تتوقع المؤشرات المائية العالمية، وابرزها "مؤشر الاجهاد المائي"، ان العراق سيكون ارضاً بلا انهار بحدود 2040، ولن يصل النهران العظيمان الى المصب النهائي في البحر. وبعد ثماني اعوام (2025) ستكون ملامح الجفاف الشديد واضحة جداً في عموم العراق مع جفاف كُلي لنهر الفرات باتجاه الجنوب، وتحول دجلة الى مجرد مجرى مائي صغير محدود الموارد. بعد جزء أول يخص تدابير تركيا، وجزء ثانٍ يخص إيران، هنا جزء ثالث حول أوراق الضغط على تركيا ..
تتفاقم منذ عقود أزمة المياه في العراق، الى حد إعتبارها كارثة وطنية تسقط معها جميع محاولات النهوض البطيئة لإعادة تنمية الاقتصاد الوطني وتنظيم الفوضى الاجتماعية وانقاذ النظام السياسي من أزماته الآخذة بالتصاعد دون حلول تخفف حدة سائر الكوارث.
الوقائع المُرّة
طرح العراق في مؤتمر الكويت لإعادة الاعمار نحو 300 فرصة استثمارية، طمعاً بالحصول على 100 مليار دولار للتخلص من مشكلات فشل النظام الجديد أمنياً واقتصادياً وسياسياً في التصدي لها، في ظل منظومة الفساد التي نماها وتهدد استمراره. ولكنه لم يحصل إلاّ على نحو 30 مليار دولار كقروض مُيسّرة واستثمارات لشركات كبرى مرتبطة اقتصادياً بتحولات السوق، وظَلّت تلك القروض والاستثمارات رهينة التغلب على المشكلات التي تعوق تنفيذها أو تصريفها بالطريقة الامثل، ومنها المياه.
تطّمح مثلاً السعودية باستثمار نحو خمسة مليار دولار في الزراعة والتربية الحيوانية والصناعة الغذائية في العراق. لكن مع أزمة المياه، يبدو ان المشروع السعودي لن يتحقق بشرّطه الاقتصادي الذي تريده الرياض، أي بسد عجزها من المحاصيل الاستراتيجية بكلفة أقل من الاستثمار في شمال افريقيا أو السودان، ومع سهولة النقل عبر حدودها مباشرة لاسيما بعد فتح طرق جديدة. لكن المشروع يواجه العقبة المُميتة: نقص المياه.
تراجع الانتاج الوطني الزراعي خلال الاعوام الاربعة الماضية بشكل ملحوظ، وخلالها خسر العراق نحو ثلث أراضيه المزروعة بالمحاصيل الاستراتيجية (القمح، الرز، الشعير). تشير الامم المتحدة أن العراق خسر 40 في المئة من أراضيه الأكثر خصباً والتي تسد الحاجة المحلية من المحاصيل الموسمية فضلاً عن تلك الاستراتيجية والبنى التحتية ومصادر المياه والإنتاج الزراعي. خسرها نتيجة الحرب مع تنظيم داعش، فيما بات نحو 12 مليون عراقي يعتمدون على اقتصاد الزراعة مهددون بالبطالة، ما يعني ثلث سُكان البلاد. وتحذر منظمة الفاو ان نحو 1.6 مليون مزارع في المناطق المُحررة يحتاجون الى مساعدة عاجلة وفورية.
فكرة التصعيد العسكري بحدِ ذاتها ورقة ضغط هائلة تُحرِج المجتمع الدولي وتقود الى وساطات، فتركيا ترفض تدويل مُشّكلة المياه، لكنها أضعف من صَدّ المحاولة العراقية اذا ما جرّبتها بغداد.
تؤكد لجنة الزراعة النيابية ان 40 في المئة أيضاَ من الاراضي الزراعية، لاسيما في الفرات الاوسط والجنوب، ستصبح مهددة عملياً عند البدء بتشغيل سد اليسو التركي في حزيران/ يونيو المقبل مع بداية "موسم الصيّهود". وهذا يعني عملياً ان 80 في المئة من الاراضي الزراعية باتت خارج الاستثمار الوطني لتحصين الامن الغذائي.
يُسمي العراقيون مواسم القحط المائي صيفاً بـ"الصَيّهود"، حين تتقلص الموارد المائية نتيجة فرط الاستهلاك والحرارة والهدر الناتج عن التبخر، لاسيما بنهر الفرات الذي لا يملك شراييناً مغذية لزياداته المائية بعكس "دجلة".. وهو الآخر باتت الآن مناسيبه منحسرة بعد قطع شرايينه الأهم من قبل إيران وانخفاض تدفقاته منها ومن تركيا.
