مواضيع

النساء والتصوف: خصوصيّة التجربة وإشكاليّات التأريخ

أسئلةً عديدة تبرز هنا، تتعلق بمدى اختلاف التجربة الصوفية النسائية عن تلك التي تخص الذكور، وعن خصوصيتها، وعن نظرة الصوفية للمرأة، والدور الذي لعبته المتصوّفات عبر العصور التاريخية المختلفة..

منى علي علاّم | 14 آذار / مارس 2018
زهير حسيب - سوريا

حيثما أتى ذكر المتصوّفات في الإسلام يبرز اسم المتصوفة الشهيرة "رابعة العدوية". وبغض النظر عن الاختلاف القائم حول بعض تفاصيل في سيرتها وبعض ما هو منسوب إليها من أقوال أو أشعار، ورغم ما تمثله من مكانة عظيمة في تاريخ التصوف الإسلامي نالتها بما أحدثت من نقلة للتصوف من الزهد إلى العشق الإلهي، فإن رابعة لم تكن استثناء نسائيّا في ميدان انفرد به الرجال. إذ تمدّنا كتب التراث وعلى رأسها كتب الطبقات والتراجم بأسماء عدد كبير من النساء المتصوفات على مدار التاريخ الإسلامي الممتدّ زمانيّاً ومكانيّاً، بما يعني حضوراً فاعلا للمرأة في هذا الميدان، اهتم الباحثون بدراسته ولا يزالون، سواء في العالم العربي والإسلامي أم في الغرب.
ولعلّ أسئلةً عديدة تبرز هنا، تتعلق بمدى اختلاف التجربة الصوفية النسائية وخصوصيتها، وبنظرة الصوفية للمرأة، وبالدور الذي لعبته المتصوفات عبر العصور التاريخية المختلفة، وهو الذي يبدو في نظر بعض الباحثين أكثر زخما وتأثيرا مما سجلته كتب التاريخ.. وغير ذلك من أسئلة.

التجربة الصوفيّة للنساء: الظاهر والمسكوت عنه

في دراسة نُشِرت بدورية "جمعية دراسات المرأة والحضارة" بالقاهرة (العدد الثاني، يونيو 2001)، بعنوان "سيرة المتصوفات في التاريخ الإسلامي: وقفات أوليّة عبر تأملات منهجيّة"، تقدّم الباحثة عزة جلال تناولاً نقديا لتراجم المتصوفات في كتب الطبقات والأعلام، من خلال الاعتماد بصورة أساسية على كتبٍ ثلاثة: صفة الصفوة لابن الجوزي، ذكر النسوة المتعبدات الصوفيات لأبي عبد الرحمن السلمي، أعلام النساء لعمر رضا كحالة. اقتصرت هذه الكتب في ترجمة المرأة المتصوفة على التعرض لأحوال مجاهدتها وبعض الأقوال والأشعار المنقولة عنها. وإذا كان من الممكن ــ كما تشير الباحثة ــ  تفهّم ذلك خلال القرون الأولى (من القرن الثاني حتى القرن الخامس تقريبا) حيث ظل التصوف خلال هذه الحقبة (باستثناء نماذج قليلة) شأنا فرديّا يقوم على الزهد والعبادة والاعتزال عن الناس، فإن تجاهل الأبعاد الاجتماعية والسياسية والعلميّة لشخصية المرأة المتصوفة في القرون التالية، حيث تبلورت الطرقية (المدارس الصوفية) وبات التصوف ظاهرة اجتماعية، هو أمر يستدعي التساؤل. إذ لم تسجل هذه الكتب دور المرأة المتصوفة كواقفة، في إطار توجه النساء عموما للوقف على مساجد وزوايا وتكايا، مما ساهم في تطور الظاهرة الطرقية وقدّم خدمة ورعاية كبرى للتصوف لفترات طويلة. كذلك تجاهلها للتطور العلمي للمرأة المتصوفة من مرحلة كانت تكتفي فيها بالعلم الذي قد يحققه لها الكشف إلى مرحلة سعت فيها لاكتساب العلم وتعليمه للآخرين، حيث سكتت هذه الكتب عن وصف العديد من السيدات المحدِّثات بـ"المتصوفة" وكأن الصفة الأولى كمحدثة تجبّ الثانية كمتصوفة. بالإضافة إلى تجاهلها أيضا كعابدة داخل زوايا الوقف وتكاياه.

