تثير قضية مصروفات المصريين أو غير المصريين على رحلات الحج والعمرة مشكلات متعددة، ذلك أن هذا الموضوع، برغم طابعة الديني المرتبط بالوجدان وبالواجبات، فإن له أبعادا وجوانب اقتصادية، برغم الأزمات التى تعيشها البلاد. وما يدركه الكثير من المصريين وغير المصريين، أن ارتباط موضوع الحج والعمرة، بالمشاعر الدينية يوازيه ارتباطه بحركة أوسع، يطلق عليها «إعادة التدوير». ذلك أن مئات ملايين الدولارات التى حصل عليها المصريون العاملون فى السعودية، قد عاد جزء كبير منها إلى اقتصاد المملكة في صورة نفقات لزيارات الحج والعمرة، التي قام بها عشرات ملايين المصريين طوال الحقبة النفطية نفسها (1974ــ 2008). ومن ثم، فإن الحركة المالية والإقتصادية بين مصر والمملكة السعودية لم تكن ذات اتجاه واحد، بل اتخذت اتجاهين متوازيين، وإن كانا متعاكسين.
قدرت الدراسات الاقتصادية حجم المساعدات التي قدمتها السعودية إلى مصر فى صورها المتعددة (قروض، منح، مشروعات مشتركة، دعـم عسكري .. إلخ) خلال الفترة التى أعقبت هزيمة الخامس من حزيران/ يونيو 1967 إلى اليوم بحوالي 17 مليار دولار أميركي. فما كان انفاق أفواج المعتمرين والحجاج المصريين الى السعودية خلال الفترة نفسها؟
نفقات الحج والعمرة للمصريين 1955 - 1973
قبل عام 1955 كان أداء فريضة «الحج» وسنة «العمرة» يكاد يكون محصوراً بالطبقات الثرية فى مصر، وفئة قليلة من متوسطي الدخول من كبار الموظفين، نظراً للتكاليف الباهظة التى كان يتحملها المسافر، والتي كانت تتراوح بين 200 جنيه إلى خمسمائة جنيه مصري (الجنيه المصري كان يعادل 2.89 دولار أميركي خلال هذه الفترة وحوالي 25 ريالا سعوديا)، وهو مبلغ باهظ. ورغبة من نظام الرئيس عبد الناصر فى إتاحة أداء هذه الفريضة للفئات الوسطى ومحدودي الدخل، بدأ عام 1955 إعادة تنظيم هذا القطاع، حيث جرى التعاقد بيـن وزارة الداخلية المصرية من جهة، وكل من الشركة المصرية للملاحة البحرية، وشركة مصر للطيران من جهة أخرى، لمدة 10سنوات، يتم بمقتضاه حصول الوزارة على تأشيرات زيارة الأماكن المقدسة وإصدار وثائق السفر الخاصة بها مع تنظيم أفواج الحجيج بحيث لم تتجاوز تكاليف السفر ذهاباً وعودة والإقامة والتنقلات حوالي 120 جنيهاً (فى حالة السفر بحراً) وتزيد إلى 150 جنيهاً (فى حالة السفر جواً) بالإضافة بالطبع إلى رسوم وضرائب زيارة الأراضى المقدسة. وقد ساهم هذا في توسيع قاعدة المسافرين فزاد عددهم إلى حوالى 40 ألف حاج سنوياً خلال الفترة إلى أعقبت ذلك العام وحتى عام 1973.
ولم تشمل هذه التكلفة بالطبع نفقات المأكل والمشرب وشراء الهدايا من جانب الحجاج المصريين فى الأماكن الحجازية. ولم تكن ظاهرة العمرة المكثفة والمتكررة فى السنة الواحدة للمصريين قد ظهرت بعد فى تلك المرحلة. ومن جهة أخرى، فقد بدأ منذ ذلك التاريخ «نظام القُرعَة» باشراف وزارة الداخلية المصرية ، بسبب تزايد الإقبال على هذا « الحج « الشعبي، في ظل وجود تأشيرات محددة للسفر إلى الأراضى الحجازية لا تزيد على 40 ألف تأشيرة سنوياً، بالإضافة إلى الاعتبارات المالية التى أخذت بها الحكومة المصرية وقتئذ بشأن تأثير هذه المسحوبات من العملة الأجنبية (الدولار الأميركي أو الجنيه الأسترليني) على احتياطياتها المتاحة من النقد الأجنبي.
وحتى ذلك التاريخ، لم تكن قد برزت أدوار أطراف أخرى فاعلة فى عمليات تنظيم هذه الرحلات كالشركات السياحية التجارية أو الجمعيات الأهلية. فظلت أجهزة وزارة الداخلية تتولى الامر بالتعاون مع السلطات السعودية. واستمر ذلك بمعدلاته العادية برغم التدهور الذي ساد في العلاقات السياسية بين مصر والمملكة السعودية بعد عام 1958 واستمر حتى عام 1971.
مرحلة ما بعد عام 1974
بعد عام 1974، تحول المشهد كله بسبب:
1- أثر حركة العمالة المصرية والعربية والإسلامية إلى دول النفط العربية على توزيعات الدخول.
