شوفوا لو عايزين تأمنوا على العمال وتطلعوا قانون أو قرار يلزم الشركات بدفع تأمينات العمال بشكل مركزي اعملوا كدا». هكذا وضع السيسي العمالة غير المنتظمة في صدارة المشهد الإعلامي حينما تحدث عنها في إحدى خطبه خلال الشهر الماضي، قبل أن تطلق الدولة مبادرة للتأمين على حياة العمّال المؤقتين والموسميين، في صورة شهادة بنكية أطلقت عليها شهادة «أمان المصريين».
الشهادة التي أطلقتها أربعة بنوك وشركة تأمين حكومية، أعلن عنها رئيس الوزراء شريف إسماعيل في بداية مارس الجاري، وقال إنها جاءت تلبيةً لتوجيه الرئيس عبد الفتاح السيسي بالتأمين على العمالة المؤقتة، وخاصة في قطاع التشييد والبناء، والذين أكّد إسماعيل أن عددهم يقارب ثلاثة ملايين عامل، فيما تقدّر وزارة القوى العاملة عدد العمالة غير المنتظمة ككل بنحو 15 مليون عامل.
ورغم تأكيد الحكومة على أن طرح هذه الشهادات يوفر شبكة أمان للعمالة غير المنتظمة، فإن خبراء في مجال التأمينات وممثلين للعمال يوضحون أن الشهادة يجب ألا تعتبر بديلًا عن وضع نظام تأمين اجتماعي شامل للعمالة غير المنتظمة، مؤكدين أنها لا تحمي العمال المؤقتين والموسميين من أي مخاطر سوى الوفاة، ولا تعطي أسرهم الأمان طويل الأجل الذي يكفله التأمين الاجتماعي.
تأمين على الحياة متاح للجميع
شهادة أمان المصريين طرحتها بنوك «الأهلي»، و«مصر»، و«القاهرة»، و«الزراعي المصري»، قبل أسبوعين، وتتولى الجانب التأميني الخاص بها شركة «مصر لتأمينات الحياة» التابعة للدولة.
وتدمج شهادة أمان بين شهادة الادّخار ووثيقة التأمين، فيحصل المشتري على شهادة بفائدة 16% لمدة ثلاث سنوات، قابلة للتجديد ثلاث مرات، أي أن الحد الأقصى للشهادة تسع سنوات. وفي نفس الوقت، تحصّل شركة التأمين جزءًا من الفائدة، يتراوح نقديًا ما بين أربعة جنيهات، و20 جنيهًا شهريًا، لتٌتيح لأصحاب الشهادات تأمينًا في حالة الوفاة الطبيعية، أو بسبب حادث، حده الأدنى 10 آلاف جنيه، وحده أقصى 250 ألف جنيه.
وأكّد رئيس الوزراء شريف إسماعيل في اجتماع لمجلس الوزراء أن الشهادة لن يتمّ استرجاع قيمتها قبل ست سنوات من تاريخ شرائها.
ويحصّل ورثة المُؤمّن عليه المبلغ إما دفعة واحدة، أو كمعاش يتمّ صرفه على النحو المبين في هذين الجدولين، واللذين حصل «مدى مصر» عليهما من أحد فروع بنك مصر.
وعلى الرغم من تصريحات السيسي وإسماعيل حول استهداف تأمين عمال التشييد والبناء، إلا أن الشهادة في الواقع متاحة لأي مواطن مصري يستطيع تسديد ثمنها، كما أكّد إيهاب درة، رئيس قطاع التجزئة المصرفية ببنك مصر، في تصريحات إعلامية.
مظلة تأمينية جديدة
يؤكّد أيمن الألفي، العضو المنتدب السابق لشركة «الدلتا لتأمينات الحياة»، أنه في بلد مثل مصر، يقلّ فيه معدّل انتشار التأمين على الحياة عن 1% من المجتمع، فإن شهادة أمان «ستجذب فئات أكثر بكثير إلى هذا النوع من التأمين».
يرى الألفي أن الشهادة الجديدة سيكون لها فوائد غير مباشرة، منها أنها ستنشر ثقافة التأمين بين العمالة المؤقتة والموسمية، فضلًا عن أنها ستساهم في حصر أعداد أكبر من العمّال غير المدرجين في إحصاءات الدولة.
