القطاع العمومي في تونس: ثلاثون تهدم ثلاثين..

ثورة يناير 2011 هي ردّ على عقود من السياسات الاقتصادية الفاشلة. لكن الحكّام الجدد لم يفهموا الرسالة، وأصبحت ثقافة الغنيمة حاضرة لديهم بقوة، ويحاول كل حزب كبير إرضاء أنصاره ومموليه..
2018-03-22

شارك
وائل درويش - مصر

لا يكاد يمرّ يوم من دون أن نشاهد خبيراً اقتصاديا (لا أحد يعرف من نصّبه "خبيراً") يتحدث في الإعلام التونسي عن "العبء" الذي أصبح يشكّله القطاع العمومي على البلاد، بحكم تضخّم كتلة أجور موظفيه وتزايد خسائر مؤسساته وتردي خدماته. يندر أن يمرّ يوم من دون أن نسمع سياسيين ورجال أعمال وخبراء ينادون بخصخصة مؤسسات عمومية حيوية، كحلّ سحري لتخفيف أزمة البلاد وخلق دينامية اقتصادية جديدة. من الصعب أيضا أن يمرّ يوم من دون ان نقرأ رقماً مفزعاً عن خسائر مؤسسات عمومية أو عن فضيحة إهمال أو فساد فيها.

الكل في تونس يشتكي من القطاع العام ولكن لأسباب مختلفة. هناك من يشتكي نظراً لعدم تطوّر هذا القطاع وتراجعه المستمر، في حين يشتكي آخرون من استمرار وجوده أصلاً.  تركيز الإعلام التونسي ــ المملوك في أغلبه من رجال أعمال ــ على مشاكل القطاع العمومي يدخل في خانة الحق الذي يراد به باطل. لا يتعلق الأمر بإعلامٍ مواطنيّ تحركه الغيرة على المرفق العام بل هي جرعات مركّزة هدفها تهيئة الرأي العام لتقبل مخططات تصفية مكتسبات بنيت بدماء وعرق أجيال من التونسيين. منتصف شباط/ فبراير 2018 أعلن "الإتحاد العام التونسي للشغل" عن انطلاق حملة الدفاع عن القطاع العام في تونس. حملة متأخرة بعض الشيء لكنها أكثر من ضرورية، لأن القطاع العمومي مهدد جدياً بالتصفية والتحول الى مجرد جهاز إداري وأمني يخدم طبقات على حساب أخرى. لكي نفهم كيف وصلت الأمور إلى هذا الحد سيكون من المفيد العودة الى تاريخ ذلك القطاع وتتبع حركة تطوّره بناء وهدماً..

مرحلة البناء المتعثر

بدأت جهود بناء القطاع العمومي في تونس منذ أواسط القرن التاسع عشر نتيجة انبهار البايات والمصلحين المقربين منهم بتقدم الدول الأوروبية وسعيهم لتقليد بعض مظاهره. تمّ انشاء بعض المستشفيات والمدارس لكنها بقيت متركّزة في العاصمة تونس ومتاحة أساساً لعلية القوم. استعمار فرنسا لتونس أجهض مشروع الدولة الوطنية العصرية وأسس قطاعاً عمومياً كولونيالياً يخدم الجاليات الفرنسية والأوروبية وبدرجة أقل الأعيان المحليين في العاصمة والمدن الكبرى. عند استقلال تونس لم تجد الدولة الحديثة الا نواة لقطاع عمومي ضعيف ومحدود، ووجدت نفسها مجبرة على البداية من الصفر تقريباً. قامت في مرحلة أولى بتونسة الإدارات والمؤسسات الموجودة ثم شرعت في البناء. لم يكن الأمر سهلا ابداً، فمن جهة هناك شح رهيب في الموارد المالية ومن جهة أخرى نقص كبير في الكوادر البشرية والخبرات القادرة على إنشاء وتسيير المرفق العمومي. ركزت الدولة التونسية في العشرية الأولى التي تلت الاستقلال على انشاء المدارس والمعاهد والمؤسسات الصحية والإدارات المركزية، وبالطبع الأجهزة الأمنية. خلال تلك الفترة كان الاقتصاد التونسي جنينياً ويقوم أساساً على تصدير الثروات الطبيعية والأنشطة الفلاحية والحرفية التقليدية.