2- تصاعد نفوذ المملكة السعودية على سياسات المنطقة.
3- ما سمي «الصحوة الإسلامية» وصعود التيار الوهابي والسلفية وانتشارها بين قطاعات واسعة من السكان.
وهنا اتسع نطاق الرحلات الدينية المقدسة لتشمل رحلة «الحج» (مرة واحدة سنوياً) وتكرار «العمرة» في مواسم دورية طوال العام. وتعددت الأطراف والعناصر الفاعلة في هذه الحركة فحولتها إلى سوق ضخم له قواعده العرفية ومعدلات أرباحه الخيالية. وقد زاد الأمر سوءاً لجوء السلطات السعودية بعد تكرر أحداث مظاهرات الحجاج الإيرانيين إلى فرض نظام الحصص عام 1993 لحجيج كل دولة إسلامية وفقاً لقاعدة واحد لكل ألف من السكان، حتى تستطيع تحجيم عدد الحجيج الإيرانيين من ناحية ولتمكين الأجهزة الأمنية من السيطرة على الموقف من ناحية أخرى. فوجدت سوق سوداء ضخمة في مصر وبقية الدول الإسلامية. بلغ عدد التأشيرات المقدرة لمصر عام 2008 ما بين 75 ألفاً إلى 80 ألف تأشيرة لأداء فريضة الحج، وأصبح التوزيع الرسمي الساري في مصر لحصص كل طرف من هذه التأشيرات كالتالي: 40 في المئة (32 الف تأشيرة) توزع عن طريق وزارة الداخلية ومن خلال القُرعَة، جنبت منها حوالى 5 آلاف تاشيرة وزعت على بعض الجهات السيادية (رئاسة الجمهورية وزارة الدفاع المخابرات العامة .. إلخ ) وعلى الضباط والقادة وبعض الأفراد داخل وزارة الداخلية ذاتها بأسعار تفضيلية. 40 في المئة أخرى توزع على الشركات السياحية العاملة في القطاع. و20 في المئة أخيرة توزع عن طريق وزارة الشؤون الاجتماعية والجمعيات الأهلية بالمحافظات وفقاً لنظام القُرعَة، أي حوالى 16 ألف تأشيرة. ويتسرب جزء من كل هذه الى «السوق السوداء» حيث تباع التأشيرة بمبالغ تتراوح بين خمسة إلى ستة آلاف جنيه للتأشيرة الواحدة.
توسع المشاركة بسبب الربحية
في البداية، لم يكن هناك سوى الرسوم المقررة المتواضعة لإصدار وثيقة السفر، والباقي يتحمله المسافر من تذاكر الطائرة أو الباخرة وتكاليف الإقامة والتنقلات في المملكة وغيرها، سواء تحملها بصورة مباشرة وشخصية أو من خلال شركات السياحة أو الوكلاء أو الجمعيات الأهلية .. إلخ.
ثم بدأ تحميل الحاج أو المعتمر عشرات الرسوم والمصاريف المبالغ فيها. ووصل سعر «الحج السريع» ذي الخمس نجوم إلى 100 ألف جنيه (لأحد عشر يوماً). وتتفاوت أسعار تكاليف السفر والتنقلات والإقامة داخل الأماكن المقدسة بالمملكة السعودية والمزارات الدينية الأساسية تفاوتاً كبيراً لعدة اعتبارات:
منها طبيعة وسيلة السفر ودرجاتها، وطبيعة وسائل الانتقال داخل السعودية (مكيفة غير مكيفة). وحجم مجموعات الأفواج ودرجة فاعلية الشركات السياحية المصرية المنظمة أو الجهة الحكومية مع الوكلاء السعوديين ومقدمي الخدمات داخل المملكة. وفنادق الإقامة داخل مكة والمدينة، من حيث مدى قربها من الحرم المكي والحرم النبوي، وكذلك مدى فخامتها وتوفيرها لكافة مستلزمات الراحة من طعام وشراب. وكفكرة، فمجموع ما أنفقه الحجاج المصريون في موسم الحج عام 2008 هو 3548 مليون جنيه مصري، أو ما يعادل 633.6 مليون دولار أميركي، وحوالي 2325.3 مليون ريال سعودي، ذهب نصفها تقريباً إلى الإقتصاد السعودي وذهب نصفها الآخر إلى قطاعات فى الإقتصاد المصري (السياحة، وزارة الداخلية، شركات الطيران والعبَّارات البحرية ووسائل النقل المصري).