تجاهلت الكتب التطور العلمي للمرأة المتصوفة، من مرحلة كانت تكتفي فيها بالعلم الذي قد يحققه لها الكشف، إلى مرحلة سعت فيها لاكتساب العلم وتعليمه للآخرين، حيث سكتت هذه الكتب عن وصف العديد من السيدات المحدِّثات بـ"المتصوفة"، وكأن الصفة الأولى كمحدِّثة تجبّ الثانية كمتصوفة، بالإضافة إلى تجاهلها أيضا كعابدة داخل زوايا الوقف وتكاياه

وتثير الباحثة سؤالا حول عدم ظهور مدارس صوفية نسائية (طرق) على غرار ما تركه متصوفون رجال كالسيد البدوي وعبد القادر الجيلاني وأبي الحسن الشاذلي وعبد الرحيم القنائي وغيرهم. أو بتعبير آخر لماذا اتسم تناول التاريخ للمتصوفات بما أسمته الباحثة "الشخصنة"، فدار الحديث حول شخص المتصوفة دون ذكر صلتها بمعلّم أخذت عنه العلم أو تلميذ تتلمذ عليها، عكس الحال مع المتصوفين الرجال، هذا على الرغم مما يمكن استشفافه من بين سطور كتب الأعلام من وجود نماذج تشي بأنها كوّنت مدرسة وكان لها تلاميذ.

عدة احتمالات تطرحها الباحثة للإجابة عن هذا السؤال، ما بين تجاهل المؤرخين، أو تقاعس التلاميذ في حق شيخاتهم المتصوفات، أو أن كون التلاميذ والأتباع في الأغلب من النساء قد حال دون تشكّل مدرسة صوفية خاصة بالشيخة "القُطب" (مصطلح صوفي يشيرإلى المتصوف المتفقّه في الدين بحيث يؤخذ عنه العلم إلى جانب شهرته بالورع وكثرة التعبّد وربما ظهور كرامات)، وذلك بسبب الموانع الثقافية والتقاليد الشرقية التي تنظر للمرأة على أنها كيان قاصر عن منح العلم واكتسابه، بينما اختلف الحال في إفريقيا جنوب الصحراء مثلا، فالتقاليد الأفريقية الموروثة من فترة ماقبل الإسلام، كفلت للمرأة مكانة متميزة، مما أدى إلى ظهور شيخات لهن ذكر وتأريخ ومجالس وطلّاب، وقد امتد تأثير هذه الثقافة في المغرب العربي الذي عرف شيخات متصوفات.

وتعدّد الباحثة أسماء مثل عائشة العدوية (ت 1080هـ) التي انتفع  بها أهل مكناس، وقبرها من أشهر مزارات المدينة، وشبكة البصرية التي "كان في بيتها سراديب لتلامذتها وللمريدات تعلمهن طرق المجاهدات والمعاملة"، وعائشة الباعونية الدمشقية التي "أجيزت بالإفتاء والتدريس ثم أخذت في الـتأليف حتى اجتمع لديها طائفة من الكتب والرسائل والقصائد"، وفاطمة بنت عباس البغدادية المعروفة بأم زينب (ت 714هـ) التي "انتفع بها الكثير من النساء بمصر ودمشق، وأثنى عليها ابن تيمية". هذه النماذج وغيرها ــ  وفق الباحثة ــ تؤكد كسر النساء استبداد الرجال بمجالس العلم الصوفي، وأن القضية في مسألة تكوين المدارس كانت قضية جمع وتأريخ.

أما السؤال الأخير فهو عن الحياة الاجتماعية المسكوت عنها للمتصوّفات بشقيّها الخاص والعام، أي دورها كأم وزوجة، وتفاعلها مع المجتمع بأبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية. فمن ناحية كونها أما وزوجة تبرز خصوصية التصوّف النسائي عن تصوف الرجال، فالتصوف الذي يعني الخروج عن حدود الجسد وعالم المحسوس والتحليق في عالم الروح قد يتعارض مع تصور التفاصيل الحياتية العادية للمرأة، وتعكس بعض تراجم هؤلاء النسوة ما يمكن وصفه بالصراع بين رغبتها في التفرغ للعبادة والتبتّل وبين أعباء الزوجية والأمومة، فكان هناك تنازع بين وجوديها الاجتماعي والروحاني تطلّب ألوانا إضافية من المجاهدة عانتها المرأة لإدارة هذا الصراع وعقد مصالحة بين الجانبين، مما كان يستحق التسجيل. ومن ناحية أخرى، فرغم معاناة المرأة تشتتاً بين واجباتها الدنيوية وتطلّعاتها الروحية، لم تتخلّ عن دورها كزوجة وأمّ، أي واجباتها ومسئولياتها تجاه الزوج والأبناء، وذلك لحضور فكرة الاستخلاف والتكليف بالإعمار في ذهنها، على حد تعبير الباحثة.