استعمار فرنسا لتونس أجهض مشروع الدولة الوطنية العصرية وأسس قطاعاً عمومياً كولونيالياً يخدم الجاليات الفرنسية والأوروبية، وبدرجة أقل الأعيان المحليين في العاصمة والمدن الكبرى..

بداية من أواسط ستينيات القرن الماضي، ستشرع الدولة التونسية في إقامة مؤسسات تجارية وصناعية عمومية، كما انها ستبدأ في تطبيق سياسة التعاونيات الفِلاحية من أجل تحقيق الأمن الغذائي. لم تحظَ كل المدن التونسية بحضور القطاع العام بنفس الدرجة، وبقيت الواجهة البحرية للبلاد أكثر حظاً عموماً من بقية البلاد. كما ان ترسيخ حضور الدولة الخدماتي تزامن مع تركيز أسس الديكتاتورية. وعلى الرغم من كل هذا، فإن بورقيبة ورجالاته كانت لديهم شعبية كبيرة بحكم دورهم في الحركة الوطنية وفي بناء الدولة بعد الاستقلال.

استمرت جهود الدولة في تنمية القطاع العمومي الى حدود أواسط السبعينيات من القرن الماضي، ثم بدأت سرعتها تخفت مع تبني النظام للنهج الاقتصادي الليبرالي. أصبحت سياسة الدولة الجديدة تقوم على تشجيع القطاع الخاص المحلي والاستثمار الأجنبي. وبدأت تعوّل على السياحة والصناعات الخفيفة والفلاحة السقوية المعدة للتصدير. تقلص دورها في الاستثمار والتنمية عمّق فقر وعزلة المناطق الداخلية التي لا تغري المستثمرين، لا المحليين ولا الأجانب.

بدأت الخصخصة بنسق بطيء و"ناعم" وشملت في مرحلة أولى قطاعات هامشية ومؤسسات مفلسة، ثم تطورت لتشمل المؤسسات الرابحة والقطاعات الحيوية وحتى الأراضي الأميرية..

مع تخبط سياسات الدولة الاقتصادية وتراجعها عن دعم وتطوير القطاع العمومي، تضررت عدة طبقات إجتماعية. هذا التململ الاجتماعي تزامن مع اشتداد القمع السياسي وتراجع شعبية الحبيب بورقيبة الذي هرم وأصبح غير قادر على إدارة الصراع بين مختلف أجنحة السلطة. كان من الطبيعي ان تدخل تونس مرحلة أزمات وانتفاضات شعبية بدأت منذ أواخر سبعينيات القرن العشرين ("الخميس الأسود" كانون الثاني/  يناير 1978)  واشتدت حدتها لتصل أوجها مع "انتفاضة الخبز" 1984.  لم تجد السلطة المتأزمة حلاً أفضل من سياسة الهروب إلى الأمام عبر قمع الاحتجاجات بالرصاص الحي، وعبر تبني "الوصفات الإصلاحية" السحرية للبنك الدولي والتي تستهدف بالدرجة الأولى القطاع العمومي..

مرحلة الهدم الممنهج

تعتبر العشرية الممتدة من 1986 إلى 1996 فترة مفصلية في تاريخ تونس الحديث، فخلالها شهدت البلاد انقلاباً أطاح بالحبيب بورقيبة وأتى بالجنرال بن علي مكانه. خلال هذه الفترة، تمكن الرئيس الجديد من قصم ظهر المعارضة السياسية وتدجين النقابات وأغلب منظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام، ليجد الطريق سالكاً لتطبيق سياساته النيوليبرالية. سنة 1986 وقّعت تونس على برنامج الإصلاح الهيكلي الذي اقترحه البنك الدولي "لإخراج البلاد من أزمتها الاقتصادية" (التي لم تخرج منها إلى اليوم)، وطبعا كان القطاع العمومي هو"بيت القصيد": الخصخصة، تحجيم تدخل الدولة في المجال الاقتصادي وتقليص مصاريفها الإجتماعية. بعدها بسنوات قليلة، وقعت تونس اتفاقيتين رسختا انخراطها في منظومة اقتصاد السوق والانفتاح: الانضمام الى منظمة التجارة العالمية سنة 1994 وتوقيع اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي سنة 1995. بدأت الخصخصة بنسق بطيء و"ناعم" وشملت في مرحلة أولى قطاعات هامشية ومؤسسات مفلسة، ثم تطورت لتشمل المؤسسات الرابحة والقطاعات الحيوية وحتى الأراضي الأميرية (في شكل عقود إيجار بأمد طويل).. ولم يكتفِ النظام بالضرب التدريجي للقطاع العام بل جعل منه أداة اثراء وضغط في يد العائلة الحاكمة والمقربين منها.

