فكرة

زفاف

القصة الاخيرة من مجموعة تروي عبر مشاهد متعددة ومواقف مختلفة، اليمن اليوم بكل اكتظاظه، وفظاعة الحرب التي تدمره.

ريم مجاهد | 29 آذار / مارس 2018 | من دفتر اليمن بعدسة ريم مجاهد
هبة العقاد - سوريا

واحد، اثنان، ثلاثة، هوف! في المحاولة الثالثة دائماً ما يبدأ تشغيل المولد الكهربائي. أنتظر بصمت، مستلقية براحة تامة على الفرشة القاسية للمجلس في ديوان بيتنا. بعد ربع ساعة بالتمام والكمال سيضيء الزر الأخضر لمودم الانترنت، وبعدها بخمس دقائق سأكون قادرة على استقبال الرسائل على هاتفي، سأعود إلى الحضارة من جديد. حتى ذلك الوقت، أنا مستلقية، لا آبه، لا لأخي الذي عبر من باب الشرفة راكضاً إلى المطبخ ليغسل يديه، ولا لأمي المستمرة في حديث أبدي على الهاتف، ولا لأخي الآخر الذي كان يتمنى لو أن قوة المولد الكهربائي كافية لتشغيل المكواة، وكان هذا أغرب ما عبر أذنيّ من حديث، حتى أني توقفت للحظات عنده: لماذا بحق الله يريد تشغيل المكواة؟ يبدو لي هذا غريبا وتافها لأقصى حد.

تجلس أختي بجانبي، أرمقها بطرف عيني، أعرف ماذا تفعل وبمَ تفكر. كنا نشاهد التلفاز، أمي تشاهد التلفاز، أختى مشغولة بدفتر ملاحظاتها الصغير، وأنا كالعادة بهاتفي المحمول، أحب العصريات الهادئة، حيث لا قصف ولا رصاص، والتلفاز يضيء الغرفة بألوانه، وإخوتي وأبي بعيدين بدرجة كافية لأشعر بالحرية والسكينة، وأختي الكبرى مع أبناءها بعيدة أيضا، أحب هذا الوجود المكتمل لحواسي الخمسة، أفكر برضى، وتمرر أختي القلم على المهمة رقم 37:
-    حجز الأكل من المطعم.
يعبر القلم مباشرة في عينيّ بخط مستقيم وأختي منهمكة تماماً، أعلق بدون وعي: "لكنك لم تحجزيه بعد!"، تلتفت إليّ مدهوشة، هالتين سوداوين تحيطان بعينيها الصغيرتين، كان هذا السمار بسبب اللثام حيث كل شيء مخبأ عدا مساحة العينين تشويها الشمس والأحزان، وأختي تكافح بصبر لتتخلص منها ولا تستطيع. زفافها بعد أيام قليلة، ونحن في حالة طوارئ بسبب هذا، والمسكينة توقفت عن الأكل لتجد وقتا لتعتني بهالاتها السوداء، لحمامات الزيت اللانهائية لشعرها، لمقشرات الجلد ومعطراته. كان الزفاف حلقة مرعبة من التعذيب والإجهاد، وكانت قائمة مهامها على الدفتر الصغير تنقص لتزيد بعد اتصال  من صديقاتها أو أخوات زوجها. وأيضا كان هذا غريبا بالنسبة لي، فبينما يسترخي زوجها بلحيته الكثيفة يمضغ القات ويدخن الشيشة، كانت هي تعتني بأصغر مسامات جسدها لتبدو جميلة بشكل أكبر مما هي عليه.

مقالات ذات صلة

"ايش؟"، تسأل أختي بنفَس بطيء. أشرح أني قرأت الملاحظة، وترد أننا ذاهبتان في التو واللحظة لنحجز الأكل. كنت أعرف أننا ذاهبتان لكني استغربت كيف شطبت المهمة قبيل إنجازها. احتفظت بالفكرة لنفسي ولم أتحدث، عدت لهاتفي، أحدى المضافات لدي على الفيسبوك، فتاة جميلة مغرورة، دائما ما تضع صورها وهي تتزلج على الجليد أو تطير في الفضاء، فتاة لا تطاق، لكنها تكتب أشياء واقعية جداً، واليوم وضعت صورا لمنزل فخم، وكتبت بعنف، كيف أنهم اقتحموا منزلها في عدن وسرقوا أشياءهم: "حتى ملابسنا"، كتبت. ومرة أخرى بدا لي هذا بعيدا وتافها، لا يمكنك أن تتزلجي على الجليد وتقفزي من على الطائرات في سماء لندن ثم تشتكي أنهم سرقوا ملابسك، من أنتِ؟ تخطر لي فكرة أن أكتب لها: تستحقون هذا أيها السفلة!، لكني أكتب لها: يحتاجونهم أكثر منك، وأضحك بصوت عالٍ بينما تكبر فجوة تشبه الخوف في أحشائي.

