تعرف السعودية أنّ عليها أن تتعلم حتى تقدر على الفكاك من ذلك النوع من التبعية التي تلزمها بها العمالة الأجنبية في البلاد. فالمملكة التي اقتصر التعليم فيها بدايةً على الكتاتيب التّي تشرح علوم القرآن وتفسّر أحكام الشريعة، وجدت نفسها لاحقاً أمام مأزقٍ لا تحسد عليه. أجانب يسيطرون على مرافق العمل في البلاد، ويتحكمون بتفاصيل سوقها، وسعوديون يعانون من بطالة ولا يجدون غير فرص عملٍ محدودة تتلاءم مع ما تشرّبوه في المدارس من معلومات، أو هم مجرد صورة تسكن مراكز وظيفية عليا تتعلّق بالشكل أكثر منها بالمضمون. ينقسم قطاع التعليم الأساسي في السعودية إلى مدارس حكومية مجانية، ومدارس أهلية سعوديّة خاصّة، ومدارس عالمية تتبع مناهج أجنبية تتوافق مع هوى الجاليات المقيمة على أرض المملكة. ويفصل بين هذه المدارس هوّة تظهر جلية في نوعية التعليم والخدمات التي تقدمها للطالب، إلى جانب المناهج المتبعة والتجهيزات الفنية التّي تعتمدها كل مدرسة.
مبادرات عديدة لهزّ القطاع التعليمي
أطلق الملك عبدالله مبادرات عدة لاستنهاض التعليم السعودي وتطويره. استهدفت تلك المشاريع التعليم العالي في المملكة من دون أن تشمل تحت غطائها التعليم الأساسي الذي يعد المنطلق السليم لخلق مجتمع قادر على الاعتماد على ذاته من دون الحاجة إلى حجمٍ هائل من العمالة الأجنبية. مليارات من الأموال تضخّ على برنامج الابتعاث الذي انطلق منذ خمس سنوات وأرسل حوالي ٧٠ ألف مبتعث إلى خارج البلاد للتعلّم في جامعات عالمية، نسبة مرشحة للازدياد إلى ١٤٠ ألف مبتعث في الأعوام الخمسة القادمة. والبرنامج مفتوح أمام الجنسين (يشترط فيه على الأنثى موافقة ولي الأمر، واصطحاب محرم معها يلازمها طوال فترة دراستها)، لإكمال دراستهم في اختصاصات تحتاجها المملكة.
لكن هذا البرنامج يشكّل تحدياً أمام السعودية. فإلى جانب حجم النفقات الذي يتطلبه، يعود الطالب السعودي إلى موطنه وفي جعبته الكثير من الانفتاح ورغبات التغيير التي ظلّت المملكة تحاول تفاديها في ظلّ موجة الثورات التي عمّت العالم العربي.
إلى جانب نظام الابتعاث، أقر نظام «السعودة» الذي يجبر الشركات والمؤسسات العاملة في النطاق السعودي على توظيف نسبة من السعوديين. ووضع لذلك حافز، فكلما تحققت النسبة، دخلت المؤسسة في نطاق الضوء الأخضر الذي يمنحها مزيداً من الامتيازات. وشكل هذا ضرورة ملحّة لتطوير الكوادر البشرية السعودية وأيضاً مناهج التعليم لمواكبة احتياجات سوق العمل السعودي.
مدارس سعودية خاصّة تفشل
المدارس الأهلية في السعودية هي المدارس الخاصّة المفتوحة للسعوديين فقط، وتنسجم مناهجها مع المفاهيم التي يرغب السعوديون في تلقينها لأبنائهم. يشكل الدين واللغة العربية الحصّة الأكبر من برنامجها (ثماني حصص أسبوعياً)، وتحتل باقي المواد مرتبة أدنى. يبلغ عددها حوالي 33280 مدرسة، وتجمع في صروحها حوالي خمسة ملايين طالب وطالبة سعوديين موزعين بنسبٍ مختلفة على المراحل التعليمية، من رياض الأطفال وحتى التعليم الثانوي. يبلغ قسط العام الدراسي فيها ما معدله عشرون ألف ريال، قابلة للازدياد في المناطق النائية حيث أعداد الطلاب المنخفضة. ويشتكي العديد من المستفيدين من خدماتها من ضعف مناهجها، وسوء تجهيزاتها ومبانيها، وتدني رواتب معلميها، وغلبة الطابع التجاري على تعاملاتها، وسطوة أولياء الأمور على قرارها.
نشأت المدارس الأهلية في المملكة كمحاولة للارتقاء بالتعليم الرسمي فيها ليصبح قادراً على المنافسة. لكن هذه المدارس سقطت في فخّ الربحية وتحوّلت إلى مرتعٍ للكسب وإشباع نهم المستثمرين. فالحكومة السعودية كانت قد أقرّت زيادة للراتب الشهري للمعلم يكون حدّه الأدنى 5600 ريال سعودي بعد أن كان لا يتجاوز 2000 إلى 3000 ريال سعودي، وهو لا يكفي لشراء الاحتياجات الأساسية ودفع إيجار السكن ونفقة العائلة. يقع تسديد هذه الزيادة على عاتق المدارس الأهلية التي عملت جاهدة لتأجيل تطبيقها حتى تتمكن من رفع رسوم الأقساط الدراسية على أولياء الأمور.