ويوضّح الألفي أن شهادة أمان ليست بالضرورة أرخص من منتجات تأمينية موجودة في سوق التأمين على الحياة، ولكن الاختلاف الأساسي الذي يجعلها جذابة هو عدم تطلبّها لتحاليل وفحوصات طبية.
«الشهادات جذابة لسهولة شرائها، فمن جانب يعدّ قسطها رخيص وحساباتها بسيطة، ومن جانب آخر فإنها لا تتطلب مستندات كثيرة قد تقلّل الإقبال عليها من العاملين المستهدفين»، كما يقول الألفي.
وأكد درة أن الشهادة يمكن شراؤها من فروع البنوك التي طرحتها دون أي أوراق، سوى البطاقة الشخصية.
وبحلول نهاية الأسبوع الثاني من طرحها، باعت البنوك الأربعة ما يربو على 25 ألف شهادة «أمان»، بحسب تقارير إعلامية، بقيمة تبلغ نحو 41 مليون جنيه.
ويعلق الألفي على الإقبال على الشهادة التأمينية بأن المستفيدين ما زالوا في مرحلة التعرّف على الشهادة، وأن الإقبال سيزيد تدريجيًا مما سيغطّي تكاليف الإصدار بالنسبة للبنوك وشركات التأمين.
وكان رئيس هيئة الرقابة المالية، محمد عمران، أكّد في بيان مطلع الشهر الجاري أن الهيئة راجعت الدراسات الاكتوارية والعقود المقترحة للشهادة الجديدة، وتأكدت من سلامة النواحي الفنية والإجرائية والتنظيمية، وتحققت من «العدالة في تسعير المنتج التأميني بما يعود بالفائدة على المستفيدين طبقًا للقيمة الحقيقية للأقساط المسددة، وبما يحافظ على حقوق حملة وثائق التأمين وسلامة واستقرار سوق التأمين المصري».
وإضافة إلى ذلك، يرى الألفي أن الشهادة وسيلة لرجال الأعمال «ليدعموا البلد»، بحسب تعبيره، عبر التأمين على العمالة المؤقتة لديهم، مما سيساهم في انتشار الشهادة بين العاملين، ويضمن تحقق جدواها.
2.5 مليون جنيه من كل شركة؟
عقب إعلان رئيس الوزراء عن الشهادة، حثَّ الرئيس السيسي شركات المقاولات المتعاقدة مع الدولة على التأمين على عمالها، متسائلًا: «إيه 2.5 مليون من كل شركة بتشتغل في مشروعات بالـ 100 مليون، والـ200 مليون، والـ300 مليون؟»، معبّرًا عن ضآلة المبلغ النسبية في سبيل التأمين، وأملًا في أن تودع الشركات 2.5 مليار جنيه تأمينًا على مليون عامل خلال الأسابيع المقبلة.
وبالفعل تحدثت هيئة الشؤون المالية للقوات المسلحة مع ممثلين من شركات مقاولات الأسبوع الماضي، وتتمّ دراسة كيفية تنفيذ المقترح، بحسب حسن عبد العزيز، رئيس الاتحاد المصري لمقاولي البناء والتشييد، وهو الاتحاد الممثل لجميع شركات المقاولات في مصر.
ويقول عبد العزيز لـ «مدى مصر» إن التأمين على عمّال البناء به بعض الصعوبات. إحدى هذه الصعوبات أنه ليس يسيرًا على جميع الشركات شراء الشهادات بالمبالغ التي ذكرها السيسي، مؤكدًا أن الكثير من الشركات لا تستطيع تسديد مبلغ 2.5 مليون جنيه الذي اقترحه.
«توجد شركات كثيرة صغيرة في مجال المقاولات، لا تستطيع دفع مليون أو اثنين، ولا حتى 50 ألف جنيه لأن حجم أعمالها متواضع، ولذلك ننسق مع هيئة الشؤون المالية ووزارة الإسكان حتى لا يتحمّل المقاولون الصغار الكثير في هذه المبادرة».
وصعوبة أخرى قد تواجه تطبيق النظام، هي أن عمّال المقاولات يعملون لدى هذه الشركات لفترات قصيرة، قد لا تتعدى بضعة أشهر، ولذا يؤكد عبد العزيز على ضرورة إنشاء نظام ذكي يوفّر للعمال والشركات قاعدة بيانات تحتسب لهم المُدد التي عملوا بها لدى كل شركة ليتمكنوا من سداد قيمة التأمين، ويحصلوا في النهاية على مستحقاتهم.