مقالات ذات صلة

السنوات الأخيرة من حكم بن علي شهدت نزيفاً حاداً في المؤسسات العمومية وفق استراتيجية واضحة: إهمال وفساد كبيران يسببان خسائر تؤدي إلى افلاس المؤسسة العمومية ومن ثَمّ عرضها للبيع. عادة ما يكون المشتري مستثمراً أجنبياً أو رجل أعمال مقرب من دائرة السلطة. شمل ذلك بنوكاً عمومية ومصانع الاسمنت والألبان ومجمع السكر غيرها. وحتى في الحالات التي لا يتم فيها خصخصة المؤسسة بالكامل، يتم فتح رأسمالها للمساهمات الخاصة وللتداول في البورصة. انفتحت شهية النظام بطريقة غير مسبوقة ويبدو انه كان يتهيأ لتصفية قطاعات استراتيجية مثل شركات توزيع الكهرباء والغاز والماء. وفي ذلك الوقت، كانت المؤسسات المالية الدولية والدول الأوروبية الصديقة تشيد بمعجزة تونس الاقتصادية وبحكمة نظام بن علي.

انفتحت شهية النظام على تصفية قطاعات استراتيجية مثل شركات توزيع الكهرباء والغاز والماء، فيما كانت المؤسسات المالية الدولية والدول الأوروبية "الصديقة" تشيد بمعجزة تونس الاقتصادية وبحكمة نظام بن علي..

"معجزة" بن علي لم تصمد كثيراً وكفر بها التونسيون. ثورة يناير 2011 هي قبل كل شيء رد على عقود من السياسات الاقتصادية الفاشلة، لكن الحكام الجدد لم يفهموا الرسالة. واصلوا مسيرة التضحية بالمكاسب الوطنية والاقتراض والتسول لدى "الشركاء" الاقتصاديين من دول أوروبية وخليجية (بدرجة أقل) ومؤسسات مالية دولية. وتترافق مع كل قرض و"هبة" شروط واملاءات جديدة تستهدف كالعادة القطاع العمومي. مرور الدولة التونسية بمرحلة انتقالية تتميز بعدم الاستقرار السياسي (عشر حكومات في ظرف سبع سنوات) أضعف أيضاً قدرتها على التفاوض. كما أن انتقال السلطة من دائرة ضيقة الى صراع مفتوح بين مراكز متعددة تسبب في تفاقم الأمور. ثقافة الغنيمة أصبحت حاضرة بقوة، فكل حزب كبير يحاول إرضاء أنصاره ومموليه الداخليين والخارجيين وذلك عبر مَنحهم مناصب إدارية وسياسية أو صفقات عمومية دسمة. يضاف الى كل هذا غياب الرقابة وآليات تقييم شفافة لأداء الموظفين الصغار والكبار في أغلب المؤسسات العمومية.

الأدهى من ذلك ان الدولة لا تكتفي بتصفية أملاكها (أملاك الشعب) بل تدعم منافسيها من الداخل وخصوصا من الخارج، وذلك أولاً عبر خدماتها متدنية الجودة، وثانيا عبر إقرار محفزات للمستثمرين: قروض، إعفاءات جبائية، التكفل بسداد جزء من أجور الموظفين الجدد من حاملي الشهادات العليا في القطاع الخاص خلال السنة الأولى من تعاقدهم مع صاحب الشغل، الخ..