تُركيا: الأمن والتجارة مقابل المياه
يملك العراق أوراق ضغطٍ ذهبية حيال تركيا لكنه يستنكف عن استغلالها بسبب ضعف حكومته وتوزع القرار السيادي على المضاربين السياسيين تبعاً لولاء المصلحة. فخلال حقبتي حكم البعث (1968-2003) المنقسمة بين أحمد حسن البكر وصدّام حسين، هددت بغداد أنقرة ثلاث مرات بالتدخل عسكرياً ضدها اذا خُفِّضَت حصة العراق المائية من دجلة والفرات. في مرتين منها كان التهديد ينطلق من مبدأ القوة. وفي الاخيرة كان نظام الحكم في بغداد ضعيفاً للغاية لكنه ادّرَك ان أي تفاوض تنقصه ورقة التهديد على الطاولة لن يأتي بالتنازل.
ظروف بغداد السياسية اليوم أفضل من ظروفها خلال الثمانينات والتسعينيات من القرن الماضي، بمعنى حزمة العلاقات الدبلوماسية التي تملكها، لكنها أسوء من ناحية استغلال تلك المظلة الإيجابية للدفاع عن مصالحها. لم يكن صدّام حسين يَمّلُك اوراقَ ضغطٍ على انقرة كما تملك بغداد اليوم، لكن فكرة التصعيد العسكري بحدِ ذاتها ورقة ضغط هائلة تُحرِج المجتمع الدولي وتقود الى وساطات، وهو ما يعني "تدويل" غير رَسّمي يقود الى حشِر انقرة بزاوية التّفاوض. فتركيا ترفض تدويل مُشّكلة المياه، لكنها أضعف من صَدّ المحاولة العراقية اذا ما جرّبتها بغداد.
في اوائل 2012 تفجّرت أزمة بين تركيا والعراق على خلفية استقبال أنقرة لنائب رئيس الجمهورية العراقية الأسبق طارق الهاشمي. المالكي لم يُشعل الازمة بسبب الاعتداءات التركية على الامن القومي العراقي، بل لخلافاته الشخصية مع خصومه السياسيين في الداخل ومساعيه للتخلص منهم.
قادت الرياض وساطتين بين بغداد وانقرة في السبعينيات والثمانينيات من القرن الفائت لفك الاشتباك بسبب أزمة المياه. واليوم، فكل الوسطاء الذي تُفكر بهم بغداد اذا ما أرادت تفجير أزمة بوجه تركيا سينحازون الى عاصمة بلاد الرافدين نظراً للسياسات التُرّكية المُتَشَنّجة في ملفات المنطقة، فضلاً عن جوّر السياسة المائية التركية تجاه العراق وبطلانها.كما أن بغداد يمكنها أن تضغط عبر دول الاتحاد الأوروبي لاستعادة الحق المائي، لاسيما أن انقرة تسعى للانضمام اليه، وأن سويسرا والنمسا والمانيا انسحبت من الاستمرار بتمويل انشاء سد إليسو.
إلا أن السياسة المعتمدة تقوم على "تضّييع" الكارثة بتبادل الاتهامات، ولوّم النظام السابق، وإهمال المعالجة على قاعدة "النسيان"، والغرق بسياسات ترقيعية فاشلة.. ومع بروز تقلّص الرقعة الزراعية وهجرة الفلّاحين وتحولهم الى مِهن وحِرَف أخرى، واستشراء اعمال بيع الاراضي المزروعة وتحولها الى مناطق سكنية، استقرّ الوضع المائي قليلاً، لكن الضغط بات يتجلى بالنمو السكاني المتسارع (بنسبة 3 في المئة سنوياً، وهي أعلى نسبة نمو في المنطقة بولادات سنوية تتراوح بين 800 الف الى مليون ولادة).
المجلس الأعلى للتعاون الاستراتيجي
زار الرئيس التركي رجب طيب اردوغان بغداد في 2008، وعقد صفقة اقتصادية ــ سياسية مع حكومة نوري المالكي آنذاك تحت مُسَمّى "المجلس الأعلى للتعاون الاستراتيجي"، لم تسّتفد منه بغداد الا النزر اليسير، فيما حققت أنقرة امتيازات غير مسبوقة في تاريخ العلاقة بين البلدين. وكمؤشرٍ مبهرٍ، قفز التبادل التجاري التركي مع العراق من 3.5 مليار دولار في العام 2008 الى 17 مليار دولار خلال العام الفائت. وتحتل تركيا المرتبة الاولى في التجارة مع العراق مستحوذةً على 22 في المئة من السوق العراقي، تليها إيران 15 في المئة والصين 12 في المئة.