يدخل الطفل السعودي المدرسة في عمر السادسة كي يبدأ بفكاك الحرف. تمر اثنتا عشرة سنةً من عمره ليصل إلى اللحظة التي تُدخله الجامعة أو ملاك العمل، ليكتشف أنّ ما درسه لا يشكل له مفاتيح لأبواب المستقبل الموعودة في الوطن الأخضر. فالمملكة ترصد ميزانية ضخمة للتعليم العالي، وتجمع على أرضها 18 مدينة جامعية موزعة على أرجاء المملكة الأساسية، وهي كانت قد افتتحت قبل أعوامٍ قليلة «جامعة الملك عبدالله للعلوم التقنية» وهدفها إنشاء مركز للبحث العلمي في المنطقة يضاهي مراكز الأبحاث العالمية، واستقطاب العقول الأجنبية من أجل تحريك عجلة التطوّر العلمي الذي ترغب السعودية في ريادته. إلى جانب ذلك تدفع المملكة راتباً لطلابها كي يتعلموا، فتمنحهم بدلاً مالياً يكفي لإعالة عائلة المتعلم إن وجدت. كما تحجز لهم مقاعد في أرقى جامعات العالم، وتملك في جعبتها الكثير من المنح، ما يجعل أيّ طالب راغب في متابعة الدراسة كنزاً ثميناً لتلك الجامعات.
لا تتوفر هذه الامتيازات لقطاع التعليم الأساسي. فالمناهج التي طوّرت في السنوات الأخيرة بالاستعانة بخبرات عالمية لم تنفذ بالطريقة المطلوبة نظراً لغياب التدريب والتأهيل للكوادر التعليمية من معلمين ومعلمات. وبالرغم من أنّ المجال التعليمي يستوعب أكبر عدد للموظفين السعوديين من الرجال والنساء، لم يحظ بالإقبال المطلوب عليه بسبب النظرة الدونية التي تلاحق «المعلم»، ولانخفاض الحوافز المادية والمعنوية، ما يقف حائلاً دون وجود معلمين متميزين قادرين على النهوض بالوضع التعليمي في البلاد.
فالنقص الذي يعانيه الطالب السعودي قد لا يظهر بشكلٍ واضح إلاّ في المراحل التعليمية العليا، سواء بقي في المملكة أو جرّب الجامعات الأجنبية. نقصٌ حادٌ في التواصل باللغة الأجنبية، وتعليم سطحيّ للعلوم الأساسية (ومنها الفلسفة وليس فحسب الفيزياء!) التي تشكل المنطلق الأساس لأيّ اختصاصٍ جامعي. ولا يبدو توافر المال الشرط الأساس لقيام نظامٍ تعليمي تطمح إليه أيّ دولةٍ في العالم، بقدر ما يعدّ تضافر الجهود بين قطاعات التعليم المختلفة، التي تبدأ من رياض الأطفال لتصل إلى الدراسات العليا، هو الأهم.
ومن جهة أخرى، هناك نقص في تأمين الكادرٍ التدريسي لكافة المدارس المنتشرة في الأماكن النائية وأطراف المدن. ويقال إن الصعوبة تكمن في اتساع مساحة المملكة، أو في أعراف الحياة الاجتماعية. فالمعلمات لا يتنقلنّ اليها إلاّ بإذنٍ من أولياء أمورهن. والمعلم قد يتراخى في رسالته أمام جسارة المهمة وتدني الراتب مع زيادة متطلبات الحياة الاجتماعية. فبرغم وجود أعداد هائلة من المعلّمات الباحثات عن فرص عمل، ووجود نقص حاد في الكادر التعليمي للعديد من المدارس الأهلية، فإن حجم العرض وحجم الطلب، وكلاهما كبير، لم يلتقيا ويتكاملا.
مدارس عالمية تساهم في توسيع الهوّة
المدارس العالمية في السعودية هي تلك المخصّصة للأجانب المقيمين أو للسعوديين من أمهاتٍ أجنبيات. لا علاقة لوزارة التربية والتعليم بها إلاّ بتطبيق الشروط الأساسية التي ترفض المملكة خرقها، كوجوب الفصل بين الذكور والإناث، وتعليم الدين واللغة العربية. تختلف مناهجها كلياً عن مناهج المدارس الأهلية والحكومية، كما تعلو أقساطها لتصل الى حدود خيالية أحياناً. يدفع المستفيدون من خدماتها المال لقاء تعليم أبنائهم مناهج بريطانية أو أميركية، يرون فيها بداية الطريق الصحيح. يغرّد طلابها، حتى السعوديون منهم، على موجةٍ مختلفة ومناقضة للصورة المحافظة التي تحاول المدارس الأهلية إرسائها. كما يشكل طلابها حجر عثرة في وجه طلاب التعليم الحكومي والخاص السعودي. فهم الأقدر على تحقيق الشروط التي يتطلبها سوق العمل. تركز المدارس العالمية على اللغة الأجنبية، وتتجنب الخوض في شؤون الدين والعقيدة إذ لا يمكن لمكانٍ يحوي كافة الأديان والمذاهب أن يطرح مثل هذه المواضيع... تشكل تلك المدارس غصّةً في حلوق الطامحين إلى قيامة تهزّ أركان التعليم وتجعل المدارس السعودية قادرة على منافستها. يكتفي السعوديون بالتأمل في الطلاب الذين يرتادون المدارس العالمية. هم يعرفون تماماً أن فرصتهم أكبر من فرص هؤلاء، لأن دولتهم تحمي ريادتهم بغض النظر عن الكفاءة. وهذا في نهاية المطاف ليس حلاً فعلياً. فنوعية تعليمهم تقلقهم. وهذا بداية الطريق للتغيير.