اختلف الحال في إفريقيا جنوب الصحراء مثلاً، فالتقاليد الأفريقية الموروثة من فترة ما قبل الإسلام، كفلت للمرأة مكانة متميزة، مما أدى إلى ظهور شيخات لهن ذكر وتأريخ ومجالس وطلّاب، وقد امتد تأثير هذه الثقافة الى المغرب العربي الذي عرف شيخات متصوفات.

كذلك، فإن استحضار صورة المتصوّفات كزوجات يعددْن الطعام وينظفن المنازل وكأمهات يحملن أبناءهن ويرضعهن، وفي الوقت ذاته يعكفن على الصلاة والاستغفار والتسبيح يردّ مقولات الاستشراق المبنية على تشبيه التصوف بالرهبنة، إذ الأخيرة تقوم على تجنّب الدنيا والانعزال عنها، ومن ثم كانت الراهبات في التاريخ المسيحي باستمرار قلة معزولة في الأديرة، بعكس المتصوّفات المسلمات المنخرطات في الحياة.

أما من ناحية تفاعل المتصوفات سياسيّا واجتماعيّا واقتصاديّا مع مجتمعاتهن فيبرز نموذج السيدة نفيسة التي اجتمع لها كثرة العبادة والبكاء، والإحسان إلى المرضى، والتواصل مع رموز المجتمع كما فعلت مع الإمام الشافعي لمّا ورد الديار المصرية، كما أنه لما توفي أمرت بجنازته فأدخلت عليها فصلّت عليه. هذا إلى جانب القيام بدور المعارضة السياسية حين استغاث بها الناس من ظلم أحمد بن طولون وتوجهوا إليها يشكونه فقالت لهم: متى يركب؟ قالوا في غد، فكتبت رقعة تؤنبه فيها بشدة وتحذره من عاقبة الظالمين ووقفت بها في طريقه.

صورة المرأة بين التصوّف الفلسفي والتصوّف الأخلاقي

هذا عن تجربة النساء المتصوفات فماذا عن نظرة الصوفية للنساء وموقف أعلامها من المرأة؟ في دراسته المعنونة "التدين الصوفي في طبعته النسوية ورهان النوع الاجتماعي: لالة ميمونة رمز الصلاح الأنثوي" ("مؤمنون بلا حدود"، نوفمبر 2016) يشير الباحث المغربي مراد جدّي إلى أن التدين الصوفي أتاح للمرأة موقعا متميزا مقارنة بأنساق التدين الأخرى، ولكنّ موقف الصوفية من المرأة لم يكن دائما إيجابياً، بل ثمة اختلاف في هذا الموقف بين أشكال المعرفة الصوفية، فصورة المرأة في التصوف الفلسفي تختلف عنها في التصوف الأخلاقي. في الأول، يُنظَر للمرأة باعتبارها مبدأ الحياة الإنسانية كلها، وبالنسبة لابن عربي، أبرز رموز هذا التيار، فإن العلاقة بالمرأة تمثّل تجديدا للعلاقة مع الألوهية والطبيعة. ووفقا لما أورده جدّي اعتمادا على ما توصل إليه باحثون سابقون في فكر الشيخ الأكبر، فإن ابن عربي "يعتبر أن الذكورة والأنوثة الطبيعيتين مجرد عرضين بالنسبة إلى الإنسان، ولا يحق النظر إليهما كمعيارين للانتماء إلى الإنسانية أو الانحراف عنها"، ومن ثم فهو يرى في الفعل الجنسي "الدرجة القصوى لذوبان عنصري الأنوثة والذكورة بعضهما في بعض، أي عودتهما إلى الحالة الأصلية الأولى، وبذلك يتحقق الكمال المطلق حيث يتوحد في هذه الحالة المبدأ الفاعل (الذكورة) والمبدأ المنفعل (الأنوثة)، وعليه يُنظر إلى الفعل الجنسي باعتباره فعلاً من أفعال العبادة، بل أشرف حالات العبادة". كذلك، فإن طبيعة التكوين العاطفي للمرأة تجعل تجربتها الصوفية أكثر عمقا وحساسية.

صورة المرأة في التصوف الفلسفي تختلف عنها في التصوف الأخلاقي. في الأول، يُنظَر للمرأة باعتبارها مبدأ الحياة الإنسانية كلها. وبالنسبة لابن عربي، أبرز رموز هذا التيار، فإن العلاقة بالمرأة تمثّل تجديداً للعلاقة مع الألوهية والطبيعة

أما التصوف الأخلاقي، وهو الأكثر انتشارا، فقد تبنّى التصور الفقهي التقليدي للمرأة كرمز للفتنة والغواية، وكعقبة أمام بلوغ الولاية والصلاح، واعتُبر التعلّق بالمرأة، حتى إن كان ذلك بطريق شرعي أي بالزواج، مرادفا للانغماس في الدنيا، بل إن بعض الصوفية نظر إلى الزواج كعائق عن بلوغ الترقّي الروحي، ومن ثم تكون المرأة كائنا سلبيا ينبغي الابتعاد عنه لتحقيق الكمال.