مواسم العمرة
تحولت هذه الشعيرة الدينية المحببة بدورها عبر الزمن إلى سوق ضخم للتجارة من كافة الأطراف ذات العلاقة بتنظيم هذه الرحلات، سواء من الجانب المصري أو السعودي. وبرغم أنه ليس هناك وقت معلوم ومحدد لأداء شعيرة العمرة، إلا أن المسلمين تماماً كالطيور المهاجرة تعارفوا على أربعة مواسم كبرى على مدار السنة الهجرية أوسعها هي رحلات الاعتمار خلال الأربعة شهور (ربيع أول ربيع ثان جماد أول جماد ثان) والمعروفة باسم «عمرة المولد النبوي الشريف»، ويقدر الخبراء والعاملون في هذا الحقل عدد المعتمرين المصريين ومرافقيهم في هذا الموسم بما يتراوح بين 250 ألفاً كحد أدنى و400 ألف شخص كحد أقصى، وهي الرحلة الأقل سعراً على أية حال، حيث تتراوح اسعارها ما بين 3266 جنيهاً إلى 3500 جنيهاً تقريباً، وذلك بسبب انخفاض أسعار تذاكر الطائرات.
ثم الموسم الثاني وهو عمرة شهر رجب حتى النصف الأول من شهر شعبان، ويقدر عدد المعتمرين المصريين ومرافقيهم بحوالي 100 ألف شخص، ويزيد سعر هذه الرحلة عن سابقتها بحوالي 1000 جنيه تقريباً. والموسم الثالث هو عمرة النصف الثاني من شهر شعبان حتى الخامس من شهر رمضان، وعدد المعتمرين ومرافقيهم في هذا الموسم حوالي 150 ألف شخص، ويزيد سعرها كذلك عن العمرة الاولى بحوالى 700 جنيه مصري. والعمرة الرابعة هي لشهر رمضان، ويقدر عدد المعتمرين المصريين ومرافقيهم فيها بحوالي 300 ألف شخص، وتتفاوت اسعارها فشهر رمضان كاملاً يكلف ستة آلاف جنيه بالطائرة، وأما «العشرة الأواخر» من شهر رمضان فتبلغ كلفتها 11 ألف جنيه، شاملة الوجبات الغذائية.
أي أن عدد المعتمرين المصريين ومرافقيهم على مدار العام الهجري يزيد قليلاً عن المليون. وبعد عام 1985، دخل عنصر جديد على خط التأشيرة يسمى «حصة الوكيل السعودي» حيث بدأت إضافة 30 ريالا (ما يعادل 25 جنيها مصريا أو 10.5 دولار أميركي وقتئذ) هذا بالإضافة إلى 10 جنيهات تحت مسمى « تكلفة غرفة» ، وكذلك 30 جنيها لصالح مصلحة الأمن العام في مصر، إلى جانب ربح مقدر للشركة السياحية المنظمة يقدر بنحو 25 جنيهاً مصرياً عن كل تأشيرة. وبهذا أصبحت تكلفة الحصول على تأشيرة الدخول إلى الأراضي المقدسة حوالى 90 جنيهاً مصرياً. وبعد عام 1994، زادت تكلفة الحصول على تأشيرة زيارة الأراضي المقدسة حتى بلغت في العام 2009 حوالى 550 جنيهاً مصرياً يأخذ الوكيل السعودي 120 ريالاً (أي حوالى 180 جنيهاً مصرياً)، ومصلحة الأمن العام 250 جنيهاً مصرياً إلخ...
ويعمل في مجال الوكلاء السعوديين حوالى 250 وكيلاً يتولون مواسم «العمرة» لجميع المعتمرين من العالم الإسلامي (إذا قدرنا أن عدد المعتمرين ومرافقيهم عام 2008 بنحو 15 مليونا إلى 25 مليون معتمر، فمعنى هذا أن إيرادات هؤلاء الوكلاء السعوديين تتراوح بين 1800 مليون ريال إلى ثلاثة مليارات ريال مقابل تقديم خدمة التأشيرة فقط. أي أن نصيب الوكيل الواحد (60 ألف تأشيرة إلى 100 ألف تأشيرة سنوياً) وبالتالي فإن دخله السنوى يعادل 7.2 مليون ريال إلى 12 مليون ريال للوكيل الواحد. بخلاف الخدمات الأخرى.
ووفقاً لسيناريو الحد الأدنى، فإن نفقات المعتمرين المصريين في موسم عام 2008 بلغت:
2941.5 مليون جنيه مصري، ما يعادل 525.3 مليون دولار أميركي أو 1961.0 مليون ريال سعودي
ووفقا لسيناريو الحد الأعلى:
3989.2 مليون جنيه مصري، ما يعادل 712.4 مليون دولارأميركي أو 2659.5 مليون ريال سعودي.
الصورة العامة
إجمالي نفقات المصريين على رحلات الحج والعمرة خلال عام 2008، تصل إلى2584.9 مليون دولار أميركي، نصفها تقريباً دخل إلى الاقتصاد السعودي. فإذا قارنا بين ما انفقه المصريون داخل المملكة السعودية أثناء أداء الفرائض العام 2008، والتحويلات المالية للعمال المصريين الموجودين في المملكة إلى ذويهم في مصر، والتي بلغت 959.4 مليون دولار، لنا أن نتصور حجم إيرادات المملكة، والتي نقدرها بأكثر من 35 مليار دولار سنوياً، بما يزيد عن ضعف ما تقوم المملكة بتحويله لصالح العمال الأجانب والعرب العاملين فيها.