «ارحل» في 14 كانون الثاني/يناير 2011 حتى يلوذ الديكتاتور بالهرب فوراً. هكذا تبدو أسباب وتداعيات الانتفاضة غامضة.
2013-02-13

هالة اليوسفي

باحثة وأستاذة علم الإجتماع في جامعة دوفين - باريس، من تونس


شارك
| fr
من موجة التظاهرات في العاصمة التونسية (رويترز)

غالباً ما تمّ التعاطي مع الثورة التونسية كما لو أنها حدث «صاف»، أو تطور «فريد»، حيث نجح «شعب تونسي» شبه أسطوري ومتجانس في التخلص من «ديكتاتوره». وتوحي الصورة المرسومة تلك أنه، بحركة أقرب إلى السحر، كان يكفي أن يصرخ الشعب «ارحل» في 14 كانون الثاني/يناير 2011 حتى يلوذ الديكتاتور بالهرب فوراً. هكذا تبدو أسباب وتداعيات الانتفاضة غامضة. وقد تمّ الاستغناء عن الوضوح التاريخي لمصلحة خطاب غير مسيَّس يقوم على فكرة نجاح حركة عفوية قام بها مدوّنون شباب، ونجحوا من خلالها بجرّ شعب بأكمله للانتفاض والتخلُّص من ديكتاتور مكروه. في المقابل، ركّز غالبية الباحثين ووسائل الاعلام المتابِعة للوضع السياسي العربي، في معظم الأحيان على الشرح الذي يوفره استمرار البنى التسلطية العربية، أو تطور الحركات الاسلامية. وهي بذلك تسبّبت بالتعمية على مختلف قوى التغيير التي ظهرت على امتداد العقدين الماضيين.

كثيرة كانت التحركات التي طبعت، من خلال نضالاتها الجماعية، الأحداث التاريخية التي أدّت إلى رحيل بن علي عن السلطة. تحرّكات قادتها المنظمات التقليدية، مثل الاتحاد العام التونسي للشغل (UGTT)، و«الرابطة التونسية لحقوق الانسان»، ونقابة المحامين، و«اتحاد أصحاب الشهادات المعطلين عن العمل»، والجمعيات التي تُعنى بالهجرة...، فضلاً عن شبكات تنسيق، كتلك الخاصة بالمدوّنين (yizzi fok) في 2007، أو «حركة 18 أكتوبر». لقد انضمّت مطالب «ديموقراطية» إلى مطالب اجتماعية واقتصادية، وقد سمحت جميعها بانطلاق العملية الثورية.

غداة الرابع عشر من كانون الثاني/يناير 2011، بتنا أمام «عقدة ذنب» معمَّمة للمحلّلين المهتمّين بالوضع التونسي، والذين يعترفون بأنهم لم يتوقعوا حصول هذه الثورة. ومن سخرية القدر أنه بعد وقت قصير، وبهدف تحليل تحوّلات المجال السياسي التونسي، استعاد المعلّقون والساسة نغمة السجال القديم بين الديموقراطيين والحداثيين. «عادت حليمة إلى عادتها القديمة»، وعاد التركيز من جديد على خطر عودة الديكتاتورية الدينية، وأُشيح النظر عن النضالات الاجتماعية المختلفة التي باتت في أحسن الأحوال مهمَّشة، هذا إذا لم يتمّ تجريمها ببساطة من قبل النخبة السياسية الحاكمة بمختلف اتجاهاتها.