المرأة الوَليّة

يذكر الباحث في الدراسة نفسها أنه رغم قلة النساء الصالحات مقارنة مع الرجال الصالحين، فإن تيار التصوف كان أكثر تقبّلا لحضور المرأة داخله، فتفوقت النساء كمًّا وكيفا مقارنة بالوسط الفقهي، وكان هناك العديد من النساء البارزات في مجال الولاية والصلاح في المغرب، وأن الذاكرة الشعبية قد خلّدت أسماء لم تذكرها النصوص التاريخية، من هؤلاء "لالة ميمونة" التي يتناولها الباحث نموذجا للصلاح النسوي باعتبارها رائدة التصوف النسوي الشعبي في المغرب. وبوجه عام يخلص جدّي إلى أنه "على الرغم من أن المرأة استطاعت بممارستها الدينية الصوفية حيازة موقع لها في نسق الولاية والصلاح، وتمكنت من تجاوز الصورة السلبية التي علقت بها في الأدبيات الفقهية والأخلاقية، وضمنت لنفسها الحضور في المجال العام عن طريق الأدوار التي أدّتها داخل الحقل الصوفي، وعلى المستوى المجالي من خلال الأضرحة التي شيدت لتخليد ذكراها المقدسة وإقامة مجموعة من الطقوس والممارسات للتبرّك والشفاعة بها، فإن الصلاح النسوي ظل متحَكّما فيه من طرف الصلاح الرجولي الذي امتلك وحده مفاتيح الدخول لنسق الولاية والصلاح ومنح رخص الاعتراف والمشروعية". فلم يكن للمرأة الوليّة أن تحقق ولايتها سوى بالارتباط بوليّ ذكر، إما عن طريق خدمته أو الزواج منه. كذلك، فإن الاعتراف للمرأة بالولاية وإثبات صلاحها ظل مرهونا بأدائها لأدوارها الأسرية ومرتبطا في المجمل بمقدار خدمتها وطاعتها للرجل، أبا أو زوجا أو أخا. كما تطرّق الباحث لإشكالية الجسد بالنسبة للمرأة المتصوفة، فقد قُدّمت المرأة الوليّة الصالحة في صورة عجوز "قد لصق جلدها بعظمها وعليها كساء خلق"، وهو ما يعني، وفق الباحث، أن الجسد مثّل عائقا أمام التدرج في مراتب الصلاح، فكان لا بد للمرأة من التخلص من كل معالم الأنوثة حتى تستحق مقام الولاية والصلاح.

.. لا يزال حقل "المرأة والتصوف" جديرا بالبحث والتقصّي، سواء للكشف عن جوانب من حياة المتصوفات لم تأخذ حقها من التدوين التاريخي، لمواجهة الاختزال المعتاد في أسماء أو جوانب بعينها، أم لمعرفة نظرة الصوفيّة وأعلامها للنساء وموقفهم منهن، أم غير ذلك من قضايا، لإلقاء أضواء جديدة على التجربة الصوفية التاريخية للنساء التي لم تحظَ بعد بالاهتمام الكافي.

مقالات من العالم العربي

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

فلسطين في أربع جداريات دائمة في "المتحف الفلسطيني"

2024-12-19

"جاءت انتفاضة الحجارة في 8 كانون الاول/ديسمبر 1987، وجلبت معها فلسفة الاعتماد على الذات، وبدأ الناس يزرعون أرضهم ويشترون من المنتوجات المحليّة، ويحتجّون على الاحتلال بأساليب ومواد وأدوات محليّة. وشعرت...

للكاتب نفسه

قصّة "هَدِية" مع الميراث

في زيارتي الأولى في العام 2016 ركّزتُ على التقصير الحكومي ونقص الخدمات الأساسية، وفي الثانية (2021) عملتُ واحتككتُ أكثر بموضوعات تتعلق بثقافة وسلوكيات الناس أنفسهم هناك: ختان الإناث، قتل النساء...

أوضاع صعبة يواجهها الوافدون السودانيون في مصر وعلى حدودها

قالت مفوضية اللاجئين إنه حتى 15حزيران/ يونيو الفائت، تمّ تمويل برنامج الاستجابة السريعة للأزمة السودانية، الذي يشمل مصر وتشاد وإثيوبيا وجنوب السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى، بنسبة 15 في المئة فقط...