كَبّلت انقرة بغداد بذلك الاتفاق الذي وقعه المالكي كعادته بعيون عمياء، وجعلتها رهينة تتحكم بها الأطماع التركية. والاتفاق سلب من بغداد ورقة ضغط عملية جداً تتمثل بحزب العُمّال الكردستاني دون ان تقدم انقرة مقابلاً لبغداد. واعتبرت أن حصة العراق المائية التاريخية ما هي الّا "مُساعدات" توفرها تركيا للعراق على أساس الحاجات الزراعية والمائية، وفقاً لما جاء بالبند السادس من المبدأ (ب) المتعلق بالاقتصاد والطاقة: "تشجيع التعاون في مجال الموارد المائية والزراعة لمساعدة العراق على تلبية حاجاته الزراعية والمائية، وبضمنها تلك المتعلقة بالري مع الأخذ بنظر الإعتبار حاجة تركيا الزراعية والمائية على توفير تلك المساعدات".
وبعد أشهر قليلة فقط من إبرام الاتفاق، قامت تركيا بخفض الحصة المائية العراقية في آذار/ مارس 2009 بتصرفٍ من جانب واحد ودون العودة الى أية مشاورات مع العراق. صمتت بغداد كالعادة حفاظاً على العلاقات التزّويقية التي يعقدها النظام الجديد لكسب الاعتراف الاقليمي به، ما سهّلَ على تركيا وايران إستغلال هذا المنحى الى أبعد حد لتحقيق مصالحهما.
وجعلنا من الماء كل شيء حي!
01-03-2018
إعتبرت تركيا ان الاتفاق المبرم مع بغداد في 2008 هو حجر العلاقة، وأنها من دونه تنفرط. وهي عززت الاتفاق بسلسلة تجاوزات واعتداءات وقفت منها بغداد موقفاً ضعيفاً، بدءاً من انهيار العلاقة بين اردوغان والمالكي الذي بذل ملايين الدولارات للماكينة الاعلامية المؤيدة له لإعتبار الاتفاق مع تركيا "انجازاً سياسياً كبيراً"! ففي اوائل 2012 تفجّرت ازمة بين الطرفين على خلفية استقبال انقرة لنائب رئيس الجمهورية الأسبق طارق الهاشمي الذي لاحقه المالكي بتهمٍ ارهابية، وبلغت ضراوة الخلاف حد الاتهاماتال خطيرة. غير ان المالكي حينها لم يُشعل الازمة على خلفية الاعتداءات التركية على الامن القومي العراقي، بل على خلفية خلافاته الشخصية مع خصومه السياسيين في الداخل ومساعيه للتخلص منهم. حينها ظلّ الاتفاق الاستراتيجي مُحَصّناً من الالغاء بفضل الفساد السياسي المتعلق باستثمارات سياسيين عراقيين في تركيا، وضغط ايران والولايات المتحدة بعدم الذهاب الى ما هو أبعد في توتير العلاقة.
وفي 2009 افتعلت تركيا أزمة مياه بخفض تدفق دجلة والفرات الى العراق. وفي منتصف العام 2018 ستقوم بتشغيل سد وبحيرة اليسو التي ستقتطع ثلثي تدفق مياه دجلة نحو العراق. وحتى اللحظة لم تفكر بغداد باتخاذ اية اجراءات ضد انقرة، بل تحاول كالعادة اضاعة الحق العراقي بمناوشات دعائية خاسرة لكسب الرأي العام المحلي دون الاكتراث الحقيقي لخطورة الأزمة.
حزب العمال الكردستاني
تعتبر تركيا حزب العمال الكردستاني التهديد "الارهابي" الاخطر على أمنها القومي، وبه تبرر تدخلها العسكري السافر في الأراضي العراقية واعتداءاتها شبه اليومية عليها بالقصف وتدمير قُرى جبلية، فضلاً عن تمديد مجلس الأمة السنوي لمهام جيشها بالتوغل حتى 100 كلم داخل العراق ل"مكافحة انشطة حزب العمال"، ما يعني الوصول الى مشارف الموصل من جهة العمادية ــ دهوك.