قد يقول البعض وما المشكلة في خصخصة مؤسسات وقطاعات عمومية، فذلك سيخلق دينامية اقتصادية كبيرة، والتنافس بين المستثمرين سيحسن جودة الخدمات الخ... التجربة هي المحك. فلنأخذ مثلاً الصحة والتعليم وهما من أهم القطاعات التي استثمرت فيها الدولة التونسية خلال مرحلة البناء. ثم شجعت منذ أواخر الثمانينيات/ بدايات التسعينيات بعث مؤسسات تعليمية وصحية خاصة. في البداية لم يكن للأمر تأثير كبير وظلت موجهة أساساً للمقتدرين مالياً. المشكلة ان تطور القطاع الخاص "تزامن" مع تردي القطاع العمومي: اكتظاظ كبير، نقص في عدد المدرسين والأطباء، اهتراء البنية التحتية. وهكذا بدأت الطبقات الوسطى تتجه شيئاً فشيئاً نحو الخاص على الرغم من تكلفته الكبيرة التي تفوق قدرتها المادية. ضعف الأجور وغياب ظروف عمل مقبولة سيدفع بجزء من كوادر هذه القطاعات نحو المؤسسات الخاصة في مرحلة أولى والهجرة الى أوروبا والخليج في مرحلة ثانية. تشهد البلاد اليوم نزيفاً هائلاً في الأدمغة سيفاقم من تردي القطاع العام ويفتح السوق أكثر أمام القطاع الخاص.

قطاع البناء والإسكان أيضاً يقدم تطبيقاً نموذجياً لما يمكن ان تؤدي اليه سياسة الخصخصة وتراجع دور القطاع العمومي. الدولة التونسية كانت تنتج الاسمنت والحديد وعدة مواد بناء وتسوقها بأسعار معقولة، مما يسهل للطبقة الوسطى وحتى "المحظوظين" من الفقراء تملك مساكنهم الخاصة. ثم قررت أن تسمح بوجود منافسين خواص قبل ان تتخلى أصلاً عن مصانعها ــ على الرغم من أن هذه الأنشطة مربحة ــ فتضاعفت أسعار هذه السلع. لم تكتفِ بذلك بل قلصت من حجم تدخلها في مجال الإسكان الاجتماعي، مما خلق نقصاً كبيراً في عدد المساكن ومثّل فرصة ذهبية للمضاربين في مجال الأراضي والعقارات. إرتفعت أسعار مواد البناء والأراضي والمساكن بشكل جنوني، مما جعل تملّك مواطن من الطبقة الوسطى لمسكن أمراً صعباً جداَ. وعندما لا يكون لديك القدرة على شراء منزل بمدخراتك فأنت مجبر على إستئجار واحد بمقابل مرتفع أو الحصول على قرض بنكي بشروط مجحفة. المستفيدون من هذه "الدينامية" ليسوا بالتأكيد المواطنين البسطاء بل مجموعة صغيرة من المقاولين والمصرفيين والمضاربين.

من يتحمل مسؤولية "اغتيال" القطاع العمومي؟

"البرجوازية" المحلية والمصالح الأجنبية هي المستفيد الأول من "الجريمة"، لكنها ليست هي المسؤولة. فهذه الجهات تريد الشيء نفسه في كل بلدان العالم. لكن هناك دول (ومجتمعات) تقاوم وأخرى تفاوض وتناور، وهناك من يختار الرضوخ الكامل والمخزي. الدولة التونسية تميل أكثر للخيار الثالث وهي المسؤول الأول والأكبر عن إضعاف القطاع العمومي عبر رعايتها للفساد وللعلاقات الزبائنية ورضوخها غير المشروط لأطماع الدول الغربية وإملاءات المؤسسات الدولية ووكلائها المحليين. لكن، للأمانة، هناك "ضحايا" متواطئون في هذه الجريمة...