أفكر كيف في ذروة الحرب يمكن أن تجد أناساً تشتري وتبيع وتفتح محال جديدة، وأناس تتزوج وتتمظهر بأعراس كما تفعل أختي التي تجلس شاردة بجانبي..

أرتدي عباءتي، مازال جسدي يرتجف، لم أكن خائفة لكن شعوراً غريباً يتملكني عندما انخرط في حرب مع أحدهم. الفتاة اللندنية افترستني تماما في التعليقات ووقف الجميع في صفها. هذا عالم من الخراء، هكذا أفكر، مؤمنة تماما بصدق وصواب ما قلتُ. يهتز هاتفي فأهرع، كانت رسالة على الواتساب من ابنة خالتي، قرأتها ثم دلفت إلى الديوان، حيث أمي تشاهد التلفاز وتلوك قاتها: أماه! تلتفت: ها حبيبي؟ تقولك مروى، ابن اختك رجعوه من أبواب عدن، لم يصل لعدن من الأساس، وكاد أن يٌقتل، والآن أختك مريضة. وبكل حواسي انتبه لردة فعل أمي، كنت أيضا حزينة. توقف ارتعاش جسدي، ارتفعت يد أمي لتضرب على صدرها، وبدأت تنوح كأنها فقدت ابن أختها فعلياً، ثم صدعت بالأمر: اتصلي بخالتك فورا!

تعبر الحافلة شارع الدائري، سأمشي مغمضة العينين من هنا. أحفظه عن ظهر قلب، لذا لفت انتباهي التغيير الذي حدث، كانت هناك "ملحمة"، مكان بيع اللحوم، وبجانبها بقالة صغيرة، اختفتا واستبدلتا بمحل واسع لبيع الأثاث المستخدم، وأمام المحل وعلى كنبة بيج عريضة، يسترخي كهل يمضغ قاته على مهل، بينما يحوم حوله شابان أسمران. توقفت الحافلة لأكثر من خمس دقائق في الزحام، وصرفت الخمس دقائق كاملة أنظر إليهم ولمحلهم الجديد، وأفكر كيف في ذروة الحرب يمكن أن تجد أناساً تشتري وتبيع وتفتح محال جديدة، وأناس تتزوج وتتمظهر بأعراس كما تفعل أختي التي تجلس شاردة بجانبي. كان الشابان يخرجان أثاثا ويدخلان آخر. الشمس ما زالت تلسع، وستقيه من العفن في الداخل. تلتقي عيناي بعيني الكهل، فأتصنع أني أصلح لثامي، وأمسح بأصابعي على أجفاني.

في المطعم تكمل أختي نقاشها حول الطعام، بينما أقف بجانبها أتامل في الناس قلقة من رائحة الطعام التي ستعلق في عباءتي، كان هناك فتى نحيل يقف غير بعيد منا، يناقش رجلا بصوت واطئ، يشرح الفتى أنه قام بتنظيف كل شيء وأن خالد كانت مسئوليته تنظيف قسم السيدات في مساء الأمس، لكن خالد لم يفعل، ما اضطره اليوم للعمل بشكل مضاعف. ورغم أن الفتى يتحدث بصوت غير حاد، إلا أنه استمر في عقد جاحبيه كالغاضب، وكانت عيناه غائرتان، وجسده هزيلا، وبين فينة وأخرى يمرر كفه على ساعده بالحركة اللاإرادية التي يفعلها من يحس البرد. كنت أتأمل فيه، وأحَس هو بنظراتي فإلتفت إلي، ولأني استمريت في التحديق فيه، إعتقد هو أني ربما احتقره. وكنت فعلا أتأمل ملابسه التي لم تكن تتضمن شيئا مناسبا للجو البارد. نظر إليّ بوقاحة، ثم استدار مبتعدا حاملاً أدوات التنظيف، أودعه بتنهيدة الأسى وأهمس: أنا آسفة.

تتنقل أقدامنا على تلال الخراب، نعلو ونهبط. ربما هناك أشلاء تحت هذه الأنقاض. ترعب الفكرة أختي وتصيبني بالخواء والحزن، كنا نرفع عباءاتنا كيلا تتسخ. التقطتُ عصا وجدتها في طريقي، وبدأت أزيح بها الأشياء التي أمامي.