عندما تصادر المعركة السياسية النضالات الاجتماعية

لقد أدّت المرحلة الأولى من العملية الثورية، غداة اعتصامَي القصبة (في العاصمة التونسية)، إلى خيار الجمعية التأسيسية. بذلك، وجّه المسار الانتخابي بشكل لافت العملية الثورية نحو حلّ سياسي. بكلام آخر، وحدها المطالب السياسية وجدت حلاً نسبيا، على حساب المطالب الاقتصادية والاجتماعية. النخب السياسية والاقتصادية، الجديدة منها والقديمة، تلك المشاركة في الحكومة أو المعارِضة، وبعدما انخرطت في صراع شرس من أجل تسلُّم السلطة، وضعت نفسها في تحالف موضوعي من أجل تحييد المسار الثوري، عبر محاولة قيادة النظام السياسي نفسه، ذاك الاقتصادي والاجتماعي الذي كان سائداً قبل رحيل بن علي. هذه المحاولة الهادفة إلى تحييد العملية الثورية، تمرّ بتمييز دقيق بين التحدّيات السياسية التي تُعتَبَر بأنها تحتل الأولوية، والنضالات الاجتماعية التي يتم التعامل معها وكأنها عائق أمام الوصول إلى «برّ الأمان». وهو شرخ أرسته النخب الحاكمة بذكاء، وأدخلته بشكل كبير إلى السجال السياسي المحلي من خلال التعبير السحري: «الانتقال الديموقراطي»، الذي يظهر أنه الوسيلة الفضلى للحفاظ على المصالح الاقتصادية للطبقات الاجتماعية المهيمنة.

تأخذ المواجهة بين الحيّز السياسي والنضالات الاجتماعية ــ الاقتصادية، أشكالاً متعدّدة في تونس. أولاً، تعظيم القضايا السياسية فيما يتعلق بالتحضير للانتخابات المقبلة، بهدف اجتذاب انتباه الناخبين، وإثارة اهتمامهم، وتبرير وجود هذه التنظيمات السياسية على اعتبار أنها الناظمة الوحيدة للوضع. انطلاقاً من ذلك، يتركّز النقاش الإعلامي والسياسي على أهمية إيجاد توافق حول الروزنامة الانتخابية بين الفاعلين السياسيين، وكل اعتبار آخر، أكان اقتصادياً أم اجتماعياً، يُعتبَر أنه على هامش ما يُصطلَح على تسميته عادةً «القضايا الحقيقية» للاستقرار السياسي.

ثانياً، يتمّ تجريم حركات الاحتجاج الاجتماعية بشكل منهجي، أكانت مندرجة في إطار «الاتحاد العام التونسي للشغل» أم لا، وتُتَّهَم بـ «الهمجية» وبإثارة الخوف لدى المستثمرين المحليين والأجانب، وبعرقلة مسيرة البلد نحو الاستقرار السياسي والاقتصادي. الحجة الفولكلورية التي غالباً ما يتمّ تعبئتها هي: «نريد هدنةً، دعونا نعمل وكونوا صبورين وستحصلون على ما تريدونه». ثالثاً، البديل الاقتصادي الوحيد المطروح هو ذلك الذي ينص على تطبيق النموذج الاقتصادي نفسه، من خلال اختصار مساوئ النظام الاقتصادي حصراَ بالنضال ضد الفساد، وإهمال الأعطاب البنيوية للاقتصاد التونسي ووضعها في مرتبة ثانوية. وأخيراً، هناك القمع البوليسي، وهو السلاح الفتّاك الذي استخدمه بن علي، والذي تعود الحكومات المتعاقبة للمرحلة الانتقالية إلى استخدامه من جديد.

السؤال المطروح هو التالي: هل ستقدر المكوّنات القديمة والجديدة للنظام على اختزال العمليات الجارية بمجرّد لعبة ديموقراطية ليبرالية، مع الحفاظ الرمزي على الانتخابات الحرّة من أجل السماح بالتناوب على السلطة؟ إنّ النضالات الاجتماعية المستمرة بوتيرة متصاعدة تنبئ بأن مكوّنات العملية الثورية لا تزال موحّدة.