يتحمل المواطنون جزءاً من المسؤولية. فالموظفون هم في آخر الأمر تونسيون لم يأتوا من المريخ. تهاونهم في تأدية واجباتهم وتشبثهم بامتيازاتهم (وليس حقوقهم) من دون أي مراعاة للمصلحة العامة يعطي ذريعة للحكومات والطبقات الراغبة في خصخصة كل شيء. يتعامل أغلب التونسيين مع مستقبل القطاع العام بلامبالاة محيرة، يسمونه "رزق الحاكم" (أي ملك الدولة) وكأنه ليس إرث أجدادهم وآبائهم وملكهم اليوم، وأمانة يجب الحفاظ عليها من أجل أبنائهم وأحفادهم. كلما ساءت خدمات القطاع العام كلما اختار التونسيون ــ القادرون ــ الحل "الأسهل" وهو الذهاب الى الخاص، عوض المطالبة بتطوير المرفق العمومي والدفاع عنه كمكسب وطني. بل ان الكثيرين يختارون المشافي والمدارس الخاصة للتباهي وإبراز تفوقهم الاجتماعي. جزء كبير من الذين يختارون الوظيفة العمومية لا يفعلون ذلك لأنها تتناسب مع مؤهلاتهم واحلامهم ولكن لأنها مريحة وتضمن لهم دخلا ثابتاً وحقوقاً أكبر بكثير من تلك التي يمنحها المشغلون الخواص. ولا يبدو أيضاً ان مسألة المحسوبية والفساد في التوظيف تزعج كثيراً المواطنين الا أصحاب المبادئ أو الذين ليس لديهم "كتف" قوي يستندون اليه. لا داعي للحديث عن الطريقة التي يتعامل بها أغلب التونسيين مع الممتلكات العمومية. يمكن أن نفسر هذه اللامبالاة بالإرث الاستبدادي الذي رسخ قطيعة بين المواطن والدولة، والذي جعل من الفساد "رياضة وطنية". لكن اليوم لم يعد للتونسيين أعذار فهم من يختارون حكامهم ولديهم حرية التعبير وإمكانية التنظم والتحرك للدفاع عن القطاع العام وتطويره.

هناك "ضحايا" متواطئون في الجريمة، إذ يتحمل المواطنون جزءاً من المسؤولية.. وكلما ساءت خدمات القطاع العام كلما اختار التونسيون ــ القادرون ــ الحل "الأسهل" وهو الذهاب الى الخاص، عوض المطالبة بتطوير المرفق العمومي والدفاع عنه كمكسب وطني..

الاتحاد العام التونسي للشغل الذي ينظّم حملة الدفاع عن القطاع العام هو الآخر قام بأخطاء كبيرة. فلقد وافق ــ على الأقل القيادات ــ على أغلب سياسات الدولة منذ الاستقلال الى حدود اليوم. وإذا ما استثنينا لحظات الصدام الكبرى (1978، 1984، 2011)، فإن المنظمة النقابية كانت في أغلب الأحيان طيعة ومهادنة وحتى متواطئة سواء عندما تعلق الأمر بخصخصة مصانع ومنشئات عمومية أو بالمحسوبية في التوظيف، وكذلك عند اعتماد أشكال عمل هشة. نقابات إتحاد الشغل لا تكتفي بالدفاع عن المصالح المادية والمعنوية للموظفين، بل هي تحميهم بشكل أعمى حتى عندما يرتكبون أخطاء وجرائم في حق القطاع العام والمواطن، مما جعل الكثير من الموظفين يشعرون أنهم فوق المحاسبة، وهو أمر يثير حنق التونسيين ويزيد من نقمتهم على القطاع العمومي.

تعيش تونس اليوم لحظة فارقة، فمسيرة هدم القطاع العمومي مرّت الى السرعة القصوى. ما كانت الديكتاتورية تمرره في عقود بالقمع يمرّر اليوم، بالديمقراطية، في غضون أشهر وسنوات قليلة. الحبل يضيق حول رقاب الطبقات الوسطى والفقيرة، لكن الأغلبية لا تبالي أو لا تعي جيداً ما الذي يحصل، وما يزال الكثيرون يعتقدون بالخلاص الفردي. ربما يستيقظ الجميع عندما تأتيهم فواتير الكهرباء والغاز والماء من شركات خاصة، أو عندما لا يجدون لا المال الكافي للتداوي في القطاع الخاص ولا مؤسسات صحية عمومية توفر الحد الأدنى، أو عندما يصبحون غير قادرين لا على دفع مصاريف المدارس الخاصة ولا على إيجاد مدارس عمومية محترمة..

مقالات من تونس

للكاتب نفسه