في الحافلة المتجهة لعطان، أفكر أن أسأل أختي أسئلة محرجة، من قبيل ما هي توقعاتها لليلة عرسها. كانوا يلقبونها بالغبية، وبأني أعرف أكثر منها، لكنها جميلة وكان هذا كافياً لتتزوج بسرعة، غيرت رأيي ولم أسألها. كانت تتحدث عن خالتي، بعثتنا أمي مع مبلغ من المال، لننقذ خالتي وأبناءها من الهلاك جوعاً، كانت أمي أكثر حظا من خالتي، أبي ما زال يتقاضى راتبه من قطاع الضرائب ونمتلك بيتا، بينما تغرق خالتي مع زوجها وأبناءها في بحر من العوز. وأنا أحب خالتي كثيرا، أحبها لدرجة أني أبكي من ألمي عليها، وهي تعرف ذلك وتبادلني الحب ذاته، لكن ما نفع الحب مع الفقر؟ لا شيء، نحب جميعا ولا نبيض مالا لنساعد به من نحب. أخرج بنتيجة أن خالتي كانت لتفضل أن أهبها مالا عوضا عن هذا الحب الفاشل. كما أحب أختي الجالسة بجانبي بقلقها الأبدي ولا أستطيع إزالة هالاتها السوداء أو إيقاف الحرب لتنعم بحفلة زفاف طبيعية. كان لديها كابوس أن يقصفوا قاعة زفافها وتتخيل المنشور المتداول على الفيسبوك: قصف قاعة زفاف النساء، ومقتل العروسة مع كل عائلتها وصديقاتها والمتحدث باسم التحالف يصرح أنه كان هدفاً خاطئاً.

مقالات ذات صلة

حين العودة من بيت خالتي، اقترحتُ على أختي أن نمر بالمنطقة المدمرة بفعل القنبلة الفراغية التي أسقطها الطيران السعودي على صنعاء، نتذكر الحادثة معا ونرتجف، لن ينسى ساكنو صنعاء ذلك النهار، لن ننساه لأنه كان جديدا وغريبا كالحرب بمجملها، خافت أختي واعترضت، قلت لها أن لا شي سيحدث، ليس هناك طائرات الآن ولن يقصفوا قبل أن يحل الظلام، دعينا نلقي نظرة على الخرابة. لم تستطع أختي الرفض أمام إلحاحي الغريب. توجهنا خائفات، كان المكان خاليا إلا من قليل من المارة المسرعين دون وجهة، كانت صنعاء دافئة في الأسفل رغم البرد لأن الشمس لم تغرب بعد. تتنقل أقدامنا على تلال الخراب، نعلو و نهبط، ربما هناك أشلاء تحت هذه الأنقاض. ترعب الفكرة أختي وتصيبني بالخواء والحزن، كنا نرفع عباءاتنا كيلا تتسخ، التقطت عصا وجدتها في طريقي، وبدأت أزيح ا بها لأشياء التي أمامي، علب فارغة، ملابس ممزقة، بقايا أدوات كهربائية، بقايا أثاث، ثم صادف أن انتبهت لقطعة ملابس مرمية لكنها لم تكن غارقة في تراب الأنقاض. رفعتها بعصاي، كانت بلوزة خضراء اللون، مزهرة بزهور بيضاء باهتة، قماشها قطني، وعلى أطرفها دانتيل أبيض. لكن لونها قد حال بفعل الشمس والمطر فيما يبدو. قلت لأختي : مؤكد أن صاحبة هذه البلوزة قد شبعت موتاً، إما تحت الأنقاض وإما في مقبرة السبعين، تخيليها؟ صبية فقيرة سمراء وغير جميلة، ولديها دزينة أخوة.. ربما من المهمشين؟ أختي كانت منشغلة تماما بطريق العودة ولم تكن لتتخيل بأي حال، فكل هذا يخيفها.

ريم مجاهد


كاتبة من اليمن

ريم مجاهد


كاتبة من اليمن

مقالات من اليمن

للكاتب نفسه

رثاء...

ريم مجاهد 2023-07-06

"صلاح" لم يكن ابن أمي الوحيد، لكن أمي كانت - تقريباً - عالم صلاح الأوحد. هذه العلاقة التي تُسلّم بها العائلات التي تحظى بطفل/ة من ذوي الاحتياجات الخاصة... يعرف الجميع...