حركات الاحتجاج الاجتماعيّة والحكّام

إذا كانت البدائل الوحيدة المطروحة محصورة بالسياحة المكثَّفة، وبالمؤسسات التي تلزم الأعمال بالوكالة عن سواها، وبالزراعة المكثفة نوعاً ما، وبتطوير البنى التحتية (طريق سريع هنا ومستشفيات هناك)، فمن الطبيعي أن تنفجر الحركات الاجتماعية المطلبية، سواء تلك المؤطّرة في «الاتحاد العام التونسي للشغل» أو الاخرى الموجودة خارج الأطر النقابية. لا يمرّ أسبوع واحد من دون أن نسمع عن إضرابات عامّة لمدن بأكملها، مثل «الكاف» و«سليانة» و«بن قردان» و«سيدي بوزيد» (وهو ما يشكّل بحدّ ذاته ظاهرة رائعة)، وعن حواجز لقطع الطرقات، وعن إضرابات قطاعية (التعليم والنقل والفوسفات...). والحركات الاحتجاجية الأكثر تصميماً، هي خصوصاً تلك المرتبطة بقضايا البطالة وانعدام العدالة في التنمية بين المنطقة الساحلية وباقي أنحاء البلاد. تسلّط هذه التحركات الضوء على عاطلين شباب من عمق البلاد، ممّن يشيرون إلى خيبتهم إزاء عدم تحرُّك الحكومة فيما يتعلق بمسائل التوظيف والتخفيف من الفروقات المناطقية. تُترجَم هذه التحرّكات بتدمير المصانع وإقفال الطرقات والسكك الحديد بالحواجز، أو بمحاصرة المصانع ومنع الأُجراء من الوصول إلى مقرّات وظائفهم. تتكرر هذه التحركات وتنتشر على نطاق أوسع بكثير من سجالات الاسلاميّين في مواجهة العلمانيّين، والتي تحظى بتغطية إعلامية أكبر على الصعيدين المحلي والدولي. يطالب الشباب العاطلون عن العمل بالوظائف، وبتنفيذ مشاريع تنموية حقيقية في المناطق. إنّ هذه التحركات ذات الطابع المطلبي، الاجتماعي ــ الاقتصادي، وإن كانت قادرة على نيل الدعم الانتقائي للمناضلين المنخرطين في تنظيمات سياسية، فإنّ مطالبها يُنظَر إليها غالباً كأنها هيجان يمكن بالطبع توظيفه في المعركة السياسية، لكنه يبقى هامشياً بالمقارنة مع المسألة الشهيرة لـ«الانتقال الديموقرطي».

إلا ان هذه التحركات تشكّل مختبراً فريداً لاستكشاف سبل تجديد الممارسة السياسية، وهو مطلب شديد الأهمية بالنسبة للانتفاضات الشعبية.

من خلال الضغط المتواصل الممارَس على السياسيين، لا يمرّ أسبوع لا يُدعى فيه وزير إلى تقديم جردة وتفسير للسياسات التي يعتمدها. من خلال القدرة شبه العفوية التي تملكها هذه التحركات في مفصلة القضايا ذات الطابع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتلك المتصلة بمسائل الهوية، تقدّم هذه التحركات فرصة استثنائية لبناء مجتمع بديل. عندما يربط الشباب العاطلون عن العمل في سليانة أو مَكْثَر، الحق الفردي بالعمل، مع إشكاليات التنمية المناطقية وتشويه السلطة المركزية لسمعة هذه المناطق، وعندما يربط هؤلاء الشباب ظاهرة البطالة بمسألة إعادة التقسيم الإداري، وجعل آلية اتخاذ القرار السياسي لامركزية، فإنهم يقدمون بذلك تجسيداً واضحاً لتشابك القضايا الاقتصادية والسياسية وتلك المتعلقة بالانتماء والهوية. ومثلما يقول أحد هؤلاء الشباب: «من الواضح أنّ المعركة السياسية تهدف إلى إعادة تقسيم قالب الحلوى، وهي لا تهمّنا. نحن نريد عملاً، نريد الخروج من البؤس والاحتقار الذي تعاملنا به السلطة المركزية منذ الاستقلال، ونحن غير مستعدّين لأن ندعهم يُسكتوننا طالما أنّ مطالبنا لم تتحقّق بعد».

