دخلت أنظمة ما قبل «الربيع العربي» العولمة باكراً، ولو كان ذلك من الباب الضيق، وبتفاوت كبير. كان أنور السادات أول من رفع شعار الانفتاح الاقتصادي الذي نادت به «مدرسة شيكاغو» الليبرالية، هذه التي كانت التشيلي بعد اغتيال إلينده أول من طبق قواعدها.
إلا ان نجاح السادات كان محدوداً جداً بالمقارنة مع نجاحات التشيلي آنذاك، فلم يتمكن الرئيس المصري من رفع الدعم عن السلع وفق النسبة الكبيرة المطلوبة، واصطدم في كل مرة بالشارع المنتفض، واشهرها ما وقع عام 1977، التي اسماها السادات «انتفاضة الحرامية»، تماماً كما حصل مع مبارك بعد ذلك. والمؤكد أن أنور السادات كان أقل وحشية من الجنرال بينوشيه في قمع الشارع، بل عمد إلى التراجع عن معظم القرارات التي اتخذها.
النيوليبرالية تنتشر وتعم
وقبل نهاية عقد الثمانينيات من القرن الماضي، بدأت كل الكرة الأرضية تطبق مبادئ الليبرالية الاقتصادية وفق وصايا «توافق واشنطن». حدث ذلك في أميركا اللاتينية والمنطقة العربية وأوروبا وبعض دول شرق آسيا. فتخلت أميركا اللاتينية عن ديكتاتورياتها لمصلحة أنظمة يمينية متواطئة مع الولايات المتحدة، عمدت إلى فتح الحدود والخصخصة، والتخصص بالتصدير للولايات المتحدة. كانت نتيجة ذلك ما سمي «بالعقد الضائع». إذ راكمت أميركا اللاتينية الديون من دون ان تتمكن من تصنيع البلاد، فارتفع النمو الاقتصادي المبني على الاستهلاك، تماماً كما حصل في تركيا بدءاً من سنة 2002، بينما كانت المنطقة العربية هادئة نسبياً (من الناحية الاقتصادية)، ولم تكن الدول مدينة للخارج. والحقيقة ان «العولمة الليبرالية» استطاعت ان تخرق إلى حد نسبي الدكتاتوريات في المنطقة العربية في التسعينيات، إلا ان أثرها كان محدوداً جداً، إذ ان الرساميل لم تدخل بكثافة إليها، وبقيت محصورة في القطاع المالي والسياحي، من دون ان تطال بشكل واسع القطاع الصناعي أو الزراعي. أما الانفتاح الحدودي، فبقي محدوداً جداً، ولم يتعد استيراد بعض المواد الاستهلاكية من سيارات وحديد وثياب... الخ. لكل تلك الاسباب، فعندما وقعت الأزمات في أميركا اللاتينية ـ التي حولت كل الأنظمة تقريباً إلى أنظمة يسارية معادية للولايات المتحدة ـ لم تطل حينها هذه الموجة الأنظمة العربية، فبقي الفرعون فرعوناً والملك ملكاً والأمير أميراً في قيادة الدول.
ثلاثة اسباب لزعزعة الانظمة العربية
إلا ان هذه الحماية النسبية للأنظمة العربية في العقدين الماضيين لم تكن لتصمد أمام ثلاثة متغيرات أساسية أدت إلى زعزعة أرضيتها كلها، عدا تلك منها النفطية:
1 ـ سمحت الخصخصة وفتح الحدود للمواد الاستهلاكية، بظهور طبقة جديدة من الأغنياء ذوي الغناء الفاحش (ثرواتهم تعد بالمليارات) في كل الدول العربية. وحدث ذلك بسرعة مذهلة. وهي طبقة مشاركة للرأسمال الأجنبي، إذ كان أكثر افرادها وكلاء لشركات الهاتف النقال، والبناء، والسياحة، والمصارف، أي كل ما ليس له علاقة بالقطاعات الإنتاجية الصناعية والزراعية، حيث بقيت هذه الأخيرة تعتمد إلى حد كبير على القطاع العام ورأس المال الوطني الخاص. فالقطاعات المحلية الإنتاجية هُمِّشت وانخفض نصيبها سريعاً من الدخل القومي. وبالطبع، فقد تمت تلك التحولات بمباركة من صندوق النقد الدولي الذي كانت كل تقاريره تمتدح الأنظمة العربية وتشجعها على تكملة وتسريع المشوار الليبرالي.
2 ـ ارتفاع أسعار الطاقة من نفط وكهرباء وغاز، بشكل كبير وسريع بين عامي 2003 و2008، ما أفقر الدول غير النفطية، خاصة وأن جزء من الدعم والمساعدات الحكومية يذهب الى هذا القطاع والجزء الثاني يذهب لدعم المواد الغذائية. وعلاوة على الأزمة الكبيرة التي عصفت في مجمل الكرة الأرضية عام 2008، والتي أدت إلى انخفاض تصدير البلدان غير النفطية والرساميل الداخلة، فهناك
الفساد الكبير الذي طال كل المستويات.