وكان السيسي قد ذكر خلال إطلاق الشهادة أن الشركات يمكنها استرداد قيمة الشهادات من العمّال على مُدد زمنية مناسبة، ولكنه اقترح أن تتحمل سداد الشركات تكلفة الشهادات، بدلًا من العمّال كنوع من الصدقة.
ويؤيد عبد العزيز رأي الرئيس، معتبرًا أن الشركات عليها رؤية هذه الشهادة كضمان اجتماعي لعمال البناء، وبالتالي تسديد تكلفتها من مالها الخاص، قائلًا إن «العمالة من ضمن رأس المال، الشركات مش هتكسب بدون العمالة».
شهادة لا تأمين
يختلف الباحث الاقتصادي إلهامي الميرغني مع الخطاب الرسمي المُتحدِّث عن شهادة «أمان» باعتبارها نوع من التأمين الاجتماعي، ويرى أنها بالأساس أداة تجارية في إطار سعي الدولة نحو توسيع قاعدة المواطنين المتعاملين مع النظام البنكي (الشمول المالي) وتنشيط الحركة المصرفية.
ويوضّح الميرغني رأيه قائلًا إن التأمين الاجتماعي لا يقتصر على نوع واحد من المخاطر، مثل شهادة «أمان» التي تقتصر على التأمين على الحياة، بل يجب، وفقًا لمنظمة العمل الدولية وقانون التأمين الاجتماعي المصري (قانون 79 لسنة 1975)، أن يشمل أيضًا التأمين ضد مخاطر الشيخوخة، والعجز، والمرض، والإصابات، والبطالة، وهذه لا تتمتع بها العمالة الموسمية وغير المنظمة، بحسب الباحث.
يضيف الميرغني أن أي تأمين اجتماعي في العمل يجب أن يتمّ بين ثلاثة أطراف، هم العامل وصاحب العمل والدولة، فتلتزم الدولة بتقديم الخدمة التي يدفع ثمنها العامل وصاحب العمل معًا، تتمّ وفق منظومة تأمين عامة.
وفي هذا الصدد، يؤكد شعبان خليفة، رئيس النقابة العامة للعاملين بالقطاع الخاص، أنه رغم تأييد النقابة لمبادرة شهادة «أمان»، وإصدارها بيان للإشادة بها، إلا أنها لا تغني عن ضرورة تقديم تأمين اجتماعي للعمالة غير المنتظمة.
«شهادة أمان لا تورث، ولا تؤمن ضد العجز، ولا تنظم العلاقة بين العامل وصاحب العمل، وكل هذه نقاط يجب التطرّق لها إن أرادت الدولة التأمين على ملايين العاملين غير المنتظمين بحق»، بحسب تعبير خليفة.
يذكر خليفة أن العمالة غير المنتظمة غير ممثلة إلا في أضيق الحدود في التشريعات السارية الآن، ويطالب بـ «باب كامل في مسودة مشروع قانون العمل الذي أعدّته الحكومة ينظم العلاقة بين هؤلاء العمال وأصحاب العمل ويعطي العمالة غير المنتظمة حقوقها، وباب آخر ينشئ صندوقًا للتأمين على العمالة غير المنتظمة يجعل الحكومة بمثابة صاحبة العمل بدلًا من أصحاب العمل لتضمن لهم حقوقهم».
وقالت الحكومة المصرية إن قانون العمل الجديد، الذي وافق عليه مجلس الوزراء هذا الشهر، سيضمن تنظيم العمالة غير المنتظمة، وأنه سيسهم في تقديم تأمين اجتماعي لها، لكنها لم توضح التفاصيل الخاصة بكيفية تحقيق هذا على أرض الواقع.
ويؤكّد خليفة أن «(أمان) شهادة إدّخار أكثر منها وثيقة تأمين، ونحن لسنا ضدها، ونؤيد إنعاشها لسوق التأمين الذي يعمل به 800 ألف موظف، نحن ندعمهم، لكن لابد لكل عامل غير منتظم أن يعلم حقيقتها».
عثمان الشرنوبي