في المقابل، فإنّ جولة سريعة على اللجان الجديدة الصاعدة، والمرتبطة بهذه الحركات الاجتماعية، مثل «ميثاق 20 مارس»، وحركة «الجيل الجديد» أو «منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية»، تشهد على بروز نظرة جديدة للحيّز السياسي، تشكّل على الصعيدين التنظيمي والفكري قطيعة مع المنظمات السياسية التقليدية. وهي تحدّد لنفسها هدفاً مركزياً يتمثل بضرب أسس هذا الفصل المعتاد بين مسائل التغيير الديموقراطي والنضالات الاجتماعية، كما تشكل قطيعة نهائية مع نمط التنظيم الهرمي. هكذا، فإنّ التحركات الهادفة إلى دعم العاطلين عن العمل انضمّت إلى حركة الدفاع عن مصابي الثورة، كما أن حركة الدفاع عن الحريات الفردية رُبطَت بشكل وثيق بمطالب تحقيق العدالة الاجتماعية، ورُبطت التعبئة من أجل حقوق المهاجرين مع الانتقادات الموجّهة لاتفاقيات الشراكة الأوروــ متوسطية. وقد تُرجم هذا الترابط بين مختلف مستويات وأشكال النضالات بشكل رائع من خلال شعار «أهل غزّة/الرّدَيِّف، أهلّ العزّة» الذي رُدِّد في منطقة الردّيف في كانون الثاني/يناير 2008.

تحمل مجموعة هذه النضالات والتحركات الجماعية بذور نمط جديد من التعبئة الاجتماعية ـ السياسية، حيث تظهر الرسالة بوضوح: رفض النمط النيوليبرالي وشركائه المحليين والأجانب.

تشكل هذه النضالات والتحركات لعنةً بالنسبة للنخب السياسية التي تتصارع من أجل السلطة، بينما تشكّل في المقابل فرصة حقيقية لصالح العملية الثورية. غير أنّ التحدّي الذي يبقى مطروحاً هو: هل هذا المسار الثوري الذي يطرح علاقات جدليّة ومعقّدة بين الحيّزين الاقتصادي والسياسي، وبين القيادة والعفوية، بين العمل الجماعي الكلاسيكي المنظَّم وذلك الصاعد حديثاً، بين النضالات الطبقية والحقوق الفردية... هل سيتمكن هذا المسار من تجنُّب تجزئة النضالات، ومقاومة آلة المصادرة السياسية، وحشد حركة واسعة قادرة على توجيه طاقة الجماهير، واقتراح مجتمع بديل حقيقي؟

**********************

صفحة Groupe-Manifeste-20-Mars على فايسبوك

صفحة «حركة جيل جديد» على فايسبوك

موقع «المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية»

**********************

كتب هذا النص قبل اغتيال شكري بلعيد. لقد اخترت عدم تعديله، مع تسجيل ان هذا الاغتيال يهدف قبل كل شيء الى قتل السيرورة الثورية. لقد برهنت الثورة عن حيويتها بفضل ردة فعل الشعب التونسي (رافق التشييع يوم الثامن من شباط/فبراير 2013 عدد هائل من التوانسة). إنها انتفاضة عامة ضد هذا الاغتيال السياسي: الثورة لم تمت ولن تسمح باغتيالها. أهدي هذا النص الى شكري بلعيد، شهيد اليسار التونسي والعربي.

مقالات من تونس

للكاتب نفسه

تونس على حدود الشرعية الديمقراطية

كشفت التجربة التونسية في السنوات العشر الأخيرة أن "المنظومة" تتمتع بقدرة غير متوقعة على امتصاص الصدمات، وأن النخبة السياسية والاقتصادية الحاكمة تجد دوماً الوسيلة لكي تتأقلم مع التشوهات والمسوخ الذين...