ويمكن الاستنتاج أن أحد أسباب «الربيع العربي» هو الخلل الكبير الذي وقع بين الأنظمة وقواعدها التاريخية، نتيجة الحلقة الأولى من «اللبرلة». فقد أهمل هذا النموذج الفلاحين وأرياف المدن التي شكلت في السبعينيات من القرن الماضي قاعدة الأنظمة، أي انه عمق الشرخ بين الفئات التي يعتمد عيشها على الداخل والفئات الأخرى التي يعتمد دخلها على الخارج (استيراد ـ سياحة ـ وكالات). ولم يكن هذا الشرخ الناتج عن «اللبرلة» متساويا بين كل الدول. فالنظام الجزائري مثلا سلك هذا الطريق متأخرا نسبياً، بينما دخلت مصر وتونس العولمة منذ أكثر من عقدين.
تجديد الانظمة؟
ما كانت الأنظمة العربية لتستطيع ان تكمل المشوار بشكلها السياسي كما كان قائماً، تماماً كما لم يكن من الممكن ان يستمر بينوشيه بقمع شعبه في السبعينيات من القرن الفائت، أو الجيش التركي في التسعينيات منه. خاصة وان الأنظمة الغربية الداعمة لهذا الاتجاه أُحبطت بسبب بطئ وتيرة الانفتاح في بعض الدول العربية والفساد الكبير في دول أخرى. لذا كان لا بد من لإطار جديد قادر في آن على امتصاص النقمة الشعبية وعلى متابعة المشروع الليبرالي بشكل أعمق وأسرع. وهو ما فتح المجال أمام وصول حكومات إخوانية الى السلطة بعد قلب رؤوسها القديمة. وقد لبست هذه القوى رداء الديموقراطية والليبرالية، وطرحت نفسها بديلاً عن الأنظمة السابقة، غير الديموقراطية، التي لم تتمكن من التخلي كلياً عن القطاع العام وعن دعم المواد الأولية، الغذائية والنفطية. وهي تتموضع تماماً كما تموضع حزب العدالة والتنمية في تركيا، فالثورة هي «إسلامية /ليبرالية /ديموقراطية»، وكل ما هو غير ذلك «مضاد للثورة»، خاصة إذا لم يكن مدعوماً من تركيا ودول الخليج. فالإخوان في مصر والنهضة في تونس مشاريع ليبرالية جديدة تبناها الغرب وصندوق النقد الدولي (موقتاً!)، على ان تتطور على مثال النموذج التركي. هذا ما «باعته» للغرب السلطات الجديدة، وقطر وتركيا!
لكن الظاهر ان المنحى والتطورات تذهب باتجاه ما حصل في أميركا اللاتينية وليس ما حصل في تركيا. إذ اصطدمت الحكومات اليمينية في فنزويلا والأرجنتين، وسواهما ... الخاضعة لصندوق النقد الدولي، بالقوى الشعبية التي أوصلت ،كردة فعل، لولا وشافيز وموراليس وقبلهم ألينده... الخ. والمفارقة ان القاعدة الشعبية للأنظمة العربية الجديدة هي المتضررة أصلاً من الليبرالية الجزئية التي نفذتها الأنظمة السابقة. فالأنظمة الجديدة، تمثل النقمة الشعبية التي ستتضرر أكثر من الاتجاهات الاقتصادية التي يطمح مرسي والغنوشي الى تنفيذها، خاصة ان ذلك سيتم من خلال تعاظم نفوذ دول الخليج التي تستطيع ان تنفق حوالي الـ200 مليار دولار من الفائض سنوياً لإسقاط أو دعم أنظمة هذه البلدان العربية الفقيرة.
الأنظمة الجديدة ضعيفة
وهي ضعيفة ليس فحسب لأنها ناشئة بل لأنها:
1 ـ لا تستطيع ان تسيطر كلياً على جيوشها،
2 ـ تحالفت مع السلفيين،
3 ـ تعتمد على الخارج (صندوق النقد الدولي وقطر والسعودية) للنهوض بالبلاد.
لذلك، يمكن القول ان الحالة السياسية والاقتصادية موقتة، وليست ثابتة أو مستقرة، وان القوى المعارضة الأخرى، الوطنية، غير الملتزمة بصندوق النقد الدولي أو غير «المستزلمة» للقوى الخارجية، ما زال لديها دور كبير تلعبه في إيجاد ديموقراطيات تراعي والأكثريات والأقليات، من دينية وعرقية، ولا تقتدي بشكل أعمى بالنظام الليبرالي الاقتصادي، الذي بدأت حتى بعض الدول الغربية تتراجع عنه.