تحتفظ تركيا عبر تفاهمات سياسية (غير قانونية) بنحو 18 معسكراً وقاعدة ونقطة ومركز أمني ومنظومة استخبارات في شمال العراق، أغلبها في مناطق نفوذ الحزب الديمقراطي الكردستاني (بارزاني)، في محافظتي دهوك والموصل، انطلاقاً من "قاعدة بعشيقة" التي أنشأت في العام 1995 و"بامرني" (1997) بحصيلة جنود تصل الى 4000 جندي مع مئات الدبابات والمروحيات وطائرات الدعم الجوي ثابتة الجناح. لم تُحرّك بغداد ملف الاحتلال التركي للاراضي العراقية. وعلى غير مناسبة يُعلن رئيس الحكومة حيدر العبادي ان العراق خال من اية قواعد أو قوات أجنبية.
أزمة المياه بين دول حوض الفرات
19-09-2012
حاول العبادي في مهزلة دعائية في كانون الاول/ ديسمبر الفائت طرد القوات التركية المتمركزة في بعشيقة بعد قرار انقرة إجراء استبدال "روتيني" لـ 150 جندياً من اصل الفي جندي مضى على وجودهم في القاعدة عامين ونصف العام. وأمهل الرئاسة التركية نحو 48 ساعة ومن ثم 10 أيام، ليستصدر من البرلمان قراراً بتفويضه "اتخاذ الخطوات والاجراءات التي يراها مناسبة بشأن التواجد التركي على الاراضي العراقية". لكن الحكومة لم تبادر بعدها الى اتخاذ أي موقفٍ حتى دعائي من ذاك التواجد العسكري.
ووسط الصمت المطبق لبرلمان العراق الإتحادي، أعلن 10 نواب معارضين في برلمان إقليم كردستان ينتمون الى "الاتحاد الوطني الكردستاني" و"حركة التغيير" و"الجماعة الاسلامية"، البدء بحملة لجلاء القوات التركية من الأراضي العراقية، وتقديم مذكرة الى برلمان الاقليم لاستصدار قرار يُلّزمها والحكومة الاتحادية بالحفاظ على الحدود السيادية واخراج القوات التركية.
التركمان العراقيون
لا يُغلَق باب التدخل التركي في العراق على ادعاءات مكافحة حزب العمال، فإعلانها الوصاية والحماية على المواطنين التُركمان، مثال آخر عن السياسات المتعجرفة التي تقوم بها انقرة. فعلاوة على حثها لتركمان العراق بان يتبنون أنها ممثلهم والمدافع عن مصالحهم، فأنها تدعم الاحزاب والتكتلات السياسية التركمانية، ولاسيما في كركوك، وتوفر لهم استضافة دائمة في انقرة وتزج بهم في تسويق سياساتها الخارجية، وسط سكوت بغداد ورضاها بالعبث التركي في ملف المكونات العراقية.
الاستفتاء الكردي على الانفصال
تغض بغداد النظر عن كل التدخلات التركية والسياسة المائية العدائية المُدمرة للحصول على دعم أنقرة تجاه المطالبة الكردية بالانفصال عن العراق، دون التفكير بأن الضرر الأكبر لذاك الانفصال يعود على أنقرة ويقوّض مساعيها لانهاء الازمة الكردية المشتعلة على أراضيها. وعلى الرغم من ذلك، ظل الموقف التركي حيال الاستفتاء الكردي على الاستقلال انتهازياً ومراوغاً، وأبقى على حبل علاقة متين مع حزب بارزاني، فيما رمى لبغداد بورقة من "كيسها" بالتعاون في إدارة المنافذ الحدودية.
وهناك ورقة مضافة بيد بغداد تتمثل بانبوب النفط العراقي الى جيهان، الذي يؤمن لتركيا نفطاً مدعوماً وارباحاً كبيرة.
دائماً ما تتخلى بغداد عن حقوقها وتعطي لجيرانها الفرصة اللعب بملفاتها الحصرية. لم تستغل الحكومة العراقية الهلع التركي من إعلان الكرد نية الإنفصال لفرض شروط تفاوضية والحصول على مكاسب، بل راحت تحث الاتراك على معاقبة الكرد على خطوتهم الفاشلة عبر الإضرار أكثر بمصالح عراقية في نهاية المطاف.
ولا يبدو أن بنية بغداد التحرك خارج الزيارات السياحية التي يقوم بها وزير الموارد المائية والتي لم تحقق أي نجاح باستعادة الحق العراقي، فيما تصريحاته تتبدل بحسب موقع صدورها: ففي انقرة يعلن عن إنفراج، وفي بغداد يعلن عن كارثة.
إيران ومياه العراق: طرائق في الخنق (2)
05-03-2018